كل فلسفة يظن أصحابها أنّهم تمكنوا من امتلاك الحقيقة إنما هم احتكروا القول الفلسفي ليُصدروه على أنّه حقيقة، وهذا في وضوحه ومُضمره إنما هو احتكار للقول الفلسفي وتوظيفه لصالح الأيديولوجيا، الفلسفة تقول لك لم لا تشكّ وتُشكل على ما هو موروث وتُعيد النظر فيه لا لرفضه لمجرد الرفض، بل لتمحيصه وتحليله وتعقله...

من تحديات الفلسفة أنَّ الكثير من المتنطّعين في الأدب والدين والسياسة وحتى في العلم يدعون هم وغيرهم أنهم يفقهون بها، وفي الوقت ذاته نجد جماعات منهم لأنهم لا يفقهون قول الفلاسفة ولا يتمكنون من فك مغاليقه ولأنّهم لا يعرفون ماهية المفاهيم والمصطلحات في الفلسفة التي هي من مقتضيات وجود كل علم، فلا يمكن لنا معرفة علوم الفيزياء أو الكيمياء مثلًا من دون فهم أسس معادلاتهما وأصول مفاهيمهما.

وجدنا فقهاء يدّعون وصلًا بها، ولكنهم يكفّرون أهلها، ومنهم الغزالي الذي انتقد الفلاسفة المسلمين وكفّرهم في ثلاث مسائل، وقال عنه ابن تيمية إنّه (دخل بطون الفلاسفة فما قدر أن يخرج منها).

الغريب أنَّ هناك من يكتب لغوَاً لا معنى له ويقول إنّه فلسفة، وآخرون يرفضونها لأنهم يعتقدون بغموضها، وفي كلا الحالتين المدّعي أو المنكر لها يستخف بها وبتاريخها العقلاني الذي أسس لنشوء العلوم والفنون التي تناسلت من الفلسفة التي سُميّت (أم العلوم)..

وكم من الأبناء هجروا أمهاتهم وتنكروا لعطائهن؟!.

أهم ميزة في الفلسفة أنّها تمنح الحريَّة لنقد ذاتها، أو نقد الفلسفة بالفلسفة ذاتها أو من داخلها، فمن فيض حرية التفكير فيها أنك تجد في فكر سقراط ما ينتقد فيه السفسطائية، أو في فكر أرسطو ما ينتقد فيه افلاطون، والقائمة تطول فقد نقد كانت فلسفة ديكارت الوثوقيَّة، وأفاض نيتشه في نقد الفلسفات التأمليَّة والمثاليَّة، ومن قبله بيكون انتقد منطق القياس الأرسطي، كما انتقد ماركس منطق هيجل بعد أن أفاد منه.

على الرغم من أن الفيلسوف يبحث عن الحقيقة، ولكن تعدد الفلاسفة وتعدد مناهجهم يجعل من البحث عن الحقيقة بحث عن «الصيرورة» لأن مهمة الفلاسفة بتعبير (هيجل) «فهم الفلسفة من خلال التاريخ»، بمعنى أن مهمة الفلاسفة وعي الحدث وفق مقتضيات التاريخ زمانيًا ومكانيًا.

الفيلسوف هو الذي يُجيد الأشكلة على الوجود وعلى الفيلسوف الذي طرح السؤال قبله ليستفز عقله ويعيد إنتاج السؤال وفق تحديات الواقع المعاش لا لحل مشكل هذا الواقع بل لنقض أو تقويض أو هدم ما يبدو أنّه بديهي سائد ومُهيمن وكأنه حقيقة أزلية ثابتة!.

الفيلسوف هو الذي يُفاجئك بسؤال يهدم بداهاتك الموروثة ويستفز ما فيك من بقايا تعقل نقدي.

لم تكن قيمة ما قدمه الفلاسفة من أجوبة، فلم تكن إجابات إفلاطون شافية ووافية كما كانت أجوبة الفارابي متماهية في السياسة إجابة مع ما قدمه إفلاطون، وغيرهم من الفلاسفة لا تكمن أهميتهم بما قدموا من إجابات بقدر ما كانت أشكلتهم على الموضوعات وعلى الوجود والحياة.

يذكر (فيرناند الكيه) في كتابه (معنى الفلسفة) «أن كل فلسفة تبدو، كاحتجاج على الزمان» الفلسفة رؤى يُقدمها فلاسفة وهم أفراد قد يُخطئون وقد يُصيبون، ولا معصوميَّة لأحد منهم، وما يُقدمونه إنما هو سعي لمعرفة الحقيقة لا اِدّعاء احتكارها، وميزة كل تفكير فلسفي هي الشك بما هو سائد ومألوف بدا لهم وكأنه حقيقة لا يمكن الشك فيها.

كل فلسفة يظن أصحابها أنّهم تمكنوا من امتلاك الحقيقة إنما هم احتكروا القول الفلسفي ليُصدروه على أنّه حقيقة، وهذا في وضوحه ومُضمره إنما هو احتكار للقول الفلسفي وتوظيفه لصالح الأيديولوجيا، الفلسفة تقول لك لم لا تشكّ وتُشكل على ما هو موروث وتُعيد النظر فيه لا لرفضه لمجرد الرفض، بل لتمحيصه وتحليله وتعقله.

الفيلسوف يتأمل الوجود ويُشكِل على ما فيه، ولا يقبل أن يُخدع ولا أن يخدع الآخرين بتأثير أفكار لا أصل عقلانياً لها نحتكم إليها، الشك في الفلسفة يأتي بعد الدهشة التي نمرُّ بها وتُثير فينا السؤال لنشكَّ ونُشكِل على ما في الوجود وفيما نعيشه، وكل نزعة فلسفية تقتضي النقد ولا استقلال فيها إن لم تتخلص الذات من سطوة ما هو سائد وكأنه حقيقة ينبغي التماهي معها.

........................................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق