إيران تخشى من أن تصبح ثمنا يترتّب على سوريا تقديمه للعرب لقاء تطبيع علاقاته معها، خصوصا أن طهران لا تستطيع ان تقدم الكثير مما قد يقدمه العرب لدمشق التي صارت بحاجة ماسة للأموال الخليجية، اكبر بكثير من حاجتها إلى دعم ووجود الجماعات الايرانية المسلحة فيها، لان ما تحتاجه...

منذ عام ٢٠١٧ بدأت بوادر التقارب العربي مع سوريا واضحة للعيان رغم كل تدخلات وحضور الجانب الايراني، بدأت المقاربة العربية مع دمشق في تموز من العام المذكور في قمة العشرين في هامبورغ حينما اتفقا دونالد ترامب وبوتين على وقف القتال في جنوب سوريا الذي ترجم في درعا حينها توصلت الاطراف المتصارعة الى تسوية بإشراف ورعاية موسكو تم بموجبها تسليم الاسلحة الثقيلة للمعارضة السورية.

تبع ذلك مبادرة اردنية بفتح معبر جابر نصيب الحدودي مع سوريا وتدشين التبادل الاقتصادي في تشرين الاول ٢٠١٨، وبعد شهرين تماما بادرت الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين اعادة فتح سفارتيهما في دمشق، وكانت سلطنة عُمان اول دولة خليجية اعادت سفيرها إلى دمشق في تشرين الأول ٢٠٢٠، وبعد اقل من عام وتحديدا في تموز ٢٠٢٠ زار الملك الاردني عبد الله الثاني واشنطن، للتوسط والحصول على اتفاق حول إعفاءات من العقوبات الأميركية لتزويد لبنان بالكهرباء والغاز الإسرائيلي عبر سوريا.

فعملية التطبيع العربي مع نظام بشار الاسد قائمة منذ سنوات، وقد بلغت ذروتها عندما طرحت عدة محاولات من العام الماضي لإعادة دمشق إلى جامعة الدول العربية قبل قمة الجزائر، التي مانعتها الرياض والقاهرة (لأسباب وظروف تتعلق بعدم استجابتها في تنفيذ تعهداتٍ قطعها للجانبين للحدّ من نفوذ إيران وتقديم تنازلات سياسية تبرّر عودتها إلى الجامعة)، وصولا الى زيارة رؤساء البرلمانات ومجالس الشورى العربية الى دمشق انطلاقا من بغداد برئاسة رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي.

هذه الزيارة الاخيرة سارعت اضافة الى كارثة الزلزال الذي ضرب شمال سوريا وشمالها الغربي من ايقاع التطبيع العربي مع سوريا وشكلت مناسبة لدول عربية عديدة لوضع تحفّظاتها وحرجها جانباً في التواصل مع الاسد والاندفاع إلى التعامل مع النظام تحت عناوين انسانية، قد تترجم الى تطبيع سياسي واضح وفق شروط قد توافق عليها دمشق، وتمثل تصريحات وزير الخارجية السعودي، فرحان بن صالح، بخصوص وجود مقاربة عربية جديدة للتعامل مع النظام السوري، وزيارة وزير الخارجية المصري، سامح شكري الى دمشق يوم الاثنين ٢٧ شباط المنصرم، فرصة لتغيير الموقفين المصري والسعودي الممانع لعودة سوريا للجامعة العربية ودعوتها الى قمة الرياض العربية المزمع عقدها قبل نهاية شهر آذار الجاري.

ورغم التناقضات الصارخة في ذلك عندما حاولت هذه الدول اسقاط النظام من خلال الاحتجاجات ودعم الجماعات المسلحة، لكن كل ذلك يكمن في عدم القدرة من مواجهة ايران في سوريا وعواصم اخرى تزايد نفوذها فيها بشكل كبير اضافة الى دعمها المسلح لجماعات موالية لها متمركزة في هذه العواصم، اذ يترجم الخوف من إيران وتغوّل نفوذها في هذه الدول، التحول في الموقف من النظام السوري والتنكر عن ما يعرف بالثورة السورية والجماعات المقاتلة فيها.

وهذا بالضبط ما يتم العمل به مع بغداد، فكل التقارب معها لا يعني حب العرب للعراق ودعمه لا يخرج عن دائرة محاولة تقويض النفوذ الايراني فيه، وهذا ما يُقلق إيران جدا من جهود التطبيع العربي نحو بغداد ودمشق، الذي سبقه محاولات للتقريب بين سوريا وتركيا وروسيا حينما استعبدت من مسارات التقارب بين هذه الدول الثلاث الذي انطلق من موسكو في كانون الأول الماضي في اجتماع ضم وزراء دفاع الدول الثلاثة ولم تقم دمشق باستشارة حليفها ايران بشأن الاجتماع، ولم تطلعها على ما دار فيه. وفقا لذلك تحاول طهران من خلال اعلامها ابراز التناقضات في المواقف العربية بين الامس واليوم تجاه سوريا وتشكك في نواياها.

من الواضح أن إيران تخشى من أن تصبح ثمنا يترتّب على سوريا تقديمه للعرب لقاء تطبيع علاقاته معها، خصوصا أن طهران لا تستطيع ان تقدم الكثير مما قد يقدمه العرب لدمشق التي صارت بحاجة ماسة للأموال الخليجية، اكبر بكثير من حاجتها إلى دعم ووجود الجماعات الايرانية المسلحة فيها، لان ما تحتاجه سوريا بعد الزلزال وسكوت البنادق العربية المسلحة فيها، هو الاموال لإعادة البناء والاعمار، خصوصا مع تراجع الدعم الروسي وانشغالها في مستنقع أوكرانيا وتوجّه الغرب نحو سياسة الضغوط القصوى تجاه إيران ومحاولة خنقها بالعقوبات بسبب دعمها لروسيا في حربها على أوكرانيا، ورغم قيام طهران بمحاولة التذكير بوجودها في سوريا بعد كارثة الزلزال وتضخيم دورها في حجم المساعدات المرسلة لإغاثة المنكوبين وسط هذا التقارب العربي السوري في رسالة لرفضه لكنه لم يجد تجاوبا من سوريا او تردد من هذا التطبيع.

في النهاية ورغم كل العوائق التي تواجه ايران داخليا ودوليا لن تسكت ازاء تحييدها في سوريا وبغداد وبيروت وصنعاء، ولديها ما تستخدمه في اعادة التموضع ومركزة وجودها ونفوذها في العواصم الاربعة، لكن السؤال من الاقوى بالنسبة لهذه العواصم وخاصة دمشق، المال العربي ام البنادق والصواريخ؟، وما هي اولويات دمشق في قادم الايام في ظل احتياجاتها لمواجهة التحديات الانسانية والبنى التحتية وتراجع الضغط العربي التركي الروسي عليها؟ الموازنة هنا غير مطلوبة عربيا من دمشق، المطلوب إخراج إيران من سوريا، لكن هل يستطيع بشار الاسد فعلا أن يفكّ ارتباطه بطهران؟، وهل لديه رغبة في ذلك؟ وهل يثق بالعرب الذي حاولوا خلعه واسقاط نظامه؟.

كل الامور تسير باتجاه ان الاسد لن يقطع علاقته بطهران وسيستمر في استخدام علاقته بإيران بشكل متوازن لتكون اداة ضغط على العرب لدعمه وتخفيف الضغط عليه. فالممانعة الايرانية لهذا التطبيع قد تتجاهله مؤقتا، لكن ليس طويلا ولهذا السكوت دلالات بأن ايران حاليا مضطرة لقبول هذا التطبيع، نتيجة الضغوطات التي تواجهها ولعدم قدرتها على تمويل سوريا، لكنه سيكون تطبيعاً مشروطا حسب الاملاءات الايرانية للنظام بشكل غير معلن، ليكون تطبيعاً لا يعبر عن التسليم والاقرار بفشل دور طهران كلياً في سوريا.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2023 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق