شهد العام الماضي جملة من التحديات الاقتصادية التي انذرت بحق دخول الاقتصاد العالمي نفق الركود الاقتصادي. جهود الحكومة الصينية المبذولة لاستعادة التوازن الاقتصادي محليا واعادة تركيب محرك النمو باتجاه الاقتصاد المحلي بدلا نموذج النمو المعتمد على التصدير، تدهور الاقتصادات النفطية نتيجة انهيار اسعار النفط الخام دون النصف، ازمة المديونية في عدد من دول الاتحاد الاوربي، كلها مؤشرات تدعو للقلق من انزلاق الاقتصاد العالمي نحو ركود اقتصادي طويل يكبح الجهود الدولية الرامية لتعزيز النمو والاستقرار الاقتصادي.

فلا يزال ضعف وتقلب النمو الاقتصادي العالمي، والناجم عن هبوط مستويات الطلب الكلي وانخفاض مستويات الانتاجية وتدهور معدلات الاستثمار والتشغيل بسبب الافاق التشاؤمية لمستقبل الولايات المتحدة واوربا والاقتصاديات الصاعدة، يثير مخاوف المختصين وصناع القرار حول مدى نجاعة السياسات الاقتصادية المعتمدة في امتصاص زخم الصدمات الاقتصادية المتكررة ودفع الاقتصاد العالمي لمزيد من النمو والاستقرار الاقتصادي والمالي.

في سياق ذلك يمكن رصد جملة من التحديات التي تعيق انطلاق وتعافي النمو وتهدد افاق الاستقرار الاقتصادي والمالي العالمي، لعل أبرزها:

# اعادة توازن الاقتصاد الصيني

ولدت الازمة المالية العالمية عام 2008 مضاعفات اقتصادية لا تزال تعاني منها معظم بلدان العالم وخصوصا الصين حيث دفعت معدلات النمو المتباطئ صناع القرار في الصين الى اعادة التوازن الاقتصادي من خلال تحويل محركات النمو من التصنيع والصادرات الى السلع والخدمات للاستهلاك المحلي. هذا التحول خلف تأثيرات بعيدة المدى على ديناميكيات الاقتصاد الصيني في المستقبل.

يشير هذا الواقع إلى تحديات جوهرية مقبلة رغم الإمكانيات الاقتصادية الكبيرة التي يتمتع بها المستهلكون الصينيون. فبادئ ذي بدء، تُعَد التنمية الاقتصادية القائمة على الطلب المحلي المتنوع أكثر تعقيدا من التنمية القائمة على التصدير، لأن هذه القطاعات الجديدة تعتمد بشكل أكبر على الخدمات المالية المتطورة والقدرة على الوصول إلى الأسواق بقدر أكبر من الحرية والعمال الأفضل تعليما وزيادة الاستثمار في البحث والتطوير. من جانب اخر فان تباطؤ معدل التوسع الحضري، الذي لا يزال متخلفا، حتى بعد 25 عاما من النمو الذي تقوده الصادرات قد يهدد نجاح الاستراتيجية الجديدة في الصين.

# اخفاق برامج التيسير الكمي

خلال السنوات الثمان الماضية سعت السياسات النقدية في مختلف بدان العالم (الولايات المتحدة واوربا واليابان بشكل خاص) الى إنعاش الاقتصاد عبر خفض معدلات الفائدة لتحفيز الاستثمار وزيادة الاستهلاك وبالتالي تحريك عجلة النمو الاقتصادي من جديد. مع ذلك اخفقت معظم هذه السياسات في تحقيق اهدافها المنشودة نظرا للآفاق الاقتصادية المتشائمة وفقدان ثقة المستثمرين بالبيئة الاقتصادية من جهة وتحول معظم هذه الاموال الرخيصة صوب المضاربة من جهة اخرى، مما قاد الى تضخم اسواق الاصول المالية على حساب تنشيط الاقتصاد الحقيقي. وتفيد معظم تقارير صندوق النقد والبنك الدوليين الى تواضع النتائج المتحققة عن برامج التيسير الكمي التي تم اعتمادها من لدن البنوك المركزية العالمية (اوربا واليابان على سبيل المثال) وعجز الادوات النقدية (سعر الفائدة) من إنعاش الاقتصادات الوطنية عبر اثارة دوافع الاستثمار والاستهلاك واخراج الاقتصاد العالمي من تيار الانكماش الاقتصادي المزمن.

# سياسات التقشف الحكومية

لا يزال شبح التضخم الجامح والديون يطارد العديد من البلدان المتقدمة والاقتصادات الصاعدة على حد سواء مما عطل الى حد بعيد ادوات الحقيبة المالية (النفقات العامة تحديدا) في معالجة النقص الحاصل في مستويات الطلب الكلي عبر حقن الاقتصاد بجرعات مالية موجهة بشكل اساس نحو مشاريع البنية التحتية والصحة والتعليم لدعم معدلات الطلب الكلي وإنعاش الاقتصاد من جهة وتوفير البيئة الملائمة لرفع معدلات الانتاجية مستقبلا من جهة اخرى.

ويعد الاتحاد الاوربي من أبرز المعارضين لاستخدام الانفاق العام في تحفيز الاقتصاد وتعويض النقص الحاصل في طلب الجمهور، خوفا من عجوزات الموازنة وتفاقم نسب الدين العام في دول الاتحاد. وقد عبر عدد كبير من خبراء الاقتصاد والمختصين صناع القرار في الاتحاد الاوربي من خطورة التمادي في سياسات التقشف خوفا من انفجار الوضع الاقتصادي في بلدان الاتحاد (اليونان مثلا) وبالتالي انفراط عقد الاتحاد وضياع الحلم الاوربي.

# التفاوت في توزيع الدخل

تغفل معظم المؤشرات الاقتصادية الشائعة حقيقة اتساع الفجوة الطبقية في المجتمعات المتقدمة والنامية على حد سواء بسبب اعتماد الناتج المحلي الاجمالي ومتوسط نصيب الفرد منه للدلالة على مستوى معيشة الفرد في هذه البلدان. غير ان دراسات عدة (منها دراسة معهد ماكينزي) اظهرت نتائج مخيفة بهذا الخصوص، حيث تشير هذه الدراسات الى اتساع الفجوة بين الاغنياء والفقراء وانصهار الطبقة الوسطى تدريجيا وانزلاقها تحت خط الفقر مما ينذر بانحسار معدلات الطلب الكلي والتي تعد محرك النمو الاقتصادي العالمي. ان هبوط مستويات المعيشة في البلدان المتقدمة يشكل تهديد خطيرا لمستويات التجارة والنمو ويوعز بمخاطر وتحديات جمة تواجه صناع القرار في هذه البلدان.

# النزاع السياسي والسياسات المنغلقة.

أفصح تصويت المملكة المتحدة بالخروج من الاتحاد الأوروبي ونتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن تراجع خطير في توافق الآراء حول منافع الاندماج الاقتصادي العابر للحدود. فقد أدت المخاوف من أثر المنافسة الأجنبية على الوظائف والأجور في سياق من النمو الضعيف إلى زيادة جاذبية المناهج القائمة على السياسات الحمائية، وهو ما يحتمل أن يسبب تداعيات على تدفقات التجارة العالمية والاندماج التجاري بشكل أعم. وتتزايد المخاوف إزاء عدم المساواة (واستمرار اتساع الفوارق) في توزيع الدخل، الأمر الذي يزداد حدة بسبب ضعف نمو الدخل مع استمرار الديناميكية الإنتاجية المخيبة للآمال. وقد يؤدي عدم اليقين بشأن تطور هذه الاتجاهات إلى قيام الشركات بتأجيل قرارات الاستثمار وتشغيل العمال، مما يبطئ النشاط الاقتصادي على المدى القريب، بينما يمكن أن تؤدي السياسة المنغلقة إلى إشعال الخلاف السياسي عبر الحدود من خلال الغاء اتفاقيات التعاون المشترك التي تم ابرامها خلال السنوات السابقة.

في سياق اقتصادنا المعولم الجديد لم يعد للسياسات الاقتصادية المحلية البريق السابق، وأصبح للسياسات الاحادية دور عكسي وعلى نحو متصاعد. هذه الحقيقة تحتم على قادة الاقتصاد العالمي (الاقتصادات المتقدمة والصاعدة) العمل على رسم سياسات كلية موحدة تسبق انزلاق الاقتصاد العالمي لركود اقتصادي طويل يشابه في اثاره الاقتصادية والاجتماعية الكساد العظيم عام 1929.

وفي هذا الصدد يمكن الاشارة لعدد من التوصيات لعل اهمها:

1- فسح المجال لأدوات السياسة المالية لممارسة دورها الفاعل في إنعاش الاقتصاد عبر سياسات الانفاق العام في مجالات البنية التحتية والصحة والتعليم لتهيئة البيئة الاستثمارية وإنعاش الطلب الكلي وعكس مسار التوقعات.

2- للتغلب على معضلة التفاوت المتزايد في معدلات الدخل الفردي يتحتم على الحكومات اعادة النظر بالهياكل الضريبية القائمة عبر تصميم نظام ضريبي عادل يعمل على توزيع الاعباء وتقليص التفاوت وتحفيز العمل والانتاج.

3- تمتين اتفاقيات التعاون والتبادل المشترك والتخلي عن سياسات افقار الجار وتحريك اسعار الصرف لما لها من اثار عكسية قد تقضم المكاسب المتحققة منها. وخصوصا فيما بين الاقتصادات الكبرى كالصين والولايات المتحدة واوربا.

4- الحذر من افراط استخدام برامج التيسير الكمي في معالجة الازمة الراهنة نظرا لضعف النتائج المتحققة من جهة وخوفا من انتقال الازمة الى القطاع المالي بسبب تضخم اسواق المال من جهة اخرى.

5- أفصح اقتصاد القرن الحادي والعشرين عن مدى ترابط الاقتصاد العالمي وتعقد منظومة العلاقات الاقتصادية الدولية، مما يوحي بضرورة مراعاة مصالح البلدان النامية عند رسم السياسات الاقتصادية من قبل قادة العالم نظرا لما توفره هذه البلدان من طلب كلي وسلع اولية تشكل ضرورة حتمية لديناميكية التجارة العالمية واستدامة النمو والاستقرار الاقتصادي.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق