إن أخطاء أرسطو العلمية خدمت العلم، ليكون عطاؤه بمثابة العتبة الأولى لتصديق مقولاته في العلم أو تكذيبها، وفي كلا الحالتين أرسطو هو الفيلسوف العالم والعالم الفيلسوف الذي سار البعض على نهجه فقدموا رؤى مستقاة من فكره، وعارضه آخرون فأبدعوا في المنطق وتقديم نظريات علمية جديدة..

كنت قد كتبت من قبل عن (الفلسفة والرفض)، في محاولة مني للربط بين المفهومين (الفلسفة) و(الرفض)، فكل فلسفة جديدة تحمل بين طياتها نزعة رفض، ولا عليك بمن قيل عنهم بأنهم فلاسفة لأنهم أجادوا شرح فلسفة فيلسوف ما، وهذا المعنى ينطبق على الشرّاح في الفلسفة الوسطى.

فهي لا تعدو غير ترديد لمقولات أرسطو واجادة في تفسيرها وشرحها، ولا أنفي عنهم صفة التفلسف، لكنهم يسيرون على خطى فيلسوف أنتج وأبدع، وكل فضيلتهم تكمن في أن بعضهم وصف بـ "المعلم الثاني" وآخر وصف بأنه "الشارح الأكبر"، ولكنهم لم يخرجوا من معطف "أرسطو" (المعلم الأول) ووصفت فلسفتهم بأنها "فلسفة أرسطية أو "فلسفة مشائية"، والحال ينطبق على من سُميوا بأنهم "صغار السقارطة"، هذا في الفلسفة اليونانية وما ينطبق على التابعين لها في فلسفة العصور الوسطى.

لا يختلف الحال عمن وصفت فلسفتهم بـ "الكانتية الجديدة" أو "الهيجليين" أو "الماركسيين"، وكذا الحال مع "النيتشويين"، وفضيلة هؤلاء أنهم أجادوا تقديم فلسفة فيلسوف ما أو شرحها أو تأويلها، ولكنهم يدورون في فلكها.

قد يكون لكل هؤلاء قدرة على الإبداع، ولكنه إبداع تحكمه منظومة فلسفية ما، لذا هم مؤدلجون، محكومون بمقولات المنظومة الفلسفية التي ينتمون لها حينما ظنوا أنها "فلسفة خلاصية".

هناك في تاريخ الفكر فلاسفة كانت فلسفتهم بمثابة "فيصل" في القول وانتاج المعنى، فتسنى لنا القول بـ "الفلسفة ما بعد سقراط وما قبله"، و"الفلسفة ما قبل أرسطو وما بعده" و"الفلسفة ما قبل ديكارت وما بعده"، والوصف يصح على "فرنسيس بيكون"، و"الفلسفة ما قبل كانت وما بعده" و"الفلسفة ما قبل نيتشة وما بعده" والحال ينطبق على فلسفة "ماركس".

سقراط أنتج فلسفته في التنظير والتفكير والممارسة العملية في الربط بين (المعرفة والفضيلة)، التي صارت في ما بعد أس التأسيس لفلسفة افلاطون وتلامذة سقراط.

ليكن مثالنا أرسطو، إذ نجد ـ مثلاً ـ قول ابن رشد عنه بأنه "الرجل الذي كمل عنده الحق"، فيُعيدنا قوله هذا لنقد ابن سبعين له ووصفه لابن رشد على أنه من أتباع أرسطو "يحذو معه حذو النعل بالنعل، فإن قال (أرسطو) القائم قاعد قال مثله"!!.

لا أظن أن هناك فيلسوفاً عالماً وعالماً فيلسوفاً، له جرأة الهدم لا سبق والبناء لما هو جديد مثل أرسطو، الذي تمكن من تقديم الجديد في المنطق والفلسفة بما يجعل المنطق قرينًا باسمه، فنعترف نحن ويعترف من سبقونا بتسمية المنطق الصوري بأنه "المنطق الأرسطي". فالفلسفة ما بعد أرسطو والمنطق تشكلا وفق رؤية أرسطو ومتبنياته الفكرية والعلمية.

يُمكن القول إن أخطاء أرسطو العلمية خدمت العلم، ليكون عطاؤه بمثابة العتبة الأولى لتصديق مقولاته في العلم أو تكذيبها، وفي كلا الحالتين أرسطو هو الفيلسوف العالم والعالم الفيلسوف الذي سار البعض على نهجه فقدموا رؤى مستقاة من فكره، وعارضه آخرون فأبدعوا في المنطق وتقديم نظريات علمية جديدة.

لو لم يكن منطق أرسطو موجوداً لما أبدع (ديكارت) منطقه "الاستدلالي" "العقلاني"، وفي مضمره "هدم" لنظام منطقي سبق.

ولو لم يكن لمنطق أرسطو وجود لم يكشف لنا (فرنسيس بيكون) عن "المنطق الاستقرائي" الذي غير به وجهة النظ للعالم ونظام الطبيعة والوجود، والمنطق الاستقرائي في أسه وتأسيسه "هدم" لمنطق أرسطو وتحدٍ حداثي وعلمي جديد.

.....................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق