ارتبطت بالعمق الفلسفي والمنهجي الذي بذله المسيري من خلال رؤيته النقدية العميقة للحضارة الغربية التي ظلت وسيطاً مرجعاً لدعاة التقليد في الفكر العربي المعاصر، وإعلان فساد كثير من المعتقدات المنهجية لهذه الحضارة ومنظوراتها في التحليل، والتفسير، لأنها منظورات كمية تراكمية اختزالية، أحدث تبنيها القسري في فكرنا المعاصر تحيزاً...
”يرى المسيري أن المنهج هو إجراءات البحث والأدوات التي يستخدمها الباحث، والطرق التي ينبغي أن يسير عليها في محاولة تفسير ظاهرة ما. ولكن هذه الإجراءات والأدوات ليست بريئة تماماً، إذ من خلالها يتم استبقاء بعض التفاصيل والمعطيات والمعلومات واستبعاد أو تهميش البعض الآخر حسب خريطة الباحث الإدراكية، وحسب النموذج المعرفي الذي يحدد من خلاله ما هو جوهري وما هو الهامشي، وعليه فالمنهج هو تعبير عن طريقة الباحث ورؤيته للعالم.
ونحن نحدد المقدمات والأسئلة من خلال المنهج، وإن حددت المقدمات والأسئلة تبدأ الأجوبة في التحدد والتبلور. ونحن إن لم نحدد الأسئلة والمقدمات لأنفسنا حددها لنا الآخر، ومن ثم حدد لنا أجندتنا البحثية، ومن ثم سنجد أننا نطرح على أنفسنا أسئلة قد لا تعنينا كثيراً ونهمل القضايا الأكثر حيوية، كما أننا سنصل في آخر الأمر إلى نتائج تدعم وجهة نظره. بينما لو حددنا الأسئلة وحاورنا الواقع والظواهر من أرضيتنا، فسنصل إلى إجابات قد تكون في غالب الأمر مختلفة اختلافاً جوهرياً عن رؤيته وعن الحلول التي يطرحها، ولكنها نابعة من واقعنا، ومن ثم يصبح بوسعنا أن نتعامل مع هذا الواقع ونغيره وننهض به“ (عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج، ص 225).
” إن قضية المنهج والمنهجية يتوجب أن تأخذ مكانة متقدمة في سلم الأولويات، فالمعركة اليوم في كثير من المجالات والمشاريع تكاد تنحصر في نظرنا حول قضية المنهج، لأنه هو التصور والفلسفة والرؤية للماضي، والحاضر، والمستقبل “ (عبد الله أخواض: المنهج في الفكر العربي المعاصر- من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي، ص 12).
في هذا المقال سنحاول الوقوف عند تجربة فكرية غنية في مسارها، متميزة في أدائها، قوية في منهجها، إنها تجربة المفكر المصري عبد الوهاب المسيري. متميزة، لأنها حاولت تحرير الفكر العربي المعاصر من المسار المتحيز للفكر الغربي والاستقلال عن هذه التحيزات، والفكر الإنساني من الثنائيات المتناقضة ومن حداثة الغرب الداروينية. قوية، لأنها ارتبطت بالعمق الفلسفي والمنهجي الذي بذله المسيري من خلال رؤيته النقدية العميقة للحضارة الغربية التي ظلت وسيطاً مرجعاً لدعاة التقليد في الفكر العربي المعاصر، وإعلان فساد كثير من المعتقدات المنهجية لهذه الحضارة ومنظوراتها في التحليل، والتفسير، لأنها منظورات كمية تراكمية اختزالية، أحدث تبنيها القسري في فكرنا المعاصر تحيزاً للمرجعية ذاتها، ومن خلال الدعوة إلى بديل معرفي منهجي اجتهادي توليدي، تركيبي تراحمي يستجيب للبعد الفطري في الإنسان.
وما يجعل هذا المشروع في صلب اهتمام كل باحث الحفريات الفكرية العربية هو عمق التحليل الذي يقترحه في دراسة القضايا والإشكالات والبدائل التي يطرحها، على مستوى الآليات المنهجية البديلة أو النظام المعرفي البديل لما هو متداول منذ عصر النهضة العربية إلى يومنا هذا. أي إن استجلاء رؤيوية المسيري للنماذج كمنهج في التحليل، لتفسير ظاهرة الإنسان، والتي تتجاوز المعطى المادي المباشر الرائج في الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة (بديل يرى فيه المسيري القدرة للخروج من مصائب الحضارة الغربية وتحيزاتها السلبية). وهذا ما من شأنه أن يصبح درباً ومساراً جديداً للعمل على دحض شبهة وفرية التقليد في المنهج للغرب، والوصول إلى إبداع خاص بنا في المنهج.
لكن لهذا التأسيس وهذا البناء عند المسيري مقدمات واضحة ومعالم بارزة ينبغي التحكم فيها وفهمها، وإلا كان الأمر إعادة وتكراراً للتجارب الماضية. ومن المداخل التي اعتمدها المسيري في تأسيس بدائله نقد النموذج المعرفي الغربي كخطوة أساسية في توليد نماذجنا المعرفية العربية الإسلامية، وهكذا سنركز في هذا المقال على مناقشة العناصر الأساسية التالية:
أولاً- نقد النموذج المعرفي الغربي (محاولة تأصيلية): يؤمن المسيري إيماناً عميقاً بأن امتلاك رؤية معرفية منهجية بديلة مستقلة عن النموذج المعرفي الغربي إنما تبدأ عنده من تأسيس ما سماه المحور النقدي للمشروع الحضاري الإسلامي، الذي تبدأ أولى خطواته بنقد المشروع الغربي المهيمن وكل نماذجه وتفكيك منظومته المعرفية، وقد ساعده على ذلك تمرسه بالآليات المنهجية وخبرته في التعامل معها على اختلاف تكويناتها العقدية.
وقد حدد المسيري موقفه القوي والصريح من هذه الحضارة وآلياتها، ودعا إلى إجراء نقدٍ صارم وحاد. يقول: " إن ما أدعو له من نقدٍ كلي وشامل للنموذج الحضاري الغربي الحديث واكتشاف تحيزاته لا يعني أن نقوم بتهنئة أنفسنا، فليس الهدف هو تمجيد التراث أو إسباغ الشرعية على الوضع القائم في بلادنا... وإنما تأكيد فكرة أن استيراد هذا النموذج لن يفيدنا كثيراً في محاولتنا الإصلاح والتغيير "، كما تهدف الممارسة النقدية عنده إلى كسر ثوابت هذا الغرب.
كسر مركزيته وتأكيد نسبيته، وهو أحد المداخل الأساسية في كشف الخاص والعام في هذه الحضارة. إن النقد عند المسيري هو أساساً عملية تهدف إلى الفهم المتعمق، أي يجعل من الممكن أن نعزل ما هو خاص بالغرب عما يصلح لأن يكون عاماً عالمياً، فما هو عالمي يعبر عن إنسانية مشتركة، ومن ثم لن يكون من الصعب تبنيه وفق شروط نسقنا النظري المستقل النابع من أسئلة واقعنا وقضاياه ويراهن المسيري في هذا النقد أن يستعيد الغرب نسبيته وأن يتحول إلى مركز من المراكز، لا أن يبقى مركزاً مسيطراً وموجهاً وحيداً للمراكز الأخرى.
فيواكب كسر هذا الثابت عنده نزع صفة العالمية والمطلقية عن الحضارة الغربية، وتوضيح أن كثيراً من "القوانين العلمية"، التي يدافع عنها دعاة التغريب، باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان، هي نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد، وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة، وإنجاز هذا العمل لا يمكن أن يتم في نظره إلا من خلال استعادة المنظور العالمي المقارن، بحيث يصبح التشكيل الحضاري الغربي تشكيلاً حضارياً واحداً له خصوصيته وسماته مثلما لكل التشكيلات الأخرى خصوصيتها وسماتها، ولهذا لا اعتبار لمنهجية التعميم التي تحاول فرض نمط حضاري معرفي تشكل في ظروف ذاتية خاصة على تشكيلات حضارية خاصة لها مسار تاريخي معين، وقد فشلت كل محاولات التعميم في العالم العربي الإسلامي، لأنها لم تدرك هذه الخصوصيات.
ويؤكد المسيري باستحالة تكرار النماذج في سياقات حضارية مختلفة، وتبنيها في توليد نماذجنا المعرفية والحضارية كمسلَّمة ثابتة، يقول: " يجب أن نعرف أن المشروع الغربي لسد كل الثغرات وللتوصل للقانون العام مشروع مستحيل من الناحيتين المعرفية والعلمية، فمن الناحية المعرفية يفترض هذا النموذج بساطة العقل وبساطة واقع الإنسان الطبيعي والاجتماعي، وبساطة الدال اللغوي، وبساطة المدلول الإنساني، وبساطة العَلاقة بينهما، وهو يفترض بيقين كامل متعصب أن رقعة المجهول ستتناقص بالتدريج وستتزايد رقعة المعلوم، وأن تحكم الإنسان في الواقع سيصبح كاملاً، وهو افتراض أقل ما يوصف به أنه طفولي سخيف ".
يذهب المسيري إلى أن أزمة هذا النموذج أزمة مركبة تنطلق من أنه نموذج يضمر نزعات عدمية معادية للإنسان، فهو مشروع يصفي ظاهرة الإنسان كظاهرة متميزة في الكون (حتى تصفى كل الثنائيات)، وهو ينكر على الإنسان أي خصوصية، وينكر أن عقله مبدع فعال، ومن ثم ينفي مركزيته في الكون، فأنشأ نظام التماثل بين الظواهر الإنسانية والمادية الصماء، فلا فرق بين الإنسان عنده واليرقة، كما يقول المسيري.
فسقطت في هذا النموذج المعرفي كل الحدود الإنسانية ومعها كل الهويات، لإنجاز الوحدة المنهجية بين هذه الظواهر، والوصول إلى درجة عالية من اليقينية والشمولية في التفسير، مستبعدة الإنسان كعنصر فاعل ومؤثر في المعرفة ومسارها، وحولته إلى عنصر متلقٍ سلبي، لتحقيق النظر الموضوعي، فينحصر عمل وجهد الإنسان المعرفي في عملية تراكمية، تلغي كل خاصية ذاتية له.
وينتقد المسيري العقلانية المادية الغربية أو ما يسميه بالموضوعية المتلقية، وهي النماذج الإدراكية والتفسيرية التي تبنتها الاستنارة الفكرية الغربية بعقلانيتها المادية، حين اعتبرت المعرفة عملية تراكمية تتكون من مجرد التقاط أكبر قدر ممكن من تفاصيل الواقع كما هو تقريباً بصورة فوتوغرافية، وأن المعطيات الحسية تتراكم لتكون أفكاراً بسيطة من تلقاء نفسها وبشكل آلي فلا يختلف باحث عن آخر في إدراك الحقائق، فإن عملية التراكم هذه ستؤدي إلى التوصل إلى معرفة موضوعية خالية من التحيزات، فلا اعتبار لذاكرة الإنسان الباحث وآماله وأحلامه باعتبارها تشكل عائقاً في طريق التلقي الموضوعي والرصد الفوتوغرافي، كل هذا يعني عند المسيري أنه لا يوجد فرق بين الإنسان والطبيعة بين العلوم الطبيعية والإنسانية، ومن ثم استبعدت كل العناصر التي تتجاوز سطح المادة، أي استبعدت كل ما يميز الإنسان كإنسان، وانتهى الأمر باستبعاد الطبيعة البشرية ذاتها بوصفها نقطة مرجعية، وتم تأكيد أن البحث العلمي الحقيقي لا بد أن يستبعد الذات والخيال والقيم، فهو يجب أن يكون موضوعياً ومنفصلاً عن القيمة، ويطلب من الباحث أن يتجرد من ذاكرته التاريخية. مما يجعل هذه الموضوعية المتلقية موضوعية منزوعة الجذور لا انتماء لها. لكن هذا النموذج التفسيري مُني بإخفاقات، لأن الافتراضات التي استند إليها الفكر الموضوعي تنبع من العقلانية المادية لعصر التنوير، وقد ثبت أنها افتراضات إما خاطئة أو بسيطة إلى درجة كبيرة، ولذا فمقدرتها التفسيرية ضعيفة، رغم ذلك يؤكد المسيري أن لهذا النموذج فعاليته في مجاله (عالم الظواهر الطبيعية)، لكنه يفقدها ويصبح أداة اختزال حين يطبق على الظواهر الإنسانية، كما عرف استقطاباً حاداً بين العلماء في الغرب انتهى إلى أزمة المنهج في الفكر الغربي، وواكبته احتجاجات وانتقادات منذ عصر النهضة، ومراجعات للأسس المنهجية التي أفرزتها العقلانية المادية الغربية الأنوارية في مجالات شملت كل ميادين المعرفة (النقد الأدبي، اللغة، الفلسفة، التاريخ، العلوم الطبيعية والإنسانية).
ويطالبنا المسيري بإعادة تعريف الغرب وفقاً لما يطرحه والنتائج التي يحصدها من هذا الطرح، وعدم الاكتفاء بتعريفه وفقاً لما يفرضه هو من تحيزاته، ثم الوقوف والتحرك في الحاضر صوب مستقبل تسوده قيم الإنسانية المشتركة وليس الفردوس الأرضي المزعوم. من شأن هذه القدرة في إعادة التعريف وإنشاء خرائط إدراكية بديلة أن تعيد ترتيب العلاقة بين الغرب والأمة على المستوى المعرفي والحضاري، ونخرج من دائرة الموضوعية المتلقية السلبية الكسولة (حسب المسيري) التي سقطنا فيها أثناء بناء مشاريعنا الفكرية واختياراتنا المنهجية. هذا السقوط منعنا من رصد الجوانب السلبية في هذا النموذج، فعملية النقل السلبية التي مارسها رواد النهضة على تعدد توجهاتهم ومرجعياتهم تحولت في رأي المسيري إلى آلة فوتوغرافية أسكتت ذاكرة الأمة وقتلت مقدراتها وقدرتها على الإبداع والخَلْق.
فالخريطة الإدراكية للنخبة العربية، مع ما تعانيه من فقر (على مستوى المرجعيات) أدت إلى تصور أن نهضة الغرب هي نهضة الأمة على أساس هذا التماثل غير الطبيعي، فحين تتبنى أمة من الأمم النماذج الإدراكية لمجتمعات أخرى يتوقف عندها الإبداع والحلم ولعل الجابري يشترك مع المسيري في المقدمات والملاحظات نفسها، مع اختلاف على مستوى الرؤية والمنهج، فوقعت في التبعية الإدراكية، أي إن الآخر هو الذي يصوغ المقولات والنماذج التحليلية والتفسيرية، واستبطانها بوعي أو بدون وعي ويعتبر "إمبريالية المقولات" تعبيراً عن هذه التبعية الإدراكية للغرب. يقول: " وأعتقد أنه يتحكم في رؤيتنا للعالم مخزوننا الإدراكي المشبع بالهزيمة. لقد قامت المقولات التحليلية الغربية بغزونا منذ نهاية القرن التاسع عشر وأصبحنا ننظر إلى أنفسنا من خلال المقولات الغربية ".
يقول المسيري في هذا الإسهال المصطلحي والمفاهيمي الذي أصابنا وأصاب جهاز التفكير عندنا هو إحدى مشاكل الفكر العربي الذي ما يزال فكراً موضوعياً، أي يتعامل مع المضامين المباشرة ولا يصل إلى العلاقات الكامنة أو إلى النموذج الكامن في كل ما يستورده ويستهلكه من المعرفة والحضارة الغربية. ويرى المسيري أن النماذج المعرفية الإدراكية ليست معايير واحدة ومماثلة، إذ لكل نموذج معرفي معاييره الداخلية أو (مرجعيته النهائية) التي تتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق وتزوده ببعده الغائي، وهو جوهر النموذج والقيمة الحاكمة التي تحدد النموذج وضوابط السلوك، حلال النموذج وحرامه، وما هو مطلق ونسبي من منظوره، فهي باختصار مسلمات النموذج الكلية أو مرجعيته التي تجيب عن الأسئلة الكلية والنهائية.
وعلى ضوء هذه الحقيقة والمرجعيات يحدد المسيري مفهوم المنهج في البحث العلمي، إذ المنهج ليس هو مجرد آليات وإجراءات تقنية يوظفها الباحث في دراسة الظواهر، بل هو إجراءات وآليات تتضمن تحيزات محددة وأعباء إيديولوجية، إذ من خلالها يتم استبقاء بعض التفاصيل والمعطيات والمعلومات، واستبعاد أو تهميش البعض الآخر حسب خريطة الباحث الإدراكية، وحسب النموذج المعرفي الذي يحدد من خلاله الجوهري من الهامشي، وعليه فالمنهج هو تعبير عن طريقة تفكير الباحث ورؤيته للعالم. (يصدق هذا التحليل على النماذج السابقة القومية والعلمانية واليسارية أثناء تعاملها مع التراث ومخزون الأمة الحضاري ورموزها).
يتحدد المنهج عند المسيري باعتباره رؤية معرفية يُبنى من خلال النموذج المعرفي لكل أمة، ومن خلاله تحدد الأسئلة والمقدمات ونحصل النتائج، وفي حالة عدم امتلاك هذه الرؤية وهذا المنهج سنجد أنفسنا نطرح أسئلة حُددت لنا سلفاً قد لا تعنينا كثيراً، ونصل في نهاية الأمر إلى نتائج تدعم وجهة نظر الآخر، وتهمل قضايا مصيرية في الأمة ونُرغم على الدخول في حركة تاريخية خطية أحادية التصور والرؤية والنموذج، وتهمل التعددية والحق في الاختلاف.
فهذا الإحساس والإدراك بعدم براءة هذه النماذج والآليات المنهجية الموظفة في تحليل بنية المجتمع العربي الفكرية واستبطانها لنماذجها القيمية، جعل المسيري يدعو إلى ضرورة إخضاع المنهج الذي نستخدمه لعملية تقييم حتى نكتشف تحيزاته وننقي آلياته منها، أو على الأقل نطوعها بحيث يمكن توظيفه وتوظيف آلياته داخل إطارنا المعرفي، فيمكن أن استخدم المنهج البنيوي(1) في التحصيل دون أن أصبح بنيوياً معادياً للإنسان، وأن استخدم المنهج التفكيكي(2) دون أن أصبح تفكيكياً عدمياً، داعياً إلى تجاوز الخطاب الاختزالي، وتبني الخطاب التفسيري التركيبي في تقييم النماذج المعرفية الغربية لأن التوقف عند المستوى الجزئي مع بقاء البناء على حاله قد يؤدي إلى عملية ترقيع وتلفيق تُفقدنا هويتنا دون أن نكتسب هوية جديدة. بهذه الرؤية يتجاوز المسيري النماذج المعرفية التفسيرية، التي عرفها تاريخ المناهج في الغرب وهيمنت على الفكر العربي الحديث والمعاصر، العلماني، القومي، المادي، ليؤسس لخريطة إدراكية ولنموذج معرفي يستمد مقوماته من النموذج المعرفي الإسلامي التوليدي (عبد الله أخواض، 2022، ص: 175-179).
خلاصة القول، نجد أن عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر• Max Weber (1864-1920) يعتبر من أهم الدارسين لهذه القضية أثناء عرضه لمنهج النموذج المثالي**. وتتلخص فكرته الرئيسة في أن كل التعريفات، هي تعريفات تحكمية وأن قيمة التعريف للمفهوم تتحدد في ضوء فائدته في البحث وصياغة النظرية الاجتماعية، إن المنهج الذي اعتمده فيبر لا يستمد النظرية الاجتماعية معتمداً فقط على العلاقات الاجتماعية بين الوسائل والغايات، وإنما يربطها باستمرار بنسق اجتماعي معين، وبالظروف التي يتم في ضوئها تحقيق الغايات، ومن ثم، يؤكد فيبر باستمرار أن كل المفاهيم التي يقدمها لا تكفي في حد ذاتها، وإنما لا بد أن يستخدمها علماء الاجتماع في تجسيد النماذج المثالية لتفسير مشكلات اجتماعية ملموسة، بل الأكثر من ذلك أن هذه النماذج بدورها ليست غاية مطلقة ولكنها وسيلة للتفسير والتحليل المنطقي.
وبذلك يكون فيبر اعتمد منهجاً مغايراً لما كان سائداً في الدراسات الاجتماعية. وسمة هذا المنهج الأساسية هي اعتماد النسقية المركبة واكتشاف القوانين التي تساعد في دراسة العلاقات التي تربط بين مجالات الظاهرة المختلفة بشكل يحفظ للإنسانية طابعها التركيبي. وهو بذلك تجاوز النظر التجزيئي الذي لا يمكن أن يفسر الظاهرة الإنسانية. فالأساس، إذن، في بناء النموذج المثالي حسب ما يرى فيبر هو التشديد على فكرة ما، أو عدة أفكار، أو على وجهة نظر ما، أو عدة وجهات نظر واستخراج طائفة من الحوادث المعزولة، الغامضة والخفية، التي يكثر العثور عليها أحيانا أو يتضاءل وربطها بوجهات النظر المختارة من أجل أن ننشئ منها لوحة متجانسة.
ويبدو أن هذه الرؤية المنهجية قد تعمقت بشكل كبير عند المسيري، فكانت إسهاماته الأساسية في مجالات الفكر العربي تكمن أساساً في توظيف النماذج التفسيرية باعتبارها أدوات تحليلية، وهي إضافة منهجية ونوعية أنتجت عملاً فكرياً متكاملاً في جميع نتاجه الفكري والأكاديمي التي تتوزع على حقول معرفية مختلفة ومترابطة في الآن نفسه، فهو يربط بين دوائر فكره المختلفة ربطاً مركباً عبر نماذج تحليلية، فلا يرى القارئ في الحقيقة غرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية، وفي نقد الشعر وفي نقد الحداثة وفي العلمانية كنموذج معرفي وفي التحيز الأكاديمي العلمي الغربي وضد نهاية التاريخ وفي الخطاب الإسلامي الجديد... وأخيراً يكتب كتب متميزة للأطفال تنال جوائز، فالخيط الناظم لذلك هو رؤيته الإنسانية المتجاوزة.
بذلك يستمد المسيري هذا البعد المنهجي التكاملي من إسهامات علماء الاجتماع، خصوصاً ما قدمه فيبر حول النماذج المثالية، يقول وكلمة نموذج كما استخدمها هي قريبة في معناها من كلمة theme، وهي تعني الفكرة المجردة والمحورية في عمل أدبي ما والتي تتجاوز العمل ولكنها مع هذا كامنة فيه وفي كل أجزائه تمنحه وحدته الأساسية وتربط بين عناصره المختلفة، كما أن الكلمة قريبة في معناها من مصطلح النمط المثالي Ideal Type الذي استخدمه فيبر كأداة تحليلية.
وفي النهاية يمكننا استخلاص تعريف المسيري للنموذج التفسيري عندما يقول: عندما يتجه الإنسان إلى ظاهرة ما مستهدفاً تفسيرها، فإنه يقوم بعدة خطوات حتى يصل إلى هذا التفسير، وحينما يرى الإنسان ظاهرة ما، فعليه التعامل مع عدد كبير من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، وعندئذ يقوم العقل باستبعاد بعضها لأنه يعتقد أنها لا دلالة لها (من وجهة نظره) ويستبقي البعض الآخر وهذا هو التجريد وتأتي بعد ذلك خطوة الربط بين العلاقات والوقائع والحقائق التي أبقاها فينسقها تنسيقاً خاصاً بحيث تصبح حسب تصوره مماثلة للواقع، أي أن تكون قادرة على تقديم صورة معبرة بشكل صحيح عن الواقع، وما ينتج عن عملية التجريد وتصور العلاقات بين عناصر الظاهرة يسمى "النموذج" فهو بناء يماثل الواقع لكنه افتراضي، أي متخيل ومع هذا تشبه العلاقات بين عناصره العلاقات الموجودة بين عناصر الواقع.
بذلك يتأسس النموذج التفسيري وفقاً لعمليات التجريد والتنسيق وهي عمليات تدخل ضمن اختصاصات العقل التوليدي، ومعنى هذا أن العقل ليس آلة فوتوغرافية صماء دورها الأساسي تسجيل الصورة ونقلها كما هي بدعوى الموضوعية، بدون أدنى عمليات التنسيق والربط. بل، إن للعقل دورا فعالا في عملية إدراك الواقع. وبالتالي فهم الظاهرة في حالتها الكلية، وذلك عبر مرحلتين أساسيتين: مرحلة الوصف، وتتحقق عبر تفكيك الظاهرة إلى مفاهيمها الأساسية. ثم، مرحلة التركيب، أي تركيب المفاهيم وكشف متغيرات الظاهرة وتفاعلاتها عبر الزمن. وتكون بذلك خلاصة هذه العملية اكتشاف النموذج الأكثر قدرة على التفسير.
وهكذا نجد أن النموذج عند المسيري ليس إطاراً للعلاقات النسبية، ولا نظرية لتحديد الأسباب، وليس إطاراً تجريبياً صارماً. وإنما هو إطار لتنظيم المعرفة وتحديد العلاقات والتركيبات الداخلية كما يحتوي المعلومات وينظمها ثم يعيد ترتيبها مع كل معلومة جديدة. كما يؤكد المسيري أن النماذج التحليلية نماذج واعية يصوغها الباحث من خلال قراءته للنصوص المختلفة، وملاحظته للظواهر المتنوعة، فيقوم بتفكيك الواقع وإعادة تركيبه من خلالها، بحيث يصبح الواقع أو "النص" مفهوماً ومستوعباً بشكل أعمق، ويصف بعض الباحثين أسلوب المسيري في تشكيل النموذج التفسيري، حيث إنه يحدد مفاهيم كل مفهوم منها يصف جانباً من الظاهرة ويعرفه، فيصبح اسما له.
ثم يقيم المسيري العلاقة بين مفهوم وآخر من خلال حالة التقابل واللقاء الواقعي بين المفهومين وبالنظر التاريخي، يتحول المفهوم إلى تاريخ معرفي، فتصبح له حالات تتطور عبر الزمن ومنها يكتسب المفهوم بعدا تاريخياً يجعله مماثلاً لتاريخ الظاهرة، ويعيد المسيري الربط بين المفاهيم في حالتها التاريخية، حتى يكتشف التاريخ المشترك لها ومع تعدد المفاهيم يتحول النموذج التفسيري إلى نموذج متعدد الأبعاد، فلا يفسر الظواهر من خلال تركيب أحـادي، بل من خلال التركيب المتعدد. ومن التاريخية ثم تعدد الأبعاد، ثم التفاعل بين الأبعاد يتشكل النموذج المعرفي في صورة تتماثل مع الظاهرة، من حيث التركيب والتعدد والتفاعل.
لقد استطاع المسيري أن يتخلص من القبضة الحديدية التي تفرضها النماذج المعرفية الغربية، بسماتها التفكيكية المعلوماتية المتحيزة، وأن يخلق إطارا معرفياً يرتبط بالحقل التداولي العربي المتجاوز، تتم من خلاله عملية اكتشاف الذات والآخر معاً، الأمر الذي دفع المؤرخ الأمريكي المعاصر كافين رايلي Kevin Riley (1941- ) إلى أن يصف المسيري بأنه "مفكر عربي في سياق عالمي".
وبعد، فقد حاولنا أن نلامس في هذا المدخل مفهوم النماذج التفسيرية، وهي كما أشرنا آليات تحليلية، لعل أبرزها تلك التي وظفها المسيري في موسوعته، فهي تقوم على بناء ثلاثي الأبعاد: العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية والجماعات الوظيفية. وتجدر الإشارة إلى أن عملية الفصل بين هذه الأبعاد التي سننهجها في معرض تناولنا لها في المباحث الثلاثة اللاحقة، لا تعني انفصالها، وإنما الضرورة المنهجية هي التي أفضت بنا إلى ذلك. فالنماذج الثلاثة متصلة ومتداخلة، أنتجت عملاً متكاملاً في الموسوعة التي تتسم بالترابط الشديد، أضف إلى ذلك أن عملية التحليل والتركيب التي يقدمها هذا الإطار المعرفي، هي عملية في حالة تفاعل مستمر، فهي تتطور من خلال اكتشاف كل جديد أو إضافة للظاهرة موضع الدراسة، وهو ما يعني أن النموذج ليس ثابتا وإنما هو في حالة حركة مستمرة، وبذلك فان عملية ضبط النموذج في حالة تاريخية معينة تعني اغتياله
ثانياً- النموذج المعرفي الإسلامي التوليدي (الأسس والمنطلقات): وهكذا يزداد الوعي بأهمية المنهج في السياق العربي الإسلامي، بالخصوص لما أصبح الإنسان مهدداً في وجوده، وذلك مع تغول الرؤى المادية الغربية، وهيمنتها على البحث العلمي في مختلف الميادين وحتى الإنسانية والاجتماعية منها، لتأتي محاولة عبد الوهاب المسيري لترسم معالم جديدة لدراسة الظاهرة الإنسانية، فكانت النماذج كمنهج للتحليل من إسهاماته القيمة، والدليل على ذلك أن رؤيته لم تقف عند نقطة الرصد لمنزلقات النموذج المعرفي الغربي وتحيزاته، وانتقادها للتيارات التغريبية في الوطن العربي وفشلها في صناعة نماذجها المعرفية الخاصة، بل سعت إلى اقتراح بديل معرفي لتجاوز مثالب النماذج المستعارة، من خلال الأسس المنهجية التالية:
1- صياغة الهوية العربية الإسلامية: شكلت الهوية العربية الإسلامية أهم عناصر النموذج الذي حاول المسيري صكه للبناء وللإعمار، وهو نموذج مستلهم من البيئة العربية الإسلامية وغير مهزوم أمام الآخر من المرجعية الكبرى للأمة (الوحي) لا خارجها، ودفاعه عن هذه الهوية (المرجعية) ليس من باب الكلام المرسل أو الشعارات التي يرددها بصدق كثير من مثقفي الأمة، وإنما عن دراية بسبل تأكيد الهوية، فأولى خطوات النهضة إنما تبدأ عنده بإعادة الثقة فيما نملك، فلدينا قيمة مطلقة من استخلافنا في الأرض، إلى جانب قيم واقعية متمثلة في الموروث الحضاري القيمي، نسمات هذا البديل نابعة من هذه المرجعية المطلقة: القرآن والسنة اللذان يحويان القيم الإسلامية المطلقة والإجابة الإسلامية على الأسئلة النهائية، لكن لا ليكرر النموذج المرفوض (نموذج الموضوعية المتلقية) والوصول إلى قوانين صارمة نهائية وصيَغ جبرية تفسر كل شيء، وتستبعد الذات الإنسانية، فالنموذج المقترح لن يسقط في الموضوعية المتلقية، والتي تفترض عقلاً قادراً على الإحاطة بكل شيء، وواقع بسيط يمكن الإحاطة به، كما أنه لن يسقط في الذاتية التي تعني ذاتًا متمحورة حول نفسها لا تكثرت بتركيبة الواقع، وتحاول أن تُملي رؤيتنا وإرادتنا عليه.
ارتباط مفهوم الاجتهاد بهذا النموذج البديل عنده سيحول دون السقوط في المنحى الذي حاربه في النموذج المتلقي، لأن المنطلقات المرجعية مختلفة، فالنموذج الاجتهاد التفسيري تتسم فيه بالتوليدية والانفتاح والتركيب، عكس النموذج المتلقي الذي تتسم فيه بالتراكم والانغلاق والاختزال، وأن محاولة المعرفة الكاملة والتحكم الكامل محاولة شيطانية مستحيلة؛ لأن الواقع الإنساني مركب ثري ولا نهاية لهذا التركيب وهذا الثراء.
وأهم منطلقات هذا النموذج المعرفي هو إدراك أن ثمة حيزاً إنسانياً يترك فيه الإنسان ويمارس إنسانيته، ومن ثم يصبح مختلفاً عن الكائنات الطبيعية، فهو كائن مركب وعنصر حر مسؤول لا يتجاوز حتميات النظام الطبيعي المادي، ولا يمكن أن يرد في كُليته إليه، ولا يمكن أن يمزج بالظواهر الطبيعية ويذوب فيها... وهذا يعني أن ثمة ثنائية أساسية تترجم نفسها إلى انفصال بين الإنسان المركب والواقع الطبيعي المادي.
فالمقولة الإنسانية جوهر هذا النموذج بإمكانات هذا الإنسان وعلامات تميزه وتفرده كائناً فريداً مركباً، والعالم من منظور النموذج البديل ليس مادة مصمتة، بل تتسم بثنائية لا يمكن تصفيتها، وبدلاً من استخدام مقولات مادية تفسيرية وحسب، تفرض الواحدية على الواقع وتسوي الإنسان بالطبيعة، يمكن استخدام مقولات تفسيرية مادية، غير مادية، كمية - كيفية مستمدة من النظام الطبيعي متجاوزة له في ذات الوقت، ومن ثم يمكننا من خلالها التعامل مع ظاهرة الإنسان في كل تركيبتها. نموذج يعترف بكل الثنائيات، ولا يعمل على تصفيتها: ثنائية الإنسان والطبيعة، ثنائية الخالق والمخلوق، وهي الثنائيات التي استطاع المسيري أن يؤسس من خلالها نماذجه التفسيرية وخرائطه الإدراكية، ومن ثم استطاع قراءة الأحداث على تنوع مجالاتها وساحاتها (الفكرية والسياسية، والفنية والأدبية…) من خلال وضعها داخل نماذج فضفاضة لا تنغلق على ذاتها.
وعلى هذا الأساس فالإنسان ووحداته الاجتماعية لا يمكن تصفيتها لصالح الدولة، والماضي لا يمكن إسقاطه أو تجاهله لصالح الحاضر، ولا يمكن إلغاء الحاضر لصالح الماضي أو المستقبل، والإنساني لا يمكن تجاهله لصالح الطبيعي، بذلك يزحزح المسيري كل العقائد المنهجية التي عرفها الفكر الغربي والعربي على حد سواء، ويعيد تركيب وصياغة المنهجيات والآليات التفسيرية، وفق النموذج المعرفي الإسلامي، ووفق الخريطة الإدراكية التي يؤسسها النموذج الذي سماه نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، بمعنى أنه يسمح بوجود ثغرات بين الأسباب والنتائج، بين الكل والجزء، وبين الأجزاء بعضها وبعض ولذا لا يسقط في الواحدية أو التماسك العضوي. ووجود الله تعالى هو ضمان ألَا تسد هذه الثغرة وألَا تصفى ثنائية الإنسان والطبيعة، إذ تظل هناك مقولة تفسيرية غير مادية تشكل ثنائية كبرى، هي ثنائية الخالق والمخلوق، تتفرع عنها كل الثنائيات الأخرى.
فالإنسان في هذا الكون يتمتع بكامل الحرية دون أن يعني ذلك استقلاله عن الله تعالى وإرادته ومشيئته، فيكون النموذج الاجتهادي هو الذي يحدد المسافة بين المطلق (الله تعالى)، والنسبي (العقل الإنساني وإرادته) في تفسير الأحداث ورصدها وتركيبها. نموذج لا يطمح للتحكم الكامل والمعرفة الكاملة أو التفسير النهائي أو اليقين المطلق، فإنه لن يحاول الوصول إلى نظرية كبرى شاملة نهائية، وإنما إلى نظرية كبرى وشاملة نسبياً أو داخل حدود ما هو ممكن إنسانياً (عبد الله أخواض، 2022، ص: 180-183).
2- تنقية المصطلحات والمفاهيم من التحيزات الغربية: إن المفاهيم والمصطلحات لا تخرج عن سياقها التاريخي، ففي سبيل استكمال البناء، يطرح المسيري إشكالية المصطلح والتحيز، فبناء النماذج المعرفية والآليات التحليلية يفرض إدراك هذا التحيز المصطلحي، بمعنى أن ثمة اختلافات جوهرية تحددها اللغة الإنسانية، إذ لا توجد لغة إنسانية واحدة تحتوي كل المفردات الممكنة للتعبير عن الواقع بكل مكوناته، أي لا بد من الاختيار، وكل لغة مرتبطة إلى حد كبير ببيئتها الحضارية وأكثر كفاءة في التعبير عنها.
ويدرك المسيري أهمية المعجم العربي في توليد المفاهيم وبناء النموذج المعرفي، لأن اللغة مرتبطة بحضارتها، فلا يمكن أن تنتج بلغة غيرنا ومفاهيمها، فجهاز مفاهيمنا ينبغي توليده وبالضرورة من هذه اللغة المتجذرة تاريخياً وحضارياً، فمعظم المصطلحات التي نستخدمها في العلوم الإنسانية تم استيرادها من الغرب بأمانة وموضوعية دون إدراك للمفاهيم المتحيزة، ولهذا فقَدَ الإنسان العربي القدرة على تسمية الأشياء، ومن لا يسمي الأشياء يفقد السيطرة على الواقع والمقدرة على التعامل معه بكفاءة.
كما يرى المسيري أن التحيز في المصطلح تحيز مزدوج، تحيز سياقه، وتحيز من صاغه. ولهذا فإن المصطلحات التي نستوردها تم سكها في العالم الغربي بعناية بالغة تنبع من تجارب تاريخية ونماذج تحليلية ورؤى معرفية ووجهات نظر غربية ومرتبطة بسياقها الحضاري الذي نشأت فيه. ويدعو إلى تنقية المعجم المصطلحي والمفهومي المتداول منذ القرن التاسع عشر وإنشاء، وتوليد مفاهيم بديلة تعبر عن حقيقة الرؤى التي نحملها ونبشر بها وتحررنا من تحيزات الحضارة الغربية.
أما منهجية بناء هذه المفاهيم وتوليدها فتبدأ عنده بالدعوة إلى إلغاء الاعتماد على الترجمة للأسماء والأشياء ومعانيها، والنظر إلى الظاهرة في سياقها، بحيث تتم دراسة المصطلح الغربي الذي يشير إليها في سياقه الأصلي دراسة جيدة، والتعرف على مدلولاته، ومحاولة توليد المصطلح من داخل المعجم العربي، بحيث لا يكون ترجمة حرفية دون أن يعنيَ ذلك انغلاقاً على الذات، لأن الانفتاح الحقيقي هو عملية تفاعل مع الآخر نأخذ منه ونعطي ونبدع من خلال معجمنا؛ لأن الإبداع من خلال معجم الآخر مستحيل.
لذا يرى ضرورة تفعيل المعجم العربي حتى نتمكن من توليد معارفنا ومناهجنا واكتساب القدرة على التواصل والتعبير عن هويتنا الحضارية، فمن الظواهر ما لا يمكن التعبير عنها بواسطة النماذج المستوردة بسبب حدودها الإدراكية.
ويعتقد المسيري أنه عندما نتمكن من تحقيق الجهد التفكيكي النقدي الإبداعي للنموذج المعرفي الغربي، وتوضيح هويته وإعادة تركيبه، وزيادة القدرة التوليدية للنموذج البديل، وتحول الغرب إلى مركز من المراكز، سننظر إلى الغرب بدون قلق ودون مركب نقص، ليس كما فعل ويفعل دعاة التغريب، وإنما يمكننا دراسته كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات، ونتعامل معه برؤية نقدية إبداعية منفتحة ووفق قيمنا الحضارية. ما قدمناه من جهد لهذه المحاولة لا يعني أن الأمر قد صفي نهائياً، بل هي محاولة جريئة تنتظرها محاولات أكثر جرأة في إطار عمل مؤسساتي يحتضن الأفكار، ويمكن لها في مؤسسات المجتمع. تلك مشكلة المشاريع الفكرية في عالم العرب والمسلمين. لكن يكفي أن أفكار الرجل أعادت ترتيب كثير من القضايا على المستوى المنهجي ونفثت نفساً جديداً في العقل العربي المسلم، وقدم جهداً متميزاً في منهجية بناء المعرفة، من خلال مفهوم مركزي في مشروعه الفكري، هو مفهوم التحيز، وإعادة تشكيل العقل العربي، من عقل تراكمي اختزالي إلى عقل تركيبي اجتهادي بنائي توليدي (عبد الله أخواض، 2022، ص: 183-184).
من خلال ما تقدم نستطيع القول إن المسيري بوصفه مفكراً كبيراً مبدعاً قدم لنا رؤية فاعلة للمنهج، تتجاوز الأطر المادية الغربية الضيقة والمحدودة، وذلك من خلال محاولته الوصول للنماذج كمنهج لتحليل الظواهر الإنسانية والاجتماعية المختلفة، الذي يعتبر فتح جديد، من قِبله في الدراسات المنهجية للظواهر الإنسانية والاجتماعية في السياق العربي - الإسلامي، ويتجلى لنا تميزها (النماذج) من خلال المعاني التي حاول إضفاءها، على هذه المحاولات الجادة، والتي تستقي معينها من مرجعية عربية إسلامية. إن أهمية المنهج لتحليل الظاهرة الإنسانية، وذلك للتوصل إلى تفسيرها، يستمد ضرورته من التراجع والجمود في الحضارة العربية الإسلامية، والتقليد الحاصل في منهج البحث عند العديد من المفكرين العرب والمسلمين، ثم من الهيمنة المادية الغربية الحديثة والمعاصرة وعدم تفريقها بين الإنسان والطبيعة (المادة)، فالاهتمام بالإبداع في المنهج في السياق العربي الإسلامي، كفيل بالتوصل إلى نتائج إيجابية في دراستنا لمشكلاتنا وفق خصائصنا وطبيعة مجتمعاتنا، وهو ما من شأنه أن يجعلنا فاعلين لا منفعلين بمنجزات الغرب الحضارية في مختلف الميادين، وبالخصوص في المنهجية منها.
وفي النهاية تبقى محاولات المسيري، للتوصل للنماذج كمنهج في التحليل درباً ونبراساً وإنجازاً جديداً، ليحتذي به كل عقل عربي مسلم يتطلع للبحث والإبداع في المنهج.
اضف تعليق