لا يمكن تصور الدين بلا رحمة، ولا يمكن أن يعرف الدين بعيدا عن الرحمة، ولا يمكن أن يقبل الناس على دين بلا رحمة، وكل الأديان تتظاهر بالرحمة، وبالرحمة تكسب الأديان ثقة الناس بحثا عن السكينة والطمأنينة في الأديان، وبهذه الثقة وبحثا عن السكينة والطمأنينة يتجه الناس إلى الأديان...

مع ظاهرة داعش ظهر عندما ما يمكن أن نسميه التفسير المتوحش للدين، ونعني به من جانب التفسير الذي نزع عن الدين عنصر الرحمة، ونعني به من جانب آخر التفسير الذي نزع عن الدين عنصر التمدن، العنصر الأول ناظر إلى الدين في جانبه الروحي والإنساني، والعنصر الثاني ناظر إلى الدين في جانبه العقلي والمدني.

بشأن العنصر الأول، لا يمكن تصور الدين بلا رحمة، ولا يمكن أن يعرف الدين بعيدا عن الرحمة، ولا يمكن أن يقبل الناس على دين بلا رحمة، وكل الأديان تتظاهر بالرحمة، وبالرحمة تكسب الأديان ثقة الناس بحثا عن السكينة والطمأنينة في الأديان، وبهذه الثقة وبحثا عن السكينة والطمأنينة يتجه الناس إلى الأديان.

وليس هناك دين من الأديان تظاهر بالرحمة، وتمسك بها، وقدمها وأعلى من شأنها كالإسلام، الذي جعل من الرحمة أول صفة تعرف بالله سبحانه، في نص اعتاد الإنسان المسلم أن ينطق به لسانيا عند كل خطوة يقدم عليها في مجريات حياته اليومية.

وتحدد هذا النص في البسملة التي عرفت الله اسما وصفة بالرحمة (بسم الله الرحمن الرحيم)، وكأن الله سبحانه أراد أن يعرف عن نفسه بالرحمة قبل أية صفة أخرى، وأن يعرف عند الناس كافة بالرحمة قبل أية صفة أخرى، لكي تكون الرحمة أقرب صفة للإنسان، وأقرب صفة في العلاقة بين الإنسان وربه، حتى يصبح الإنسان أشد تعلقا بالرحمة في حياته الخاصة والعامة، الفردية والاجتماعية.

وتأكد هذا الارتباط، حين جعل القرآن الكريم من الرحمة في مفتتحه، ومفتتح أول سورة فيه، وهي سورة الفاتحة في قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم)، وهي السورة الوحيدة في القرآن التي تقصدت الشريعة الإسلامية، أن تكون جزءا من عبادة يومية واجبة على الإنسان المسلم وهي الصلاة، الفريضة التي يلتزم بها المسلم خمس مرات في اليوم.

والقرآن الكريم يخبرنا أن الله سبحانه، ما كتب على نفسه شيئا من الصفات وبهذا البيان إلا الرحمة، وجاء هذا البيان مكررا مرتين في سورة الأنعام، مرة في قوله تعالى: (كتب على نفسه الرحمة) –آية: 12- ومرة في قوله تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة) –آية: 54-.

وهذا يعني أن الله ما تعهد بشيء على نفسه كما تعهد بالرحمة، لكي يظل الإنسان مستشعرا الرحمة من الله دائما وفي كل آن، وعند كل عمل يقوم به، وبهذه الرحمة ينشرح صدر الإنسان، ويقبل على الحياة بثقة وأمل وإرادة، لأن رحمته وسعت كل شيء.

وحينما حدثنا القرآن عن الرسول الأكرم (ص) لفت انتباهنا إلى جانب الرحمة، في قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) –الأنبياء: 107- فالرسول من جهة هو من تجليات رحمة الله في حياة البشر وللعالمين كافة، ومن جهة أخرى فإن الرسول هو مصدر رحمة للعالمين كافة، فالإنبياء والرسل كانوا أرحم الناس في التاريخ الإنساني كله، لأنهم من تجليات رحمة الله، ولأنهم كانوا مصدرا للرحمة، وهم القدوة والأسوة.

هذا الفيض من الرحمة في الدين، يفترض أن يجعل المسلم إنسانا رحيما، متعلقا بالرحمة، ومتخلقا بها، ومشعا لها، ومنافحا عنها، رحيما مع الناس كافة، مهما تعددت وتنوعت لغاتهم وألسنتهم، قومياتهم وأعراقهم، مذاهبهم وأديانهم، لأن الرحمة هي فضيلة لا تتجزأ، روي عن الرسول الأكرم (ص) في كنز العمال (لما قال له رجل: أحب أن يرحمني ربي، قال له: ارحم نفسك، وارحم خلق الله يرحمك الله)، فالرحمة هي سلوك ينبغي أن يتسع باتساع خلق الله.

ليس هذا فسحب، بل إن الإنسان المسلم مطالب أن يكون رحيما حتى مع الحيوانات، فلا يجوز إيذاء الحيوان، والقسوة عليه، وإذا كان هذا هو الحال مع الحيوان، فمن باب أولى أن يكون مع الإنسان أشرف الكائنات والمخلوقات.

هذه الصورة المفعمة بالرحمة للدين، انقلبت وتغيرت في منظور التفسير المتوحش للدين، الذي قدم تفسيرا قائما على القسوة والبطش والقتل، ورسم إلى الإنسان طريقا مسدودا في هذه الحياة، طريقا بلا أمل ولا مستقبل، وسلب منه متعة العيش، وبهجة الحياة، وجمالية الطبيعة، وحوله إلى الإنسان تتملكه رغبة القتل، والمسارعة في إفناء الذات، وسفك الدماء، وإزهاق الأرواح البريئة والمعصومة، أينما كانوا في الأسواق أو الطرقات، في السيارات والحافلات، وحتى في المدارس والمساجد وأماكن العبادة.

فسمعنا أن هناك من قتل أباه، ومن قتل أمه، ومن قتل شقيقه، ومن قتل ابن عمه، ومن قتل جاره، هذه صور لا يمكن تخيلها في عالم الأديان بصورة عامة، وفي عالم الإسلام بصورة خاصة، لكنها حصلت وللأسف في ديار المسلمين، أي إنسان هذا الذي يقدم على قتل أمه، لا يمكن لهذا الإنسان أن يكون من عالم البشر، وما حدث هذا الأمر إلا بتأثير التفسير المتوحش للدين.

أما عنصر التمدن الذي يقابل التوحش، فالأديان جاءت لعمران الحياة، وتأمين السعادة للإنسان والرفاه والحياة الكريمة، وكل الأديان تعد الإنسان بالسعادة في الدنيا قبل الآخرة، وتقرن نفسها بالسعادة وتجنب الشقاء.

وعلاقة الدين بالتمدن تجلت في الإسلام أكثر من أي دين آخر، وهذا التجلي لم يحصل على مستوى النظر فحسب، وإنما حصل على مستوى التحقق الفعلي، فالإسلام جاء وصنع حضارة اعترف العالم بتفردها، لأنها أسهمت في الارتقاء بالعقل الإنساني، وفي إحياء التراث الإنساني، وفي ازدهار الحضارة الإنسانية.

وتأكيدا لهذا الأمر يذكر الدكتور محمد إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، نقلا عن أحد المؤرخين الغربيين قوله عن الزمن الذي ظهر فيه الإسلام على مسرح التاريخ (لقد بدا حينئذ أن الحضارة العظيمة التي استغرق بناؤها أربعة آلاف من السنين كانت مشرفة على الزوال، وأن المرجح أن الجنس البشري كان سيعود إلى حالة الهمجية التي كان في ظلالها كل قبيلة وكل طائفة عدوا لجارتها، لا يعرفون نظاما ولا يتبنون لهم قانونا، وكانت العقوبات القبلية القديمة قد فقدت سلطانها، فأصبحت أساليب الحكم الإمبراطورية القديمة غير صالحة للتطبيق... لقد كانت الحضارة أشبه بدوحة هائلة، كانت أوراقها قد ظللت العالم، وحملت فروعها ثمارا ذهبية من الفن والعلم والأدب، وقد أخذت الآن تترنح وتتمايل، لأن ساقها أصبحت لا تتغذى بالعصارة المتدفقة من الإخلاص والإجلال، بل وصل التعفن إلى لبابها، إن العالم بات مفتقرا إلى ثقافة جديدة تحل محل ثقافة العرش،... ومما يبعث على الدهشة أن تقوم ثقافة كهذه في جزيرة العرب في نفس الوقت الذي اشتدت فيه الحاجة إليها).

ومن ينظر إلى الإسلام يجد أن شرائعه وقيمه وتعاليمه وآدابه، لها علاقة بوجه من الوجوه بالتمدن، وبناء الإنسان المتمدن، وتكوين المجتمع المتمدن.

لكن هذه الصورة المتمدنة، انقلبت وتغيرت كليا في منظور التفسير المتوحش للدين، الذي نزع عنصر التمدن عن الدين، وقدم لنا نموذجا فيه كل صفات القبح والتخلف والانحطاط، نموذجا لا يعرف إلا الدمار والخراب والتوحش، ويرتد بنا إلى ما قبل التمدن، ويقع على الضد من التمدن نهجا وسلوكا.

لهذا فإن التفسير المتوحش للدين، هو أخطر تفسير ظهر في عالم الإسلام على الإطلاق، وسوف نظل نتساءل دوما كيف ظهر هذا التفسير الهمجي في عالم الإسلام!

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق