آراء وافكار - مقالات الكتاب

الحداثة المؤمنة

أفرق تفريقا واضحا بين نوعين من الحداثة، الحداثة الإيمانية، والحداثة الإلحادية، ويرى أننا على مفترق طرق، إما أن نختار الحداثة الأولى، وإما الحداثة الثانية، ولكنه يعتقد أننا لن نتأخر كثيرا في الاختيار، باعتبار أن الحداثة المؤمنة هي الأقرب إلى تراثنا العريق، وإلى شخصيتنا التاريخية، وبها حسب قوله يكون...

في مقدمة كتابه: (من الحداثة إلى العولمة.. رحلة في الفكر الغربي وأثرها في الفكر العربي) الصادر سنة 2010م، استعمل الكاتب السوري هاشم صالح تسمية الحداثة المؤمنة والحداثة الإيمانية، وذلك في إشارة منه إلى الحداثة التي يدعو إليها، وعند التفريق بين نوعين من الحداثة.

في الإشارة إلى الحداثة التي يدعو إليها، يقول هاشم صالح: الحداثة التي أدعو إليها هي الحداثة المؤمنة لا الملحدة، الحداثة التي تجمع بين العلم والإيمان، ولا تفرق بينهما كما تفعل التيارات الإلحادية والمادية البحتة في الغرب، أو كما تفعل التيارات المتطرفة عندنا.

وعند التفريق بين نوعين من الحداثة، يقول صالح: إني أفرق تفريقا واضحا بين نوعين من الحداثة، الحداثة الإيمانية، والحداثة الإلحادية، ويرى أننا على مفترق طرق، إما أن نختار الحداثة الأولى، وإما الحداثة الثانية، ولكنه يعتقد أننا لن نتأخر كثيرا في الاختيار، باعتبار أن الحداثة المؤمنة هي الأقرب إلى تراثنا العريق، وإلى شخصيتنا التاريخية، وبها حسب قوله يكون الفوز الأعظم في الدنيا والآخرة.

تصورت في البدء أن هذا أول استعمال عند صالح لهذه التسمية، وعند البحث وجدت أنه أشار إليها من قبل، وقد وردت في خاتمة مقالته (التذكير بما أهمله التقرير)، المنشورة بصحيفة الشرق الأوسط في 17 أبريل 2004م، وذلك عند قوله في السطر الأخير من المقالة: نحن مع الحداثة المؤمنة والإيجابية، لا الحداثة الملحدة والسلبية أو العدمية.

ومع أن هاشم صالح ليس أول من استعمل هذه التسمية، التي وردت في مقالات وكتابات قبله وبعده، لكن عنصر الدهشة حين يأتي استعمال هذه التسمية منه، وبهذه الرؤية الواضحة في التعبير عنها، ويكفي العودة إلى مقدمة كتابه (مدخل إلى التنوير الأوروبي) الصادر سنة 2005م، لمعرفة منشأ هذه الدهشة، ففي تلك المقدمة دافع صالح عن التنوير الأوروبي بطريقة مثيرة للجدل، وكأنه أوروبي أكثر من الأوروبيين أنفسهم، ومعلنا صراحة أنه قد أدار ظهر كليا للشرق العتيق، وأعلن العصيان على كل ما أسسه منذ نعومه أظفاره، واعتبر نفسه مثقفا منشقا.

كما أن عنصر الدهشة نابع أيضا، من أن هاشم صالح يعد أحد أكثر الكتاب العرب المعاصرين ولعا بالحداثة الأوروبية، التي لا يخفي إعجابه الشديد بها، وندمه على تأخرنا باللحاق بركبها، ولا يكاد يتوقف عن الكتابة عنها، ولعلها من أكثر الكلمات حضورا وتداولا في مقالاته وكتاباته المستمرة، فهي المفتاح بالنسبة إليه الذي نفتح به كل أبوابنا المغلقة، وهي النور الذي يخرجنا من عصر الظلام والظلمات، وهي الكنز الذي يجود علينا بالنفع الوفير.

هذا الولع والإعجاب الذي يصل حد الانبهار والافتتان بالحداثة الأوروبية تحديد، ما كنت أظن أنه سيقرب صالح إلى استعمال شيء اسمه الحداثة المؤمنة أو الحداثة الإيمانية، وبهذه الصورة التي تحدث عنها.

ولا أدري إن كان استعمال هذه التسمية جاء متناغما ومتوافقا مع النسق الفكري عند هاشم صالح، أم أنه يمثل حالة مفارقة ونشاز في هذا النسق الفكري، أم أنه يكشف عن حالة تغير في الموقف عنده، بحثا عن التوازن والاتزان في الموقف بعد كل ذلك الاندفاع والحماس، وهذا ما لم يفصح عنه لا هاشم صالح نفسه، ولا أحد من زملائه ومتابعيه.

ولا أدري إن كان هؤلاء الزملاء والمتابعون يوافقون صالح على هذه التسمية ويرتضونها منه، أم أنهم لهم موقف آخر يميل إلى التحفظ، وتنتابه الخشية، وهذا ما لم يتضح عندي بعد.

وعند البحث عن تفسير ممكن لاختيار هذه التسمية، يمكن القول إن هاشم صالح وجد في كتابات الأوروبيين كلاما عن علاقة الإيمان والتنوير، ورفع حالة التنافي والتعارض بينهما، كما وجد أن بالإمكان الحديث عن تقسيم التنوير إلى تنوير مؤمن وتنوير ملحد، واستنادا على هذه الرؤية، وقياسا على هذا التقسيم، وجد أن بالامكان أيضا الحديث عن الحداثة وتقسيمها إلى حداثة مؤمنة وحداثة ملحدة.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق