q
لقد صدم الغرب العالم في موقفه من غزة وصدمت أوربا كل شعوب العالم في اصطفافها الى جانب إسرائيل وتساءل الناس في كل بقاع الأرض عن حقيقة القيم الغربية وشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكان تساؤلا بمثابة الصدمة امام تأييد الرأي العام الأوربي الرسمي وحتى الشعبي للإجراءات الإسرائيلية العسكرية في...

ظلت القدس تشكل هاجسا دينيا وإنسانيا في ضمير الإنسان المسلم والعربي منذ ان وطأت أقدام الاحتلال اليهودي-الصهيوني تلك المدينة المقدسة في حزيران من العام 1967م وقد عرف هذا اليوم بيوم النكسة في دلالة واضحة على قوة التأثير السلبي النفسي الذي تركه هذا اليوم في ضمير المسلم والعربي، وظلت القدس أيضا تشكل مرجعا أساسيا في الذاكرة السياسية للشعب الفلسطيني ويعبر عن قوة الالتزام بالقضية وعدم الرضوخ الى التنازلات المفروضة إسرائيليا وغربيا وأخيرا عربيا على الفلسطينيين، ومحاولات إلغاء الهوية الإسلامية والعربية التي دأبت عليها إسرائيل والقوى المتحالفة معها في الغرب وبين العرب.

وظلت تضخ تلك الدلالة التاريخية والرمزية للقدس مواقف الصمود والرسوخ على مستوى القضية الفلسطينية خاصة وعلى مستوى الضمير المسلم عامة، واتسعت تلك الدلالة وبرمزيتها الفلسطينية الخالصة لتشتمل على غزة تلك المدينة التي تبنت المواجهة وحمل القضية على مسؤوليتها وتصدت لكل محاولات الاحتلال الصهيوني في محو الهوية الفلسطينية في الأراضي المحتلة.

وتستمد غزة من تاريخها الخاص قوتها في المواجهة والتصدي فهي المدينة العريقة تاريخا والقديمة صلة بالوجود العربي، فقد كانت قبلة التجار من قريش في رحلة الصيف وإليها تنتهي رحلة الإبل من مكة وفيها دفن هاشم بن قصي جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما يكسبها رمزية مهمة في الذاكرة العربية والإسلامية، ومرت عليها وحكمتها إمبراطوريات العالم القديم من المصريين الفراعنة الى الرومان الى فتوحات العرب المسلمين الى غزو الصليبين الأوربيين ثم المماليك المصريين ثم العثمانيين الى احتلال البريطانيين ثم الى إسرائيل، لكنهم كلهم عبروا ومروا وظلت غزة بهويتها وتقاليدها ولم تستوعب إلا الهوية العربية والإسلامية فقد ظلت وفية الى ذلك الجذر الديني والقومي.

ثم هي تستمد قوة صمودها من تاريخ لها في المواجهة ورفض شعبها النزوح من الأراضي المحتلة وصمودها المستمر في قضيتها الفلسطينية، فقد كانت ضمن مجموعة المدن التي اختيرت للدولة الفلسطينية في مشروع قرار الأمم المتحدة في العام 1947م ضمن حل الدولتين الفلسطينية واليهودية والذي أفشلته حرب عام 1948م، ولم تتعرض الى الاحتلال في هذه الحرب بل ألحقت بدولة مصر على أثر المعاهدة التي وقعتها مصر مع إسرائيل حتى احتلال إسرائيل لها في عام النكسة 1967م، ثم كانت جزء من دولة فلسطين التي تمخضت عنها اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993م وفي العام 1994م انتقلت السلطة المدنية فيها إلى سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، لكن شعب غزة لم يخضع الى صيغة الأمر الواقع ولم يقبل باستقلال زائف فاستمر في احتجاجه ونضاله ضد إسرائيل وضد المتواطئين معه من الداخل الفلسطيني، فاندلعت اشتباكات بين منظمة حركة المقاومة الإسلامية/ حماس التي شهدت ظهورا قويا لها في تلك الفترة ومنظمة التحرير الفلسطينية عراب اتفاقية أوسلو التي كادت أن تقضي على حلم الدولة الفلسطينية بالوعود الأميركية والغربية الزائفة بحل الدولتين وقد انضمت إليها الوعود العربية المتخاذلة.

لقد خرجت غزة بقوة إرادتها وقوة شعبها عن سيطرة الاحتلال وسيطرة القوى المتحالفة معه داخليا، وصارت مدينة مستقلة بكامل إرادتها ومواقفها التي لم تخضع الى سياسات التسوية والاستسلام والخضوع الى سياسة الأمر الواقع بل سعت الى فرض إرادتها في تغيير هذا الواقع وإلغاء الواقع المصطنع الذي صنعته إسرائيل بمعاونة القوى المتحالفة معها دوليا وإقليميا، لقد ظلت غزة ذلك الصوت الوحيد الذي يغرد بالتحرير وينبيء عن آمال وتطلعات الضمير المسلم والعربي في فلسطين وفي العالم الإسلامي بشكل عام.

لقد أدركت قوات الاحتلال الصهيوني ومعها كل القوى المتحالفة معها دوليا وإقليميا وللأسف عربيا أن غزة تمثل صخرة التاريخ الفلسطيني العربي والإسلامي، وأنها جذوة الصراع الأبدي بين الكيان الغاصب والحق العربي والإسلامي، وأنها قد حذفت كل مفردات الخضوع والتطبيع من قاموسها السياسي والاجتماعي، وأنها رهنت مصيرها بعروبة القدس وإسلاميته، بل أن القدس ظل مرتهن بإرادة الحرية في غزة بعد ان لملمت الدول والمدن العربية كل أوراقها في مقامرات التطبيع ومعاهدات السلام غير المتكافئ سياسيا وعسكريا.

وعلى أثر تلك القناعة الإسرائيلية والغربية والأميركية قررت إسرائيل أن تعمل بمخططات الإبادة الشاملة والكلية لغزة مدينة وشعبا وحركة ومقاومة، فأعلنت عن عزمها المطلق هذا دون رادع من عالم متحضر كما يدعي أو قانون دولي عرف دائما بازدواجيته في التطبيق والتنفيذ، فكان القصف المدفعي وقصف الطائرات وبأطنان بلغت الآلاف من القنابل وجربت كل أنواع الأسلحة المتطورة لا إنسانيا في استهداف غزة فسقط الاف الشهداء وعشرات الآلاف جرحى وخربت المساكن والمنازل وأمام مرأى العالم المسمى حرا وبتأييد منظمات الحقوق السياسية والمدنية في الغرب لما تقوم به إسرائيل.

لقد صدم الغرب العالم في موقفه من غزة وصدمت أوربا كل شعوب العالم في اصطفافها الى جانب إسرائيل وتساءل الناس في كل بقاع الأرض عن حقيقة القيم الغربية وشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكان تساؤلا بمثابة الصدمة امام تأييد الرأي العام الأوربي الرسمي وحتى الشعبي للإجراءات الإسرائيلية العسكرية في إبادة شعب ومدينة غزة مما وضع العالم أمام حقيقة تلك القيم وخوائها الإنساني والأخلاقي.

لقد سرت في أوربا موجة من التضليل الإعلامي قامت بها جهات أوربية وأميركية إعلامية وسياسية وعلى أعلى المستويات السياسية والحكومية في تأييد الرواية الإسرائيلية – الصهيونية في أحداث السابع من أكتوبر، ونسبت أعمالا بربرية ووحشية الى فصائل المقاومة الفلسطينية في ما أقدمت عليه من مجازر وعمليات قتل واغتصاب فتيات وقطع رؤوس طال حتى الصبية والأطفال الرضع بل وحرق الجثث للأطفال.

وقد تبنى تلك الرواية رئيس الدولة الكبرى في العالم بايدن ووزير خارجيته بلنكن بعد إصغائهما المتعمد والملتبس لمرويات نتنياهو وإعلام حكومته وأعقبه تبني الحكومات الغربية ورؤسائها تلك الرواية الفضّة وغير الواقعية في محاولة دولية كبرى في تضليل العالم وليس أوربا فحسب.

ولكن العالم تساءل عن الأدلة الجرمية وحقيقة ما جرى وفق الرواية الصهيونية والأميركية وطالب بعرض تلك المشاهد المزعومة ولم يقتنع بما زيفه الكيان الصهيوني من مشاهد غير حقيقية لصور طفل قد تم إحراقه، وهي تدخل في محاولات كسر التأييد المتبقي للقضية الفلسطينية في العالم والتأثير السلبي على المعنويات النفسية والأخلاقية لشعب غزة من أجل كسر إرادته بجذب العالم الى عدائه وتشويه صورته أمام الرأي العام العالمي من خلال وضعه وعلى نسق واحد مع داعش، وهي الكلمة التي رددها الإعلام الصهيوني وعلى لسان رئيس وزراء إسرائيل ورئيس الولايات المتحدة ورئيس وزراء بريطانيا المعروف بتطرفه تجاه الإسلام.

لكن غزة صمدت بإزاء تلك الحملة الإعلامية المضللة ولم تنكسر إرادتها في المقاومة أو يتضعضع الجانب المعنوي فيها بإزاء تلك الحرب النفسية والدعائية التي كانت تعول عليها إسرائيل كثيرا.

وواصلت غزة تمسكها بنتائج عملية طوفان الأقصى ولم تخضع الى الضغوط الغربية والأميركية من خلال إرسال بارجات السفن الحربية وحاملات الطائرات الى البحر المتوسط وعلى مقربة من غزة والتلويح بالعمليات العسكرية ضدها ولم تستسلم الى التهديدات الأميركية بالحصار أو التدخل، ولم يجد الخوف موضعا له في قلوب المقاومين الغزاويين من الاجتياح البري الذي تهدد به إسرائيل صباحا ومساءا، بل زاد من التمسك بالمكاسب التي حققتها في طوفان الأقصى لاسيما في الأسرى والرهائن الإسرائيليين وإطلاق سراحهم وفق الشروط التي تضعها غزة وحركة المقاومة فيها والتي لم تعلن الى هذه اللحظة باستثناء الموافقة على تحرير بعض الرهائن الغربيين والحلفاء الاستراتيجيين لإسرائيل في مقابل دخول المساعدات الى شعب غزة عبر معبر رفح المصري، وهو ما استجابت له أميركا وإسرائيل راغمة..

علما أن عدد المطلق سراحهم لا يزيد على اثنين امرأة أميركية وابنتها، وهو ما يكشف عن عمق وجدوى المغنم الحربي الذي حازته حركة المقاومة في غزة وحصلت عليه في عملية طوفان الأقصى. فالشروط التي بالنتيجة قد تعرضها حركة المقاومة – حماس بإزاء تحرير الأسرى والرهائن الإسرائيليين وحلفاء إسرائيل قد تكون باهظة على إسرائيل على المدى البعيد، وعلى المدى القريب يكون رأس نتنياهو العدو اللدود للفلسطينيين قد قطع فعلا سياسيا وتاريخيا حيث سينتهي به المسار أخيرا الى الخمول السياسي والى الازدراء الاجتماعي، فالمجتمع اليهودي سيحمله كل أوزار النكسة التي تعرضت لها إسرائيل ولأول مرة في تاريخها وهكذا تلوح آفاق صمود غزة بإزاء كل التحديات التي تواجهها ولازالت وفق معادلة المكاسب والشروط.

اضف تعليق