ايران على ما يبدو لن تستطيع تجاوز التحولات الصعبة التي عاشتها، اذ تتصارع الاجيال الراغبة بالتغيير وتطلعات التحديث مع الاجيال الراغبة بالمحافظة والالتزام، مما وضع عوائق ماثلة على أكثر من صعيد، هذا الحال سجل الكثير من المفارقات في المجتمع الايراني ما بين مقاربات السلطة السياسية الممثلة...

عمت الاحتجاجات في إيران بعد وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16/9/2022 بعد أن ألقت شرطة الأخلاق القبض عليها بتهمة انتهاك قواعد الزي الإسلامي، هذه الاحتجاجات لم تتناولها وسائل الاعلام ولم تتحدث القوى السياسية في العراق عنها وعن تداعياتها بشكل مكثف ومباشر، ولهذا الامر مبرراته وتفسيراته المعروفة، في حين ان مثل هذه الاحتجاجات تمثل قضية محورية، لها انعكاسات مباشرة على الاوضاع السياسية والاجتماعية في العراق.

بالرغم من ان الاحتجاجات الايرانية محركاتها ترتبط بالمطالب الاجتماعية المتعلقة بالحجاب ومسألة الحريات في هذا الجانب، الا ان امتداداتها وعمقها السياسي يتجاوز المجال الاجتماعي والاقتصادي فالمطالب السياسية واتساعها يشكل هاجسا مقلقا للنظام الايراني قد يعمل على بروز تيار اجتماعي شعبي معارض يعارض بشكل مباشر النظام السياسي وتوجهاته ومبادئه المتجسدة بنظام ومبادئ الثورة الاسلامية وولاية الفقيه.

رفع المحتجّون شعارات معبّرة عن عمق الأزمة في ايران باعتبارها ازمة سياسية اصلا رغم مقدماتها الاجتماعية والاقتصادية المعلنة، وتمثل قضايا الحريات والمرأة منعطفا مهما في ايران، اذ ترتبط الازمة الداخلية بالموقف الناقد الموجه بشكل مباشر للسياسة الخارجية الايرانية واستهدافها، فقد رفع المتظاهرون شعارات واضحة ضد خيارات النظام على مستوى السياسة الخارجية، والمعروف ان السياسة الخارجية الايرانية كانت مقترب وطني للإيرانيين ويقف الجميع خلف هذه السياسة.

ولكن بعد كل حركة احتجاجية منذ عام ٢٠٠٩؛ اصبحت محل خلاف بين التيارات السياسية بين مؤيدين ومعارضين للانفتاح الدولي ومستوى الحضور الاقليمي للجمهورية بين تيار محافظ يرفض الانفتاح على امريكا والغرب وتيار اصلاحي يشجع ذلك ويدعم الحراك الاحتجاجي في الداخل، هذه الاحتجاجات المستمرة في ايران ترفض التدخل والحضور والتأثير للنفوذ الايراني في القضايا الاقليمية باعتبارها ليست اولوية على القضايا الداخلية، ما يعني الانسحاب والتراجع عن خطاب تصدير الثورة الاسلامية والدفاع عن محورية ما يعرف بمحور المقاومة، وهذا ما اعتبرته السلطات بمثابة تشكيك في الروح التي قامت عليها الثورة الإسلامية عام 1979، وتهجّم واضح على المبادئ التي تأسست عليها وفي مقدمتها مبدأ التضامن الإسلامي.

وهذا يطرح تساؤلات تتعلق بتقييم الثورة الايرانية كمتغير في الحياة العامة للمجتمع الايراني، ونتائج هذه الثورة، ومدى فاعليتها وما قدمته للإيرانيين. حقيقة لفهم دوافع هذه الاحتجاجات لابد من فهم طبيعة النظام السياسي الايراني الذي أفرزته الثورة الإيرانية عام 1979.

هذا النظام شكل نقطة انطلاق لمرحلة اعادة بناء المجتمع وفق اسس مغايرة لمرحلة الشاه وما قبلها، وهذا التحول اعاد لإيران اعتبارها كقوة اقليمية فاعلة تحظى بتأييد شعبي واسع يدعم مبادئ النظام السياسي ومنطلقات الثورة الاسلامية، غير أن هذا البناء والتغيير والايديولوجية الاسلامية أدت إلى مواقف دولية واقليمية وداخلية مضادة انعكست على تشديد العقوبات الاقتصادية، والعزلة الدولية دفعت بالنظام على تضييق الحريات السياسية والاجتماعية وتراجع في الوضع الاقتصادي.

هنالك من يعتقد ان هذه الاحتجاجات هي بداية انهيار النظام السياسي القائم على اساس الهوية الشيعية الإيرانية ومنطلقات الثورة الاسلامية، وستكون بوابة لتوظيف الصراعات الخارجية الإقليمية وتطويق الوضع الداخلي الايراني سواء مع المحيط الجغرافي للجمهورية او مع الغرب والولايات المتحدة الامريكية الذين سيعملون على توسيع دائرة الرأي العام الداخلي والخارجي الرافض للنظام؛ خاصة ان القضايا الداخلية وهموم المواطنة والتزاماتها تعد ركيزة اساسية في اهتمامات الشارع الإيراني وحياته اليومية كالعمل ومستوى المعيشة والحريات العامة، وهي اهتمامات يمكن ربطها بأغلب ثورات الربيع الديمقراطي التي حصلت في السنوات السابقة في المنطقة العربية وغيرها، حيث تم التعبير في هذه الاحتجاجات والثورات عن مطالبهم السياسية تحت غطاء المطالب الاجتماعية.

على اية حال اهم متغيرات وتحولات وضع الاحتجاجات وما يجعلها موضع خطر على النظام الايراني، هو ان القوى الاقليمية والدولية المتصارعة والمتنافسة مع ايران تدعم هذا الحراك وتعول عليه، وان المحور المضاد لإيران يدرك ان تقليص النفوذ الايراني المتزايد في السياسة الاقليمية والدولية لا يمكن تحقيقه الا من خلال ضعضعة شرعية النظام ومشروعية الثورة الاسلامية فهي اقصر واسهل سبل المواجهة والاضعاف، لكن بالمقابل هنالك خط اخر يدعم استقرار النظام الايراني كروسيا والصين وكوريا الشمالية وحتى دول افريقية، ودول خليجية مثل قطر وبعض دول الاتحاد الاوربي، اضافة الى وجود مقومات داخلية تمنع من القطع او التوقع بأن هذه الاحتجاجات ستكون مقدمة لانهيار النظام في ايران، اذ تراهن ايران على ثلاث معطيات مهمة في مواجهة الاحتجاجات الحالية:

اولا: الاعتماد على المنظومة الدولية والاقليمية الداعمة لإيران في حماية النظام ودعم استقراره والتمسك بالاتفاق النووي وعدم السماح بفرض عقوبات او اجراءات يمكن ان تضعف النظام الايراني، وهذا يرتبط بقدرة طهران على المحافظة بقدر مؤثر وجاذب للزخم الدولي والمساند لها، اضافة الى نفوذها الفاعل الممتد الى داخل العديد من الدول الاقليمية والمجاورة اضافة الى عوامل الردع المتحصلة لدى ايران الذي له دور كبير في تعديل ميزان القوى في المنطقة عند حصول اي توجهات حقيقية للتصعيد ضد ايران سواء بشكل مباشر او من خلال تصعيد الوضع الداخلي.

ثانيا: تعول طهران كذلك على المخاوف المتزايدة ضد الامن القومي الايراني التي من خلالها يمكن أن تحوّل أنظار المواطنين المحتجين والمطالبين بالحقوق العامة وكذلك المواطنين المؤيدين نحو الخطر الذي يهدد الوطن والامة الايرانية ووجودها، والعمل على إنعاش الوطنية الإيرانية الموجهة والمفعمة بالقومية الفارسية كحضارة وامة وتاريخ، فهنالك قاعدة عند الامة ذات الموروث الحضاري تنص على انه كلما زاد التعارض مع الجهات الأجنبية المنافسة كلما استحضر وزاد الشعور الوطني العام.

ثالثا: هنالك فرصة اضافية للسلطات الإيرانية قد تعمل على استثمارها ازاء الاحتجاجات الشعبية الاخيرة، وهي خيار التراجع عن البطش المفرط بالمحتجين مما يعطي صورة ورسالة عن اختبار ديمقراطية النظام السياسي الايراني فيما يتعلق بحرية التعبير عن الرأي، فمع التصعيد الحاصل ومستوى العنف بالرد من قبل قوات الامن ضد المحتجين؛ الا ان مستوى الرد لغاية الان لا يمكن مقارنته مثلا لكاتب مقالة مناوئة لأنظمة دول الخليج وتركيا وحتى بعض دول الربيع العربي التي تصل الى القتل والبطش والاعتقال والتهجير لمجرد نشر تغريدة مناهضة للنظام السياسي او شخصية تمثله كما هو معروف.

مع كل هذا فإن ايران على ما يبدو لن تستطيع تجاوز التحولات الصعبة التي عاشتها، اذ تتصارع الاجيال الراغبة بالتغيير وتطلعات التحديث مع الاجيال الراغبة بالمحافظة والالتزام، مما وضع عوائق ماثلة على أكثر من صعيد، هذا الحال سجل الكثير من المفارقات في المجتمع الايراني ما بين مقاربات السلطة السياسية الممثلة برجال الدين وما بين الجيل الذي لا يزال متأثرا بثقافة ومرحلة عصر الشاه الذي يؤثر في عقليات ومزاج الاجيال الجديدة ويرغب بتطلعات الأخذ بالعولمة ومظاهر الحياة الغربية، ولهذا الصراع تداعياته التي لا يمكن تغافلها سواء على مستوى تهديد النظام السياسي، من جهة وآليات فرض الاستقرار من جهة اخرى.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/ 2001 – 2022 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق