q
يمكن للإنسان العاقل العالم أن يكسب الآخرة بعقله وبعلمه، فإذا صلّى ركعتين فثوابه قد يكون أكثر من شخص يقوم الليل ويصوم النهار لكنه قليل المعرفة؛ وذلك لأن الإنسان الذي لا يحصل على المعرفة قد لا يكون على جادة الشرع، وقد لا يصح عمله أساساً نتيجة لجهله. بل يتحدد...

"العمل من دون فكر وفهم وتعقّل لا قيمة له"

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا غنى كالعقل، ولا فقر كالجهل»(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «لمّا خلق اللّه العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»(2).

وعن سليمان الديلمي، عن أبيه قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): «فلان من عبادته ودينه وفضله؟ فقال: كيف عقله؟ قلت: لا أدري، فقال: إن الثواب على قدر العقل، إن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد اللّه في جزيرة من جزائر البحر، خضراء نضرة، كثيرة الشجر ظاهرة الماء، وإن ملكاً من الملائكة مرّ به فقال: يا رب، أرني ثواب عبدك هذا(3)، فأراه اللّه تعالى ذلك، فاستقلّه الملك، فأوحى اللّه تعالى إليه: أن اصحبه، فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد اللّه معك، فكان معه يومه ذلك، فلما أصبح قال له الملك: إن مكانك لنزه، وما يصلح إلّا للعبادة، فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيباً، فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع، فإن هذا الحشيش يضيع، فقال له ذلك الملك: وما لربك حمار؟ فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش، فأوحى اللّه إلى الملك: إنّما أثيبه على قدر عقله»(4).

لقد كان يعبد اللّه ليل نهار، لكن عقله صغير؛ لذا يثيبه اللّه بمقدار عقله، وليس بمقدار عمله؛ لأن العمل من دون فكر وفهم وتعقّل لا قيمة له أو قيمته قليلة جداً.

هناك من يقول: إن المهندس الذي يشرف على تشييد بناية يأتي إلى مكان العمل لمدة نصف ساعة، ثم يجلس في أحد الغرف المكيفة ويحصل على أجور تساوي أضعاف ما يحصل عليه العامل المسكين، الذي يعمل في البناء من الصباح إلى المساء، وهذا ظلم؟

لكن هذا الأمر ليس فيه ظلم؛ لأن المهندس حصل على الأجور العالية بعلمه، أمّا العامل فقد وظّف عضلاته في أعمال البناء؛ لذا حصل المهندس بعلمه على أضعاف ما حصل عليه العامل بعضلاته.

كذلك يمكن للإنسان العاقل العالم أن يكسب الآخرة بعقله وبعلمه، فإذا صلّى ركعتين فثوابه قد يكون أكثر من شخص يقوم الليل ويصوم النهار لكنه قليل المعرفة؛ وذلك لأن الإنسان الذي لا يحصل على المعرفة قد لا يكون على جادة الشرع، وقد لا يصح عمله أساساً نتيجة لجهله.

بل يتحدد مقدار التكليف ومن ثمَّ مقدار الثواب أو العقاب بمقدار العقل فكلّما كان العقل أكبر كان التكليف أشد، ولذا فتكليف الأنبياء والأوصياء أشد من تكليف سائر الناس، ويترتب عليه ارتفاع درجتهم وثوابهم عن غيرهم.

بيّن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة سبب بعثة الأنبياء (عليهم السلام)، فقال: «ويثيروا لهم دفائن العقول»(5)، وكأن العقل مدفون تحت ركام من العادات والتقاليد والأغلال والآصار، قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ}(6)، فمن أهم مهام الأنبياء (عليهم السلام) هو إزالة الركام لكي يتحرر عقل الإنسان ويتطهر من الأدران، ولذا تكرر في القرآن الكريم، قوله تعالى: {لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ}(7) وغيره من الآيات.

والعقل موهبة إلهيّة، وهو كسائر المواهب الإلهيّة قابل للتنمية عبر آليات معروفة، ومنها طلب العلم بشرط فهم ذلك العلم والإذعان به، مضافاً إلى العمل بذلك العلم، لأن العلم من دون عمل لا ينفع العقل بل قد يضرّه، وقد سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) فقيل له: «ما العقل؟ قال: ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان، قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل»(8).

فالإنسان الداهية الذي يستفيد من دهائه ويضر آخرته ليس بعاقل؛ لأن العاقل يستطيع معرفة المنافع والمضار، ومن ثَمّ يقوم بما ينفعه ويترك ما يضره، فإذا كان أحدهم جائعاً ووجد طعاماً لذيذاً جداً أمامه وهو يعرف مسبقاً أن هذا الطعام مسموم، ومع ذلك أقدم على تناوله فهو ليس بعاقل؛ لأن العاقل يجلب لنفسه المنفعة، والمنافع الدنيوية والأخروية ودفع مضارهما لا تكون إلّا بطاعة اللّه تعالى، بمعنى أن يسير الإنسان وفقاً للطريقة التي أرادها اللّه سبحانه وتعالى، سواء في عباداته أم معاملاته أم آدابه الاجتماعية، أم في علاقاته مع الناس ومع عائلته وأبنائه.

إذا كان علم الإنسان صحيحاً فسيكون على الطريق الصحيح؛ إذ إنه سيعرف ذلك بعلمه، ثم يطبق علمه في مجالات العمل، وهذا هو الإنسان العاقل، الذي ينطبق عليه كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حين يقول: «لا غنى كالعقل»(9)، فلو كان الإنسان يملك المليارات فلا فائدة فيها؛ لأنها ستكون من نصيب الورثة، بينما سيكون وحيداً في قبره ويحاسب على تلك الأموال التي يتمتع بها الآخرون، وإذا كان من أصحاب المناصب فسوف يخسره لاحقاً ولو بموته، وإذا كان صاحب جاه فسيذهب عنه ذلك أيضاً، قال الشاعر:

إنّما الدنيا عوارٍ---والعواري مستردة

شدة بعد رخاء---ورخاء بعد شدة(10)

يقول اللّه سبحانه وتعالى: {وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ}(11)، لذا ينبغي أن نتعلم ما يفيد المعاد والمعاش، ونزداد عقلاً فيزداد ثواب عملنا.

* مقتطف من كتاب: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك، لمؤلفه السيد جعفر الحسيني الشيرازي

........................................
(1) نهج البلاغة، الحكم: 54.
(2) الكافي 1: 10.
(3) هنا مسألة لا بدّ من الإشارة إليها، وهي: إن الناس في ما يخص أسئلتهم على قسمين: الأوّل: أن يكون السؤال استفهامياً، فقد يسأل أحدهم عن مسألة لا يعرفها أو لا يفهمها، تقول الآية الكريمة: {فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [سورة النحل، الآية: 43]، وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: أن المراد بأهل الذكر هم أئمة أهل البيت (عليهم السلام) [انظر: الكافي 1: 210]. والثاني: أن يكون السؤال تعنّتاً واستنكاراً واستهزاءً؛ لذا يجب على الإنسان أن يكون سؤاله من القسم الأوّل؛ لأن المتعنّت لا يستفيد من الجواب بسبب غلقه لعقله وفكره، فهو لا يريد إلّا الاستشكال الفارغ، بينما يلزم على الإنسان السؤال لو رأى ظاهرة لا يعرفها ولا يفهمها، وإن تعذر عليه فهم حكم شرعي فعليه أن يسعى نحو فهمه؛ لأن الإنسان ليس عالماً بكل شيء، بل إن جهل الإنسان أكثر من علمه، ولذا قال تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا} [سورة الإسراء، الآية: 85]، و{وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا} [سورة طه، الآية: 114]، وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «الناس أعداء ما جهلوا» [نهج البلاغة، الحكم: 172 و438]، ولأن الإنسان الجاهل قليل العقل فلذا يعادي ما لا يفهمه.
(4) الكافي 1: 12.
(5) انظر: نهج البلاغة، الخطبة: 1، وفيه: «... واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لما بدل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم الآيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع...».
(6) سورة الأعراف، الآية: 157.
(7) سورة البقرة، الآية: 164؛ سورة الرعد، الآية: 4؛ سورة النحل، الآية: 12؛ سورة الروم، الآية: 24 و28؛ سورة الجاثية، الآية: 5.
(8) الكافي 1: 11.
(9) نهج البلاغة، الحكم: 54.
(10) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 3: 336.
(11) سورة الأعراف، الآية: 128.

اضف تعليق