المقدمة
لايمكن فهم السياسة اليوم من غير اخذ الحقيقة الاتية في الاعتبار "الثابت الوحيد في هذا العالم هو التغير المستمر" وأدراك هذه الحقيقة سيعني بالضرورة إدخال التغيرات العالمية في الحسابات باستمرار. ففترة العصور القديمة والوسطى لايمكن قياسها على فترة العصر الصناعي وتحولاته الكبرى. والعصر الصناعي لايمكن قياسه على ثورة التكنولوجيا والاتصال العالمي وعالم المعرفة. فكل تطور في مجال من هذه المجالات انعكس على قدرات بعض الدول ومكنها من لعب دور مختلف في عالم اليوم وبالتالي اعاد ترتيب حسابات بقية الدول وفضاءات اشتغالها.
فحسابات المصلحة والربح والخسارة باستمرار هي نتيجة الوعي باللاعبين الاخرين وقدراتهم وكل خطأ في تقدير الموقف قد يتسبب بخسائر جسيمة في عالم البقاء القديم والمعاصر والسياسة هي مجال الصراع والتدافع وأدواتها معروفة هي:
1. القدرات العقلية للأمم ومستواها المعرفي والتخطيطي والتنظيمي وقدرتها على التأثير الحضاري والاقناع في عالمها الذي تعيشه.
2. القدرات الاقتصادية وهي بنت الهيكل الاقتصادي المتوازن في القطاعات كافة وخاصة مجال التكنولوجيا ودرجة تطوره وذلك ينعكس على الدولة في درجة قدرتها على مواجهة الضغوط والحفاظ على مصالحها.
3. القدرات العسكرية والامنية هي محصلة للقدرات العقلية والبشرية ودرجة التطور الاقتصادي والتقني في المجتمع.
• أهمية الدراسة: تتجلى اهمية الدراسات الجيوبوليتيكية من خلال تصاعد الازمات الدولية وأتساع رقعة المشكلات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين العديد من دول العالم المختلفة. فليس صدفة ان يكون القرن الماضي- وهو قرن الصراعات الدولية- الفرصة، لتبلور مفهوم الجيوبولتيك، وتنوع الدراسات حوله
الاشكالية: يخلط العديد بين مفهومي "الجيوبولتيك" و"الجغرافية السياسية"، ويضيف إلى الخلط من أن العديد من السياسيين والمتخصصين "دولة واحدة وأخرى، أو استخدام الكلمة نفسها لصالح هذين المفهومين عن طريق العلاقات الطبيعية، وما يزيد الطين بلة أن بعض المترجمين قد وقعوا بالخطأ ذاته، فترجموا المصطلحات الانجليزية للمفهومين ترجمة خاطئة، فزادوا بترجماتهم تلك الأمور تعقيدا وتشوشا. وحتى القواميس المعتبرة لا يوجد فيها ما يشفي الغليل حول التفريق بين هذين المفهومين.
الفرضية: ان الصراع الدولي على النفوذ، والتأثير في العلاقات الدولية، ودفاع الدول عن مصالحها الحيوية، ومحاولة فرض الدول هيمنتها على دول أخرى، وما شابه ذلك من أعمال يتأثر بشكل مباشر بنظريات الجيوبولتيك المتغيرة.
• مفهوم الجيوبولتيك وتطوره النظري:
الجيوبوليتك مصطلح مكون من جذرين يشير أحدهما إلى الجغرافيا والآخر إلى السياسة، لكن ليس المقصود منه هو الجغرافيا السياسية التي تعني بتأثير الجغرافيا (الخصائص الطبيعية والبشرية) في السياسة، إنما ينصب الاهتمام فيه على دراسة تأثير السلوك السياسي في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة.
• تعريف الجيوبولتيك:
علاقة الدولة بمحيطها الخارجي وسياساتها الخارجية وتصورها عن ذاتها ومحيطها وتأثيرها وتأثرها بالعالم الخارجي وكيفية صياغة السياسات والنشاطات التي تحقق لها اكبر العوائد وتجنبها المخاطر.
• نظرة تاريخية لجيوبولتيك:
ويذهب كثير من الباحثين إلى أن علم الجيوبوليتك من العلوم القديمة، حيث نستطيع أن نجد بعض ملامح التفكير الجيوبوليتكي في آراء أرسطو في السياسة ووظائف الدولة وطبيعة الحدود وتناسب قوة الدولة مع عدد سكانها وتوزيع الثروات فيها.
وينسب البعض آراء ابن خلدون في مراحل عمر الدولة إلى مفهوم الدولة العضوية كما تتطور في الدراسات الجيوبوليتكية، ويرى كثير من الباحثين أن المفكر الفرنسي مونتسكيو هو من وضع الإشكالية الأساسية لهذا العلم عندما ربط مجمل السلوك السياسي للدولة بالعوامل الطبيعية وعلى رأسها المناخ والطبوغرافيا مع التقليل من مكانة العوامل السكانية والاقتصادية.
لكن الانطلاقة الحقيقية لهذا العلم بمنهجياته ومحدداته الأساسية تعود إلى الألماني فردريك راتزل (1844-1904) الذي يرجع إليه الفضل في كتابة أول مؤلف في الجيوبوليتكا يحمل عنوان "الجغرافيا السياسية" في عام 1897م.
وقد شهد القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين تطوراً كبيراً لهذا العلم سواء على المستوى النظري، أو على مستوى تأثيره في صياغة التوجهات الإستراتيجية الكبرى للدول، وقد لا يكون من المتيسر على الباحثين في التاريخ الحديث فهم الرؤى الإستراتيجية التي وجهت المواقف والتحولات الكبرى في الحرب العالمية الثانية بدون العودة إلى مقولات الجيوبوليتكا، خاصة بالنسبة لدولة كألمانيا في العهد النازي حيث تحولت مقولات الجيوبوليتكا الألمانية إلى مقولات مقدسة يتحدد تبعاً لها الموقف من الحرب والسلام.
ولكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا، صار ينظر إلى الجيوبوليتك على أنه مثال للتوظيف الخاطئ للجغرافيا في السياسة، وبلغ هذا الإشكال مبلغاً كبيراً عندما أخذ ينظر إليه باعتباره علم زائف وحامل لأيديولوجيا عدائية؛ فقامت معظم الدول بمنع تدريس الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك في جامعاتها؛ باعتبارهما علمين مشبوهين يسعيان إلى بذر العداء ويكرسان الأطماع القومية.
واستمر الحال على هذا المنوال حتى تسعينات القرن الماضي عندما لاحت مؤشرات الانهيار الكبير للدولة "السوبرعملاقة" الاتحاد السوفيتي، لنعود ونشهد الولادة الجديدة لمقولات الجيوبوليتك، ذلك أن انهيار كل المحددات الأيديولوجية والسياسية التي قام على أساسها النظام العالمي ثنائي القطبية بعد الحرب العالمية الثانية، دفع الباحثين في محاولاتهم تلمس شكل النظام الجديد المرتقب إلى أكثر العوامل ثباتاً وديمومةً في صنع الكتل السياسية الكبرى، ألا وهي الجغرافيا؛ فعادت إلى الظهور مقولات الجيوبوليتكا وظهرت في المكتبات مؤلفات كلاسيكية ودراسات حديثة تسعى لقراءة التحولات الكونية الكبرى من منظور جيوبوليتكي وانفرط العقد الذي فرض حول هذا العلم. ولفهم الجيوبولتيك أكثر لابد من معرفة الفرق بينها وبين الجغرافية السياسية ومعرفة معايير التفرقة بينهما و هذا ما سنحاول معالجته.
في الوقت الذي كان فيه راتزل وسبنسر يتحدثان عن الجغرافيا السياسية كان بعض الجغرافيين الألمان يتحدثون عن علم السياسات الأرضية أو ما اصطلح على تسميته بالجيوبوليتيك.
وقد بدا أنه إذا كانت الجغرافيا السياسية تنظر إلى الدولة كوحدة إستاتيكية (ثابتة) فإن الجيوبوليتيك تعدها كائناً عضويا في حركة متطورة.
في هذه الأثناء كانت ألمانيا تعيش بعد الهزيمة التي منيت بها في الحرب العالمية الأولى، في انتكاسة قومية بسبب ما اقتطع منها من أراض كإجراءات عقابية لها من قبل المنتصرين، وتقسيم مستعمراتها بين إنجلترا وفرنسا، كما فرض عليها حصار عسكري ومالي.
وفيما بين الحربين كرَّس الجغرافيون والسياسيون الألمان جهودهم للخروج بوطنهم من محنته، وخرجت لأول مرة دورية علمية تحمل عنوان "المجلة الجيوبوليتيكية" وضمت هجيناً من الفكر الجغرافي والتاريخي والسياسي والقومي والاستعماري.
وقد صيغ هذا الفكر في قوالب علمية رفعت شعار: "لا بد أن يفكر رجل الشارع جغرافياً وأن يفكر الساسة جيوبوليتيكياً".
وقد جاء هذا الشعار ليبرر الكم الهائل من المعلومات الجغرافية "المغلوطة" التي قدمت للشعب الألماني عن دول شرق أوربا والاتحاد السوفيتي.
كما تم توظيف نتائج بحث الجغرافيا التاريخية والآثار لتقديم معلومات عن أحقية ألمانيا في أراض وبلدان تبعد عنها مئات الأميال شرق أوربا.
وبالرغم مما قد نظنه من مهام علمية بريئة للجمعيات الجغرافية فإن دورها في خدمة التوسع الألماني كان جلياً واضحاً.
وتحت رعاية الجمعية الجغرافية الألمانية أنشئت في ميونخ عام 1924 المدرسة الجيوبوليتيكية التي رأسها الجغرافي السياسي كارل هوسهوفر.
وبجهود هذه المدرسة وبالأعداد المتواترة للدورية الجيوبوليتيكية جهّـز الجغرافيون والسياسيون الفكر الألماني بعضوية الدولة وضرورة زحزحة حدودها لتشمل أراضي تتناسب مع متطلباتها الجغرافية وتحقق ضم الأراضي التي يقطنها الجنس الآري.
وقد جاء ذلك في ظل تنامي أفكار القومية الشيفونية الممزوجة بأغراض التوسع العسكري للحزب النازي.
وقد تلقف هتلر أفكار هوسهوفر وزملائه، كما استعان بأفكار الجغرافي الإنجليزي الشهير ماكندر (الذي كانت مقالاته تترجم إلى الدورية الجيوبوليتيكية)، خاصة تلك الأفكار التي صاغ من خلالها نظريته عن "قلب الأرض"، والتي تقول فحواها: إن من يسيطر على شرق أوربا يسيطر على العالم. وتنبأ فيها بانتقال السيطرة على العالم من القوى البحرية (إنجلترا وفرنسا) إلى القوى البرية (ألمانيا والاتحاد السوفيتي).
وجاءت أفكار هتلر بدءاً من كتاب "حياتي"، ومرورا بخطبه الحماسية، لتكرس مفهوم المجال الحيوي لألمانيا Lebensraum، أي مساحتها الجغرافية اللائقة بها وبالجنس الآري، ولتمثل أبرز مقومات القومية الاشتراكية (النازية) التي تبناها.
وهكذا زاد التداخل في المفاهيم وصار الفصل صعباً بين الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك والإمبريالية. وصعِدت الجيوبوليتيك إلى مصاف العلوم الكبرى خلال الحرب العالمية الثانية، حتى كتبت هزيمة ألمانيا نهاية لهذه المكانة.
وصار مفهوم الجيوبوليتيك بعد الحرب العالمية الثانية قرين التوظيف السيئ للجغرافيا السياسية، وهو ما أضر بتطوير الجيوبوليتيك والجغرافيا السياسية معاً.
• معايير التفرقة بين الجغرافية السياسية و الجيوبولتيك:
يعنى علم الجغرافيا السياسية بدراسة تأثير الجغرافيا (الخصائص الطبيعية البشرية) في السياسة.
ويتداخل هذا المفهوم مع الجيوبوليتيك: "علم سياسة الأرض"، أي دراسة تأثير السلوك السياسي في تغيير الأبعاد الجغرافية للدولة. وهو المفهوم الذي ابتدعته المدرسة الألمانية منذ بدء القرن العشرين وتطور فيما بين الحربين العالميتين.
1. تدرس الجغرافيا السياسية الإمكانات الجغرافية المتاحة للدولة، بينما الجيوبوليتيك تعنى بالبحث عن الاحتياجات التي تتطلبها هذه الدولة لتنمو حتى ولو كان وراء الحدود.
2. تشغل الجغرافيا السياسية نفسها بالواقع بينما تكرس الجيوبوليتيك أهدافها للمستقبل. من زحزحة الحدود إلى تزييف الخرائط
3. تنظر الجغرافيا السياسية إلى الدولة كوحدة إستاتيكية، بينما تعدها الجيوبوليتيك كائناً عضويا في حركة متطورة.
4. الجيوبوليتيك تجعل الجغرافيا في خدمة الدولة، بينما ترى الجغرافيا السياسية أنها صورة للدولة.
وهكذا رفع الجغرافيون شعار: "لا بد أن يفكر رجل الشارع جغرافياً وأن يفكر الساسة جيوبوليتيكياً".
• الاسس الرئيسية لعلم الجيوبولتيكس:
1. الموقع الجغرافي للدولة: للموقع الاستراتيجي أهمية في زمن السلم للسيطرة الحركة التجارية أما في زمن الحرب فيؤثر بقواعده العسكرية.
2. شكل الدولة ومساحة رقعتها: سواء من حيث قصر الحدود أو مساحة الدولة حيث تمتاز الدولة العظمى بأتساع وكبر المساحة.
3. المناخ: ويحد كثيرا من انتقالات البشر في المناطق التي تشتد برودتها كالجهات القطبية والمناطق التي تتصف بارتفاع حرارتها.
4. السكان: حيث ان النصر في اوقات الحرب هو بعدد من يمكن حشدهم من الرجال في ميدان القتال.
5. الموارد الطبيعية: يعد المكون الاقتصادي للدولة من العوامل والاسس الحيوية للقوة السياسية وجيوبولتيكيا الدولة.
• أنماط الدراسات الجيوبولتيكية:
يحدد اوتوثل أربعة أنماط في الدراسات الجيوبولتيكية هي:
1. الجيوبولتيكس المنهجي ( Geopolitics Formal). إشارة الى الفكر الجيوبولتيكي التقليدي، وهي مؤسسة فكرية واسعة للجيوبولتيكس.
2. الجيوبولتيكس العملي (Practical Geopolitics): ويرتبط هذا النمط بالسياسات الجغرافية ذات العلاقة بالممارسات اليومية للسياسة الخارجية للدول التي تشكل الهيكلية العامة لتصورات السياسة الخارجية وفق تطور الأحداث قبل صياغة قرار الولايات المتحدة للتدخل في البلقان.
3. الجيوبولتيكي الشعبي (Geopolitics Popular ): هو ذلك النمط من الجيوبولتيكس الذي تعالجه او تثيره الصحافة ووسائل الأعلام الأخرى، التي بدورها تمثل الثقافة الشعبية بهذا العلم. بمعنى أنه الفهم الجمعي او القومي أو ألأممي للأمكنة والشعوب والإحداث العابرة للحدود الجغرافية او السياسية.
4. الجيوبولتيكي التركيبي (Structural Geopolitics): يهتم هذا النمط بدراسة العمليات والنزاعات التي تحدد كيف يجب ان تمارس كل الدول سياساتها الخارجية. وهذه العمليات والنزعات تشمل اليوم، العولمة، المعلوماتية و مخاطر انتشارها المطلق العنان، بفعل نجاح الثورة العلمية – التكنولوجية و ثقافتها حول العالم.
• النظام الجيوبولتيكي وعنصر المفاجأة:
وبالنظر للتباين الحاصل في وجهات النظر التفسيرية للأحداث، من وجهة النظر الجيوبولتيكيين فقد أصبح هناك لكل نظام جيوبوليتيكي قواعده الجيوبولتيكية التي تحدد مسارات التفسيرات والاستنتاجات، وهذه القواعد، كما يقول تايلور، تمثل مبادئ إجرائية تتألف من مجموعة من الفروض الجغرافية السياسية التي تنطلق منها الدولة في صياغة سياستها الخارجية وبناء علاقاتها الدولية. وهذه القواعد تتضمن:
1. تحديد مصالح الدولة.
2. تحديد مصادر التهديد التي تتعرض لها هذه المصالح.
3. الرد المخطط لمواجهة هذه التهديدات، ان وقعت.
4. المبررات التي تقدم الاتخاذ مثل هذا الرد.
مع ذلك هناك فترات تحدث فيها انقلابات، او تغيرات مفاجئة، ضمن الترتيب الجيوبولتيكي الإقليمي ذو العلاقة بالوضع الجيوبولتيكي العام، يطلق عليها (فترات الانتقال الجيوبولتيكية) او النقلة السريعة في تغير الحدث، مثل سقوط الاتحاد السوفيتي1990، إنهاء النظام الشاهنشاهي الإيراني عام 1979، اتفاقية الجزائر بين العراق وايران في آذار 1975، ضرب تنظيم القاعدة لبرجي التجارة العالمية في نيويورك عام 2001، وأخيراً أحداث الربيع العربي. فكل هذه المتغيرات او الأحداث الجيوبولتيكية حدثت وفق (عنصر المفاجئة) الذي لم يكن بوسع أي من الخبراء، ذوي النظرة الجيوبولتيكية النافذة، التنبؤ بحدوثها أو إمكانية حدوثها بهذا الشكل، الخارج عن مؤثرات العوامل الجغرافية، حتى وقعت بالفعل، وخلقت أوضاعا جيوبولتيكية محلية ودولية مغايرة جديدة، بل ونظاماً جيوبولتيكيا جديداً في علاقات الدول وتكتلاتها بشكل يختلف بالكامل عما كان سائداً من نظم زمن سيادة النظريات الجيوبولتيكية التقليدية، بل قد تخلق مشكلات جديدة لابد من معالجة عواقبها، كما هو حادث في ثورات الربيع العربي، او الأصح، زمن الصحوة الجماهيرية في بعض البلدان العربية.
• الجيو ستراتيجية والجيوبولتيك:
إن الجيوستراتيجية الحديثة تبحث عن تطوير الأمن القومي الداخلي كونه الإطار الذي يسمح بتطوير الأمة بمختلف قطاعاتها الاقتصادية، وإتباع الجيوستراتيجية الحديثة لمنهج "سلمي" قائم على تطوير آليات الدفاع عن المسرح العملياتي القومي الذي يمتد على كامل التراب القومي للدول، ولا يعني هذا تخلي أصحاب القرار الجيوستراتيجي خاصة في الدول الكبرى عن طموحاتهم في السيطرة على اقتصاديات العالم للمحافظة على مكتسباتهم في خيراته وثرواته، لدرجة جعلت رؤساء بعض من هذه الدول يعلنون صراحة أنه من الخطأ التفكير بأن دولنا هي دول محايدة، ولن تتردد في استخدام الخيارات العسكرية المدعومة بالسلاح الرادع لتحقيق الأهداف الستراتيجية لحماية مصالحها.
ويلاحظ المهتمون والمتابعون لشؤون السياسة العالمية، بأن تطوير العالم لتكنولجيا المراقبة الفضائية باستخدام توابع ذات مرئيات عالية الوضوح المكاني، " جعل للجيوستراتيجية بشقيها العسكري والمدني بعداً فضائياً هاماً، كما يمكن اعتماد التفكير المغاير لذلك، والقول بأن الطموحات التي مازالت كثيرة ومتعددة للدول المتقدمة في العالم في حربها الاقتصادية، ونتيجة لمتطلبات الجيوستراتيجية الحديثة، فقد تم تطوير هذه التوابع الصناعية الماسة للأرض التي تقدم مرئيات في غاية الدقة والتفصيل لمختلف مسارح العمليات.
ولا شك في هذا المجال بأن الهدف الثاني والأكبر بعد الهدف الرئيسي الأول للجيوستراتيجية الحديثة، يكمن في تحقيق المكاسب وتكوين مناطق التأثير والأنظمة اللاحقة أو التابعة، ذلك أن الجيوستراتيجية التطبيقية تتطلب أن يكون هناك منافع ومكاسب من وراء الأراضي المحتلة، التابعة أو الحليفة، بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق عبقرية اتخاذ القرار الصادر عن الاستراتيجي المسيطر أو الأقوى الذي يتخذ عادة "القرارات التكتيكية الهجومية" التي لها بالضرورة علاقات مكانية، وإلا فإنها لن تكون جيوستراتيجية ولن يتمكن الاستراتيجي من تطويع "مكان الآخر" لصالحه، وذلك باعتماد واقع المكان والعلاقات السياسية ـ الاقتصادية المهيمنة أو السائدة والأهداف الإستراتيجية المطلوب الوصول إليها.
وتحتاج الجيوستراتيجية اذن إلى المعلومة المكانية ـ الزمنية، وهذه المعلومة يجب أن تكون موثقة وصحيحة لكي تتمكن القرارات التكتيكية الصادرة حسب الخطة الجيوستراتيجة من أن تكون صحيحة وقيمة وبالتالي ذات فاعلية، والحصول على المعلومات المكانية بأن عن طريقين فقط هما: العمل الميدان، وآليات استشعار عن بعد بواسطة المرئيات الفضائية عالية الدقة، كما أن الحصول على المعلومات المكانية المرئية والبيانات الخاصة بمختلف الخصائص الجغرافية لأي مسرح عمليات تسمح بعزل وحصار هذا المسرح إعلامياً وقطعه عن العالم مما يؤدي إلى شلل كبير في مختلف مرافق هذا المسرح وسرعة وقوعه كقيمة نافعة إن كان ذلك بالمعنى الفكري أو المدني للجيوستراتيجية المستخدمة.
وهكذا نجد بأن الجيوستراتيجية هي ليست نوعاً من أنواع الإستراتيجية لأن المسئول الجيوستراتجي يهدف إلى السيطرة المتكاملة على المجال ـ الزمن من أجل أن يتمكن الإستراتيجي من اتخاذ قراره الصحيح والأمثل، ونظرياً نعتقد بأن الجيوستراتيجية لا تستخدم لأغراض "محو الآخر" أي لأغراض عسكرية بل هي تقوم على دراسة الطرق الأمثل لتنظيم المجال لزمن محدد لتحقيق أهداف عسكرية ومدنية ولخدمة الاستراتيجية السياسية ـ الاقتصادية، فهي إذن من هذا المنطلق أداة تقنية لاتخاذ القرار وهي تكتسب كل أهميتها من هذا المنطلق.
• الخاتمة:
طرأت تغيرات كثيرة على مفاهيم الجيوبولتك مما أدى إلى ضرورة إعادة النظر في عدد من المفاهيم القديمة. وكذلك في مواقف الجيوبولتك من كثير من القضايا الدولية المعاصرة. وتأثرت مفاهيم الجيوبولتك بتيارات التغيير في اتجاه الفكر الجغرافي نفسه، تلك التغيرات التي أصبحت تميل إلى الجوانب التطبيقية والعملية ليس فقط، و كان على الجغرافيا السياسية و مفكريها أن يبذلوا جهودا كبيرة لملاحقة سلسلة التغيرات التي شهدها العالم مؤخرا.
وتماشيا مع التغيرات الجغرافية والإيديولوجية التي عرفها العالم بعد انهيار المعسكر الشرقي، تغيرت نظريات الجيوبولتك، نفسها عن وظائف الدولة، ومقوماتها، وكذلك عن عناصر البناء السياسي للدولة خارجيا وداخليا. وتغيرت كذلك نظريات وأساليب دراسة الجيوبولتيك وأصبحت الساحة الدولية مليئة بالعديد من النماذج العملية والواقعية عن المشكلات الخاصة بالحدود والأراضي المتنازع عليها.
اضف تعليق