التعصب الأعمى لبعض الخصوصيات والعمل على إلغاء وقهر الخصوصيات والتنوعات الاجتماعية الأخرى، يؤسس لمشروع حروب اجتماعية مفتوحة، تهدد بمتوالياتها النفسية والعملية أسس الاستقرار وعوامل الوحدة في الإطار الوطني والاجتماعي. لأن عقلية التعصب والإلغاء، تمنع من تبلور خيار الشراكة والمشاركة لكل التنوعات في بناء الوطن وتطوير المجتمع...
من الطبيعي القول، أن الشدة والغلظة لا تفضيان إلى وحدة وطنية حقيقية، لأنهما تعملان على إلغاء كل الخصوصيات التي تساهم في إثراء مفهوم الوحدة. كما أن الإنحباس الضيق والقشري في الخصوصيات السوسيولوجية، يؤدي إلى التحاجز، ويمنع تطوير حالات العيش الواحد.
والثقافة لا تنمو وتتطور إلا في إطار احترام كل الخصوصيات والتنوعات، هذا الاحترام المستند إلى إطار قانوني وإنساني، يقوي من خيار الوحدة على قاعدة التنوع. فالخصوصيات تتحرك في فضاء الوحدة، كما أن الوحدة لا معنى لها على الصعيد الإنساني والواقعي إلا بفسح المجال لكل الخصوصيات، لكي تعبر عن ذاتها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.
فلكي تزدهر ثقافة شعب ما «كما يعبر إليوت» ينبغي ألا يكون شديد الاتحاد ولا شديد الانقسام. ففرط الوحدة قد يكون ناشئا عن التحلل وقد يؤدي إلى الاستبداد أيضا. وكلا الطرفين يعوق اطراد النمو في الثقافة.
الثقافة وخصوصيات المجتمع:
فالثقافة الوطنية ليست نتاج خصوصية دون أخرى، وإنما هي نتاج الحراك والتفاعل بين الخصوصيات المتوفرة في الفضاء الوطني كله. فمن خلال تنمية الجوامع والمشتركات، وتفاعل الخصوصيات مع بعضها، والتواصل بين مختلف الفعاليات الثقافية والأدبية والإبداعية، تتشكل مقولة الثقافة الوطنية. فهي نتاج المجتمع بكل خصوصياته وتنوعاته المعرفية والتاريخية.
فتغييب الخصوصيات لا يثري الثقافة، بل يخرجها من دائرة الفعل التاريخي في الواقع المجتمعي. وإمعان السياسي في إبراز خصوصية واحدة، أو العمل على تذويب وصهر الخصوصيات الصغرى في خصوصية كبرى بوسائل قسرية، لا يؤدي إلا إلى المزيد من التشظي الاجتماعي والثقافي.. ”فالإفراط في عزل الثقافة عن معناها الخلاق، وبالتالي عن كيفيتها في إنتاج المجتمع الذي نعيش فيه، إنما يؤدي إلى خلق ثقافة مركزية منغلقة تتصور الوجود الاجتماعي من خلال تصورها، وتوجه الخطاب الثقافي «بالمعنى الشامل في الحياة» من خلال ما تنتجه النخبة المركزية من أفكار تتصل بكيفية إنتاجها للمجتمع.
ويورث هذا السياق السوسيولوجي للثقافة المركزية سلسلة طويلة من الإشكاليات يوازي حجمها حجم التنوع في المجتمع «ديمغرافيا وثقافيا»، وتكون عادة انعكاسا لمجتمع تسوده علاقات متنوعة ومتغيرة مع الثقافة المركزية «السلطة» تتوزع بين التحالف، والولاء والانقسام والاختلاف والتمرد والعزلة. إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من المواقف التي تنتج ثقافات موازية ومتصارعة أحيانا. ولعلنا نلاحظ الآن أن حجم إشكاليات الثقافة في دول الخليج يتفاوت فيها بمقدار ما ترثه من التنوع الثقافي“[1].
فالهوية الثقافية لمجتمعنا ووطننا، تتشكل من مجموع التشكيلات الاجتماعية المتعددة في منابتها وميراثها الديني وتحولاتها الثقافية، وإن أي تنكر لواحد من هذه المصادر، يفضي إلى انقسامات مجتمعية عميقة. وإن استخدام القوة والغلبة والقسر في عملية التنكر والتغييب، لا تزيد الأمور إلا تفتتا وانقساما وتشظيا.
فالتعصب الأعمى لبعض الخصوصيات والعمل على إلغاء وقهر الخصوصيات والتنوعات الاجتماعية الأخرى، يؤسس لمشروع حروب اجتماعية مفتوحة، تهدد بمتوالياتها النفسية والعملية أسس الاستقرار وعوامل الوحدة في الإطار الوطني والاجتماعي.
وذلك لأن عقلية التعصب والإلغاء، تمنع من تبلور خيار الشراكة والمشاركة لكل التنوعات في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف المستويات.
من هنا نجد أن مختلف الصيغ والطروحات التي تتداول في الساحة، لإنجاز الاستقرار وحماية الوحدة الوطنية، تصاب بالتكلس والخمول ولا ترقى إلى ممارسة دور حقيقي في الإطار المرسوم لها، وذلك بفعل أن هذه الصيغ تستند إلى خيار استبعاد العديد من مكونات التأثير والقوة من القيام بدورها في هذا السياق. فالتجانس الثقافي في الإطار الوطني، لا يأتي بالقسر وقانون الغلبة والتغييب، وإنما هو وليد حياة ثقافية واجتماعية مفتوحة على كل الاجتماعات والقراءات والآراء، وتدخل عبر أطر ومنابر وطنية في عملية حوار وجدل ثقافي لتنمية الجوامع وضبط الاختلافات والتمايزات وصياغة مشروع ثقافي وطني على قاعدة التنوع في إطار الوحدة.
التعددية الثقافية والاستقرار:
وإن التعدد الثقافي بحاجة إلى نمط من الإدارة ينطوي على قيم الحوار والاحترام والتسامح، حتى يتسنى له المساهمة الجادة في إثراء مفهوم الثقافة الوطنية. فالثقافات الهامشية لا تموت حينما يستخدم تجاهها القسر والقهر والإلغاء، وإنما تتمرس وتتمكن من استيعاب كل مفاعيل الإلغاء والقهر. بينما إعطاؤها الحرية والسماح القانوني والإعلامي للتعبير عن ذاتها، يساهم في امتصاص العناصر الإيجابية ويحول دون تأثير الواقع المجتمعي بعناصرها السلبية. فمبدأ المشاركة في بناء وتسيير الوطن، هو القادر على اجتراح وقائع وحقائق تزيد من فرص الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتحمي الوحدة الوطنية من كل المخاطر والتحديات. ولا شك أن ”هناك منفعة، مصلحة يقتنصها الجميع في سياق النظر إلى الثقافة بوصفها شراكة في الإنتاج واعترافا عقلانيا شاملا بالتنوع. سنجدها تتجسد بصورة أساسية في توفر إمكانيات أوسع وأعمق في الاستثمار الثقافي، إن سباقا حقيقيا نحو الموضوعية يتحقق من جراء استثمار التنوع. بل إن النزوع الذاتي حينئذ يتمثل بوصفه نزوعا إلى الموضوعية والعلموية، ومن شأن ذلك أن يعيد ترتيب الأشياء والأولويات في ضوء استراتيجية الفعل لا رد الفعل، وفوق أرضية مهيأة لامتلاك أدوات المعرفة وإنتاجها أيضا“.
الانفتاح الثقافي أولا:
والانفتاح الحقيقي على قوى المجتمع ومكوناته المتعددة، لا يبدأ من الاقتصاد والسوق، وإنما من الثقافة. لما تشكله هذه المقولة من تعبير عميق عن مكنونات الإنسان ونسيجه الاجتماعي وعلائقه الإنسانية. فالانفتاح الاقتصادي ليس بديلا عن الانفتاح الثقافي. ونستطيع القول في هذا الإطار: أن أفق الانفتاح الحقيقي يتشكل ويتبلور من الثقافة وأنظمتها الاجتماعية.
لذلك فإن الانفتاح الثقافي الحقيقي، هو بوابة الانفتاح في مختلف المجالات والمستويات. وإذا كانت الرقابة معرقلة لحركة الاقتصاد والتجارة، فإن الرقابة في الحقل الثقافي مميتة للثقافة، ومعيقة للإبداع، وكابحة للتطور والتقدم. فكما أن التشريع الديمقراطي للحركة الاقتصادية يزيد من فرص الاستثمارات والإنتاج، كذلك فإن إرساء دعائم قانون وطني يعطي الحرية للمثقف وأطره القائمة والمرتقبة، سيساهم في تطوير الحركة الثقافية، وسيدخلها في مرحلة جديدة من العطاء والإبداع المتميز في كل الحقول.
ولعلنا لسنا بحاجة إلى إثبات، أن فسح المجال للثقافة والمثقفين من القيام بدورهم ووظائفهم العامة، لا يضر بمفهوم الأمن الوطني، بل هو رافد من روافد تعميق خيار الأمن والاستقرار في الوطن والمجتمع.
والحوار الثقافي والتواصل الفكري بين مختلف المكونات والتعبيرات، لا يهدد الاستقرار الاجتماعي، وإنما يثريه ويزيده صلابة وتماسكا.
وإن الاشتغال الثقافي والسياسي على إلغاء التنوعات الاجتماعية ومنعها من التعبير عن ذاتها ثقافيا وإعلاميا وسياسيا، لا يصنع نسيجا اجتماعيا متماسكا، وإنما هذا الاشتغال يزيد من تمسك هذه التنوعات بخصوصياتها، وبحثها عن سبل أخرى للتعبير عن ذاتها ثقافيا وسياسيا.
وجماع القول في هذا الإطار: إننا بحاجة إلى رؤية سياسية واجتماعية جديدة في التعامل مع التنوعات والتعدديات «التقليدية والحديثة» المتوفرة في مجتمعنا ووطننا. وهذه الرؤية قوامها أن هذه الحقائق لا يمكن نفيها وإقصاؤها من الواقع المجتمعي، وإنما نحن بحاجة إلى التعامل معها على قاعدة الاحترام وفسح المجال القانوني لها للتعبير عن ذاتها، وذلك لإثراء مفهوم الوحدة الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية في وقت نحن أحوج ما نكون إلى التراص والائتلاف وتجاوز الثغرات الداخلية للبناء الوطني.
التنوع والقانون:
فالبناء القانوني السليم، وسيادة القانون، وتوسيع حق المشاركة في الشؤون العامة، كلها عوامل تساهم في توطيد أسباب الوحدة الوطنية، وتعمق من خيار البناء والعمران، ولا يمكن الحصول على الاستقرار والتقدم الثقافي والاجتماعي من خارج حركة المجتمع بخصوصياته وتنوعاته. لذلك فإن الإنصات إلى حقيقة التنوع والتعدد في المجتمع، هو البداية الحقيقية والخطوة الأولى في مشروع الاستقرار وبناء الوحدة الوطنية على قاعدة صلبة وذات عمق تاريخي. فالتنوع والتعدد في المجتمع ليس انقساما وتشرذما، وإنما هو حقيقة تاريخية ومجتمعية ينبغي أن ننطلق منها في عملية التوحيد والائتلاف، وتشريع قوانين وطنية جريئة، تحمي التعدد، وتتعامل معه باعتباره جزء من قوة الوطن ومنعته.
فالوحدة الوطنية هي محصلة كل الجهود والمبادرات التي تطلقها جميع التنوعات والتعدديات في إطار ترسيخ خيار العيش المشترك «الواحد» والوحدة الداخلية للمجتمع.
الوحدة وحق الاختلاف:
فالوحدة الحقيقية ليست ضد حق الاختلاف واحترام المغايرة، كما أن حق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى والانقسام والتشرذم. فالتنوع المحاط بالحرية والتسامح، هو الذي يصنع الوحدة، وهو الذي يضبط الاختلاف لكي لا يتحول إلى تفتت وتشظي، وهو الذي يجعل احترام المغايرين وسيلة الاستيعاب والتفاعل.
فقد مضت أزمنة التوحيد القسري وإلغاء الخصوصيات، وذلك لأن هذه التجارب البشرية لم تزد الواقع الإنساني إلا تشتتا وانقساما وحروبا. وأي فئة أو مجموعة بشرية تتطلع إلى السيادة والغلبة على قاعدة نفي التنوعات ومحاربة مظاهر التسامح والاختلاف فإن مآلها السقوط والفشل، وذلك لأن جميع القوى الإنسانية أدركت أن القهر لا يلغي حقها في التعبير عن ذاتها، وأن الاستبداد ليس سبيلا إلى التمكن والاستقرار، بل على العكس من ذلك حيث أنه هو الذي يساهم بمتواليات الاجتماعية في تكثيف لحظات الإحساس والشعور بالذات وخصوصياتها المتعددة.
فنحن مع ”احترام الاختلاف بوصفه سبيلا للاتفاق، والاعتراف بالتباين بوصفه دليلا على العافية، وتأكيد أنه ما من أمل في سلام البشرية ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم تمارس قهرا سياسيا أو فكريا أو أخلاقيا على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم بدعوى أن الطبيعة والتاريخ ميزاها على غيرها بما لا يمتلكه سواها، فمستقبل البشرية مرهون بالاحترام المتبادل، والتخلي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي، والتسليم الذي لا رجعة فيه بأن إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب، إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء“[2].
ولكن السؤال هو: كيف نتيح لحالة التنوع أن تقودنا إلى التعايش والوحدة وليس إلى الانقسام والحروب؟. ولا ريب أن الإجابة على هذا السؤال المركزي، يعد من القضايا الأساسية التي تساهم في خلق رؤية جديدة لواقع التعدد والتنوع في واقعنا ومجتمعنا. وأن صون الحقوق الثقافية والسياسية للتنوعات هو السبيل الذي يوصلنا إلى أن تكون حالة التنوع طريقا للتعايش والوحدة بدل أن تكون سببا للانقسام والحروب. وما نود أن نبلوره في هذه الدراسة، هو الحقوق الثقافية للتنوعات والتعدديات المتوفرة في فضائنا الاجتماعي. فما هي حقوق التنوعات الثقافية؟.
الحرية الثقافية:
وذلك عبر السماح لكل التنوعات الاجتماعية من توفير مصادرها الدينية والفكرية، حتى يتسنى لكل الأجيال من التواصل المباشر والحر مع هذه المصادر.
وهذا من الحقوق الثقافية الأصيلة والرئيسة لكل التنوعات الاجتماعية، بصرف النظر عن أحكام القيمة تجاه هذه المصادر. وإن كل أشكال محاربة وإقصاء هذا الحق الطبيعي، يعد وفق المقاييس الإنسانية والحضارية، تجاوزا نوعيا وخطيرا على قيم التعددية والتسامح وحرية العقيدة والرأي والتعبير.
لهذا فإننا نرى أن التنوعات الاجتماعية، بحاجة إلى إطار قانوني في إطار وحدة الوطن والمجتمع، حتى يتسنى لها من خلال هذا الإطار ممارسة شعائرها والتعبير عن ذاتها الثقافية، وتتواصل بحرية مع مصادر وأمهات كتبها الدينية والتاريخية والعقدية.
وإن منع هذه التنوعات من التواصل الحر مع مصادرها العقدية والثقافية، تحت دعاوى الحفاظ على الوحدة والوئام الاجتماعي، لا يؤدي إلى إرساء دعائم الاستقرار الثقافي والاجتماعي، بل العكس من ذلك تماما. إذ أن هذا المنع، يزيد من الاحتقانات، ويوفر فرصا عديدة لتجاوز القانون والدخول في مواجهات تهدد حالة الاستقرار والوحدة الوطنية.
فالحرية الثقافية بكل مفرداتها وآفاقها، حق طبيعي لكل التنوعات، وعلى مؤسسة الدولة أن تصيغ وتبلور قانونا يكفل هذا الحق لكل التنوعات والتعبيرات الثقافية والاجتماعية المتوفرة في المجتمع.
إن الوحدات الاجتماعية والسياسية والوطنية القائمة اليوم، في أصقاع الدنيا ليست بسبب التجانس التام بين مكونات هذه الوحدات. فهي قائمة على التعدد واحترامه. والطريق الذي تعلمنا إياه التجارب لوحدة المتنوعين هو في خلق النظام الاجتماعي والثقافي والسياسي المتوازن والمرن في آن.
وفي سياق بناء الوحدة الوطنية في هذا المجتمع المتعدد من الضروري الاهتمام بالحقوق الثقافية لمختلف المكونات.
بناء الأطر والمؤسسات:
فتشكيل الأطر والجمعيات والمؤسسات الثقافية والأدبية والإبداعية الأهلية، هو حق ثقافي طبيعي لكل التنوعات المتوفرة في المجتمع.
وهي مؤسسات تعنى بتنمية العمل الثقافي الوطني، واستيعاب كفاءات الوطن، والمساهمة في معالجة بعض المشاكل الاجتماعية والثقافية، والتي تتطلب تكاتف الجهود في سبيل بلورة رأي وموقف وطني تجاهها.
والتنوعات الاجتماعية، تعبر عن ذاتها الثقافية والاجتماعية من خلال هذه الأطر والمؤسسات، وتعمل على توفير كل متطلبات الساحة الثقافية والأدبية.
وإن غياب هذه التشكيلات القانونية، هو الذي يساهم في تشرذم النخب الثقافية والأدبية أو في انخراطها في أطر وأوعية غير رسمية تمارس من خلالها دورها ومسؤوليتها.
وإن المرحلة الراهنة تتطلب إطلاق مؤسسات المجتمع المدني «التعاقدي» لكي تمارس دورها في بناء الوطن وتنمية المجتمع وإشاعة ثقافة العمل المؤسسي، بحيث يتوفر الإطار القانوني لكل المبادرات الفردية والأهلية، التي تتطلع إلى تشكيل مؤسسة أو بناء جمعية وهيئة.
الحماية القانونية:
وصيانة حقوق الإنسان واحترام كرامته وخصوصياته الذاتية والثقافية، والعمل على سن القوانين والأنظمة التي تحول دون التعدي على هذه الحقوق. فالاختلافات المذهبية والقبلية والعرقية والدينية، لا تبرر بأي شكل من الأشكال التعدي على حقوق الآخرين. فكل القناعات الدينية محل احترام وتقدير. والاختلاف في الفكر والانتماء، لا يقود إلى التعدي على الآخرين في وجودهم وأفكارهم، بل على العكس من ذلك، حيث إننا مأمورون دينيا من احترام الآخرين وممارسة العدل تجاههم والإحسان إليهم.. قال تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾[3].
وعن معاوية بن وهب قال: قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين حلفائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ فقال: تنظرون إلى أئمتكم الذي تقتدون بهم فتصنعون، فو الله إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدون الأمانة إليهم.[4]
فلا نحارب الآخرين بسبب أفكارهم وآرائهم، كما إننا ينبغي أن لا نمارس عملية الإقصاء والإلغاء تجاه الآخرين بفعل اختلافنا معهم في دائرة من دوائر الانتماء لدى الإنسان. فالمطلوب دائما وفي كل الأحوال، ومن كل الأطراف، هو العمل على صيانة حقوق الإنسان وعدم امتهان كرامته. فالإنسان مطلقا مصان في ذاته وكل ما يتعلق به من أمور وقضايا. "والاحترام يفوق التسامح، فهو ينطوي على موقف إيجابي تجاه الغير في تعددية خلاقة. ولا يمكن لأصحاب القرار أن يقننوا الاحترام بالتشريعات، ولا يستطيعون إكراه الناس على احترام الغير. ولكن يمكنهم أن يدعموا الحرية الثقافية باعتبارها من الدعامات التي تقوم عليها الدولة. والحرية الثقافية، على خلاف الحرية الفردية، هي حرية جماعية.
فهي تشير إلى حق جماعة من الناس في أن تتخذ ما تشاء من أساليب الحياة. والحرية الثقافية هي ضمان للحرية ككل. فهي لا تحمي الجماعة وحسب، بل تحمي حق كل فرد من أفرادها. والحرية الثقافية بحمايتها لمناهج حياة الغير، تشجع على التجريب والتنوع والخيال والإبداع "[5].
المشاركة وتكافؤ الفرص:
إذ أن من الحقوق الثقافية لكل تنوع اجتماعي، حق المشاركة في الحياة الثقافية الوطنية وتكافؤ الفرص، بحيث أن الامكانات الثقافية الرسمية تصرف وتوزع بالتساوي، ويحق لكل الكفاءات والطاقات الوطنية أن تصل إلى أعلى المناصب والمسئوليات الثقافية. وأن لا تكون للانتماءات الطبيعية أو الحديثة دور في منع أو تهميش إنسان أو طرف من ممارسة دوره ومسئولياته على الصعيد الثقافي. لذلك فإن الثقافة الوطنية هي محصلة التفاعل الخلاق بين مجموع التعبيرات والمكونات.
والسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحققا في أي مجتمع متنوع ومتعدد إلا على قاعدة نفي التمييز والتعامل الحضاري من كل أشكال التعددية في المجتمع ومشاركة هذه التعبيرات في البناء والإدارة وتسيير الشئون العامة، وهو المؤشر الأقصى لارتقاء هذا المجتمع وتوفره على سلم مجتمعي صلب واستقرار سياسي متين.
وعلى هذا نستطيع القول: أن محاولات التطهير العرقي والتمييز الطائفي والتعصب الديني وممارسة العنصرية، كلها قضايا وممارسات لا تفضي إلا إلى المزيد من التدهور الاجتماعي والفوضى السياسية والانهيار المجتمعي.
فالكراهية لا تصنع استقرارا، والإكراه لا يقود إلى تغيير حقائق التاريخ والمجتمع. فالمشاركة لا تحمي الجماعات الخاصة فقط، بل تحمي المجتمع بأسره حاضرا ومستقبلا. وعدم التفرقة ليس شعارا يرفع أو مقولة تقال، بل هو نظام قانوني ينص على ذلك، وممارسة مستديمة من مختلف المواقع تؤكد على خيار المساواة واستيعاب جميع مكونات الوطن والمجتمع.
ويعرّف مصطلح عدم التفرقة في القوانين الدولية والإنسانية، بأنه المساواة في الفرص أمام الأفراد دون اعتبار للجنس والدين، والعرق، والأصل الاجتماعي، واللغة والثروة. وذلك في القانون وسلوك الحكومة والأعمال الفعلية.
وتؤكد التوجيهات الإسلامية على ضرورة أن يتعامل الإنسان مع الآخرين بمقتضيات العدالة. قال تعالى ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾[6].
فالتعامل الإيجابي مع الآخرين، هو الكفيل على امتصاص تشنجهم واستيعاب سلبيتهم، فتتحول من جراء التعامل الأخلاقي الرفيع إلى معرفة متبادلة قائمة على الصدق والاحترام العميق، ونبذ كل أشكال الضغائن.
وعديدة هي القصص الإنسانية التي تؤكد على هذه الحقيقة. ويكفينا أن نشير أن أخلاق الرسول الأعظم (ص) الراقية أدخلت الكثير من الكفار والمشركين إلى الإسلام. فأخلاق الرسول (ص) ومداراته للناس وحسن تعامله معهم نقلت الكثير من الناس من موقع معاداة الإسلام إلى موقع المؤمن المدافع عنه. لذلك جاء في الحديث الشريف «دار الناس تستمتع بإخائهم، وألقهم بالبشر تمت أضغانهم»[7]. و«ما كرهته لنفسك فأكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحبه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك، محبا في السماء، مودودا في صدور أهل الأرض»[8]. و«ثلاث خصال تجتلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة والمواساة في الشدة والرجوع على قلب سليم»[9].
فالعلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الإطار الوطني والإنساني، ينبغي أن لا تكون قائمة على أساس التمييز والمفاضلة، وإنما على قدم المساواة، والكفاءة بصرف النظر عن منبتها وأصلها. ولقد نصت المواثيق الدولية على حق التنوعات والتعبيرات الدينية والثقافية في التمتع بثقافتهم وممارسة شعائرهم الدينية واستخدام لغتهم، والمشاركة في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والعامة، وفي عملية اتخاذ القرار فيما يتعلق بالأقلية التي ينتمون إليها وتكوين اتحاداتهم والرقابة عليها، وإقامة علاقات حرة وسلمية مع سائر جماعات الوطن أو مواطني الدول الأخرى ممن يمتون لهم بصلة قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية.
وخلاصة الأمر: إننا بحاجة إلى رؤية عربية-إسلامية أصيلة، لكي يتجاوز الوعي المجتمعي انقسامه، وحتى يتأسس الأفق العربي-الإسلامي الجديد بعيدا عن احتمالات حروب النبذ والإقصاء والانكار والاتهامات السطحية، ونخطو خطوة شجاعة تجاه تأسيس فضاء معرفي واجتماعي يتسع للحوار والاعتراف المتبادل والاختلاف في إطار المعرفة لا الأيدلوجيا، الذي يثري الفضاء ولا يشتته.
اضف تعليق