تصل الصراعات الى مرحلة صفرية وانشطار المجتمع الى توجهات متحاربة، بمعنى غياب التعقل المصلحي الذي يحمي الوجود المشترك للجميع للحفاظ على هذه السفينة التي يبحر بها مختلف التوجهات. فالعقل المصحلي ينظر الى المصلحة العامة التي تحقق الأمن والاستقرار للشركاء مع غض النظر عن القيم والمبادئ والأخلاق التي يمكن...
خلال مراحل حياتنا تطل علينا دائما في ما نقرأه او نسمعه عبارة (الناس على دين ملوكهم)، وكذلك عبارة (كيفما تكونوا يولى عليكم) وكلاهما عبارتان متضادتان، فكيف تتحقق المعادلة وهل سبب الخنوع الاجتماعي العام هو المجتمع، ام السبب هو تسلط الحاكم المتجبر؟
القرآن الكريم يجيب عن هذه المعادلة المتضادة بقوله تعالى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) الزخرف 54، أي ان المجتمع الذي يقبل بالحكم الاستبدادي ويركن الى الظالم وينشغل بملذاته الخاصة ومنافعه الشخصية، غالباً ما ينحرف أخلاقيا ويخرج عن طريق الحق ويلتحف بالباطل والخوف والنفاق والكذب والانتهازية والعنف.
فالمعادلة بين قابلية المجتمع على الانصياع والخضوع بسبب فسقه وخروجه عن الالتزامات الاجتماعية والشرعية والقانونية، فيؤدي ذلك الى فاعلية الحاكم وطغيانه وتجاوزه للحدود والالتزامات.
فمن جانب النظام السياسي الذي يؤدي الى انشطارات سياسية وذلك لعدة أسباب منها:
اولاً- السلطوية: هي دائما تؤدي الى توتر العلاقات الاجتماعية بالنتيجة الى صعود هيمنة واستبداد الاقطاع. والسلطوية هي سلوك غرائزي يعبر عن فقدان الفرد لقدرته على بناء قوته من خلال التعاون والمشاركة مع الآخرين، بالتالي يستفيد من مصادر القوة الفائضة للهيمنة على الآخرين واستغلالهم وطحنهم.
ثانياً- التفكك الاجتماعي: فالحاكم المستبد دائما يستفيد من تفكك المجتمع وهشاشته للهيمنة والتحكم، بل يمعن بالمزيد في تفكيك المجتمع وانقسامه وعدم توحيده وتهشيمه ليسهل الهيمنة عليه، بالإضافة الى سوء الإدارة واستفحال الفساد والفوضى الاقتصادية التي تؤدي الى غياب الثقة وبروز انشطارات وانشقاقات اجتماعية متناسلة.
ثالثا- الايديولوجية والنظام الأيديولوجي: الذي يستخدمه الحاكم للهيمنة دائما يحاول ان يشطر المجتمع او يقوم بإلباس المجتمع لباسا ايديولوجيا معينا مقولبا حتى يكون تابعا له بشكل مطلق، عبر عملية غسيل ثقافي وتمييع أخلاقي وانسلاخ انساني، مثل الأنظمة الشمولية والشيوعية والاشتراكية والنازية سابقا، والان بعض الايديولوجيات المعاصرة التي تعتمد اللبرلة والعلمنة وحتى الاسلمة لتشكيل المجتمعات في هوية قسرية واحدة.
رابعاً: والصراعات السياسية التي تنشأ في مجتمعات متنوعة غير متعايشة تؤدي الى اختلال التعددية المتجانسة وخلق انشطارات اجتماعية، وحينئذ تصل الصراعات الى مرحلة صفرية وانشطار المجتمع الى توجهات متحاربة، بمعنى غياب التعقل المصلحي الذي يحمي الوجود المشترك للجميع للحفاظ على هذه السفينة التي يبحر بها مختلف التوجهات. فالعقل المصحلي ينظر الى المصلحة العامة التي تحقق الأمن والاستقرار للشركاء مع غض النظر عن القيم والمبادئ والأخلاق التي يمكن ان تحقق ابعاد أعمق وأوثق في بناء الشراكات الاجتماعية.
ومن جانب الأسباب الاجتماعية التي تؤدي الى تصدع النظام السياسي وفوضى الواقع السياسي:
اولاً: المجتمع البدائي الذي لا يمارس عملية التطور الاجتماعي عبر الاكتساب الاجتماعي والتراكم الإيجابي المتسلسل للتجارب، حتى ينشأ لدى الجميع قيم متقدمة ضمن العلاقات الاجتماعية، علاقات ليست عشوائية او ارتجالية بل هي علاقات قائمة على وجود ترصين فكري ونظام متماسك وتراكم إيجابي.
خصوصا في الفترة الأخيرة التي هبت على مجتمعاتنا عملية "حداثة حادة" أدت الى صراع كبير بين الأجيال، فالمجتمع التقليدي يريد ان يحافظ على كونه محافظ بشكل متصلب رافضا التقدم في عملية استيعاب الحداثة واحتواء الأجيال الجديدة، التي تعتبر من جهتها ان تطلعاتها تختلف عن تطلعات الإباء، فيؤدي ذلك الى الصراع العنيف بين الأجيال، لذلك نرى ان في بعض المجتمعات الإباء هم من يقفون مع النظام السياسي الحاكم، والشباب متمردون يقفون مع الثورات وهذا دلالة على وجود فجوة بين الأجيال.
ثانياً: التشطّر الاجتماعي وصدمة التجديد والتحديث وهذا يؤدي الى تزلزل القيم ودخول قيم غير منسجمة مع تفكيره واسلوبه واخلاقياته، وكذلك غياب القواسم المشتركة في المجتمع بالإضافة لعدم وجود وعي لإيجاد هذه القواسم المشتركة.
ثالثاً: عدم وجود عقد اجتماعي يؤدي الى توافق سياسي وهذه نقطة مهمة ومتطورة في بناء المجتمعات، وما لدينا اليوم هو عقد سياسي وليس عقد اجتماعي والعقد السياسي هو العقد الذي تبنيه الطبقة الحاكمة والأحزاب والكتل حتى تؤسس لحكم توافقي فيما بينها للهيمنة وتقسيم الغنائم بينها.
رابعاً: غياب ثقافة المشاركة الاجتماعية بل ما موجود في مجتمعنا هو الاستلاب والتبعية. وبالتالي يفقد الفرد الإحساس بالانتماء الى الوطن ويتنصل عن التزاماته الاجتماعية وينفرد منعزلا في كيانه الخاص.
ان التعقل المصلحي ينظر الى المصلحة كمقصد حقيقي يصب في نفع الفرد والمجتمع قريبا وبعيدا، تتحقق من خلال التعقل بالصبر وبترسيخ ممارسة التعاون والمشاركة مع الآخرين، وتحقيق التوازن الاجتماعي الذي يقود الى التوافق الأهلي والشعور بالانتصاف والرضا والقبول والانتماء للمجتمع. والا فإن المصلحة الخاصة هي وهم يختلج في اذهان المنفلتين، فهي مضرة ومفسدة تؤدي الى فقدان الايمان بالانتماء الاجتماعي والتوالد العنيف للانشطارات والصراعات، وبالتالي ضياع لكل المصالح.
اضف تعليق