بعد عقود من عسكرة الاقتصاد وهدر الموارد استبشر العراقيون خيراً بسقوط النظام السابق املاً بنهاية سنوات عجاف والتمتع اخيراً بثروات البلد المتنوعة في إطار نظام ديمقراطي يكفل الحقوق والحريات ويعيد الرفاه الاقتصادي لكافة فئات الشعب.
تحسن مستويات الدخول وتعافي اسعار الصرف وتدفق النفط العراقي صوب اسواق النفط العالمية من جديد، كانت اسباب معقولة لاستئناف عملية التنمية الاقتصادية التي توقفت رحاها اواخر عقد السبعينات من القرن الماضي. عزز ذلك عودة شريحة واسعة من العلماء والخبراء العراقيين المغتربين للانخراط في جهود اعمار وبناء الاقتصاد العراقي المنهك جراء عقود من الحروب والتخريب وسوء الادارة الاقتصادية للبلد.
الا ان العراق لا يختلف كثيرا عن جيرانه شيوخ النفط، في انتاج طبقة سياسية فاسدة تعتاش على ثروات البلد النفطية وتكرس لمزيد من الاقصاء والتهميش للنخب والكفاءات المستقلة من كافة التخصصات، ليسهل على الاحزاب السياسية الحاكمة التحكم بالموارد والامتيازات على حساب تحقيق التنمية والاستقرار الاقتصادي. فالتوافقات السياسية، وبولادة قيصرية، انتجت حكومات مشوهة بمختلف المعايير، كانت موفقة في هدر عقد من التنمية ودفع الاقتصاد الوطني صوب الهاوية، رغم توفر كافة متطلبات التنمية من موارد بالنقد الاجنبي، فوائض مالية، موارد بشرية، استقرار اسعار الصرف، امكانات زراعية وصناعية وسياحية، شريحة من التكنوقراط بخبرات محلية ودولية...الخ.
ملامح التصدع الاقتصادي
عقد من الفساد والمحسوبية وضعف الحكومات في ادارة الملف الاقتصادي خلف حزمة من التحديات الاقتصادية وعمق ما كان قائما منها، لتزيد بذلك خطوط الصدع الاقتصادي، اهمها:
1- هشاشة الوضع المالي في البلد بسبب تدهور اسعار النفط وضعف جهود الحكومة في توفير موارد مالية بديلة قد يدفع البلد الى الجزء الحاد من الازمة خصوصا مع ضخامة تكاليف الحرب ضد داعش وتفاقم ملف النازحين والمهجرين.
2- انعدام الامن الغذائي في البلد بسبب اعتماده المفرط على الخارج في تلبية احتياجات المواطن المختلفة، وفقدان القدرة على إنتاج أبسط السلع وتحول الاقتصاد العراقي إلى سوق كبير لمختلف السلع الاجنبية، مما يهدد نمط الاستهلاك للمواطن ويربط مصير الاسرة بعدد من العوامل الداخلية والخارجية كأسعار الصرف والعلاقات السياسية مع دول الجوار (تركيا وايران تحديدا).
3- تفاقم معدلات البطالة في العراق بما يفوق 30% من اجمالي السكان القادرين على العمل مما يغذي من الاتجاه الانكماشي للأسواق المحلية ويزيد من معدلات الفساد والانخراط بالجريمة والارهاب، فضلا على بروز بطالة الخريجين والناجمة عن الانفصام القائم بين مخرجات النظام التعليمي والتربوي ومتطلبات الاسواق في البلد.
4- ضعف انجاز ومتابعة السياسات الاقتصادية اللازمة لحث وتنشيط القطاع الخاص ليأخذ دوره المأمول في تحريك الاسواق واستيعاب الايدي العاملة. فلا يزال الافتقار للتمويل اللازم والقوانين المحفزة والحماية الجمركية عقبات تكبح انطلاق القطاع الخاص في العراق.
5- تدهور المستوى المعيشي لشريحة واسعة من الشعب ينذر بارتفاع مستويات الفقر في البلد لقرابة 40% في عام 2020 خصوصا مع اخفاق برامج شبكة الرعاية الاجتماعية في مد يد العون لجزء كبير من الطبقات الفقيرة لما يعتري تلك البرامج من شبهات فساد مالي واداري.
6- غياب خطط وسياسات التنمية الاقتصادية المستدامة، وضعف تنفيذ ومتابعة ما اعد منها، واعتماد الحكومة العراقية على الحلول الترقيعية (كالاستدانة) في معالجة الصدمات الاقتصادية التي تنتاب البلد بشكل مستمر بسبب اختلال الاقتصاد العراقي واعتماده على النفط في تمويل الموازنة والاقتصاد.
7- التوقف شبه تام لمعظم القطاعات الاقتصادية في البلد (باستثناء قطاع النفط) وضعف السياسات الحكومية في تحريك هذه القطاعات رغم امتلاك الدولة لمعظم المؤسسات الانتاجية ورفدها بالتمويل واليد العاملة منذ سنوات.
8- الفساد المالي والإداري الذي يدب في معظم مفاصل الدولة زاد من محنة الاقتصاد العراقي وقلص الامل في استئناف عملية البناء والاعمار، خصوصا مع تحول الفساد والمحسوبية الى ثقافة تنخر كافة المؤسسات الحكومية (ودون استثناء)، مع ضعف القضاء والمؤسسات الرقابية الاخرى في التصدي له لاعتبارات سياسية في الغالب.
9- على المستوى السياسي، لم يدعم المناخ السياسي والتشنج الطائفي لدى الطبقة السياسية الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي والمالي في البلد؛ بسبب التوقعات المستمرة بانهيار العملية السياسية أو حدوث انقلاب سياسي يطيح بالحكومة ومؤسساتها. من جانب آخر، ألقت المحاصصة السياسية بظلالها على المشهد الاقتصادي، من خلال إبعاد ذوي الخبرة والاختصاص من كافة الوزارات والمؤسسات الاقتصادية والمالية لصالح طبقة من السياسيين المتلهفين للمال والسلطة، مما زاد من انحراف وتدهور عمل هذه المؤسسات في تحقيق اهدافها المرسومة.
النفط والاقتصاد والسياسة
يعد المورد المالي عاملا رئيسا في عملية التنمية الاقتصادية لأي بلد، الا ان دراسات حديثة بينت وجود علاقة عكسية بين تدفقات النقد الاجنبي وعملية التنمية في البلدان النفطية نظرا لضعف الحافز على العمل والانتاج والاتكال على الصادرات النفطية في تمويل الموازنة الحكومية وتحقيق النمو.
لم يختلف الاقتصاد العراقي كثيرا عن هذا الواقع، فقد خلفت سنوات من وفرة المورد النفطي مئات المؤسسات الانتاجية المعطلة وملايين من الفقراء والباحثين على العمل. ولم يستفد البلد من موازناته الانفجارية حتى في توفير بنية تحتية مناسبة تليق بمكانته في سوق النفط العالمية. مما يؤكد بان ضياع جهود التنمية لم يكن لشحة الموارد بل بسبب سوء ادارة الاقتصاد والناجم عن هيمنة طبقة سياسية فاسدة (بمختلف المقاييس) على مؤسسات الدولة. وللأسف زادت ثروة العراق النفطية من تجاذب الاحزاب السياسية على المناصب العليا والدنيا في البلد وعززت من بطش وفساد الاحزاب الحاكمة لإحكام السيطرة على موارد البلد ونهب خيراته.
ويشكل تضافر التحديات السياسية والأمنية بالاقتصادية طوقاً يعيق فرص العراق في تحقيق الامن والتقدم والرفاه وانجاز التنمية الاقتصادية المنشودة. ارث النظام السابق وافتقار النخب السياسية للخبرة والكفاءة في ادارة الدولة وتكالب الاحزاب السياسية على المال والسلطة في العراق، كلها عوامل عمقت من اختلال الهيكل السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلد.
تزامن ذلك مع تحول العراق الى مسرح دموي لصراع طائفي اقليمي دولي حاد تكاثر بفعل انعدام مفهوم المواطنة لدى احزاب السلطة والانكفاء باتجاه المذهب على حساب الهوية الوطنية.
قتامة المشهد الامني والسياسي في العراق مع اختلالات هيكلية متأصلة وموروثة، ابرزها الادمان على النفط وتفشي ثقافة الفساد المالي والاداري وضعف الادارة الاقتصادية كانت عناصر حاسمة في تعميق خطوط الصدع وهدر الامكانية الاقتصادية والمالية للبلد.
ان حدة الصدمات الامنية والاقتصادية والتحديات الاقليمية التي تواجه العراق وتهدد وحدة أراضيه ونسيجه الاجتماعي وارثه الاخلاقي تلزم الاحزاب السياسية بإعادة النظر في قواعد تشكيل العملية السياسية والتخلي عن المصالح الحزبية والفئوية لصالح استهداف الثوابت الوطنية من امن وسيادة ورفاه لأجل انقاذ البلد من انقسام محقق وانهيار اقتصادي محتمل قد يطال معظم مؤسسات الدولة.
اضف تعليق