على هذا السؤال الذي يشغل بال الكثير من المسلمين الغيورين على وحدة ومصير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعلى وحدة الكلمة والنهج والهدف، يجيبنا سماحته بأن أفضل طريق وأسلم أسلوب لفعل ذلك هو انتهاج لغة الحوار الموضوعي في بحث نقاط الخلاف الفكري والعقائدي، وليس لغة العنف والفرض والإكراه...
لعل من بين أكبر المشاكل التي يعاني منها المجتمع الإسلامي اليوم هي تلك الهوة الواسعة والمسافة الشاسعة بين النظرية والتطبيق، بين الفكر والممارسة، بين ما هو مرتكز في الأسس والمنطلقات وبين ما هو كائن على أرض الواقع من حقائق ومنجزات.
إن تلك الهوّة الواسعة بين الطرفين تعطي صورة مشوهة للإسلام من خلال ذلك الإنسان المسلم الذي لم يحسن الأداء والتطبيق للأسس النظرية وللقيم الفكرية والروحية التي ينادي بها الإسلام الحنيف.
نعم، وبلا أدنى ريب، كلنا يعلم أنه كبر مقتاً عند الله أن نقول ما لا نفعل، وأن ننادي بما لا ننجز، فهل هذا يعني غير أن نردم تلك الهوة الكبيرة، أو على الأقل، أن نقصّر المسافة قدر المستطاع بين الأقوال والأفعال!؟
إن وجود مسافة كبيرة ممتدة بين طرفيّ المعادلة يعني وجود الازدواجية في شخصية الإنسان المسلم بين ما هو فكر ونهج وبين ما هو التزام عمليّ في الذهنية الثقافية والمنظومة الروحية والعقائدية. ففي التوافق والتناغم بين الطرفين راحة للعقل من معاناة الانشطار والابتعاد عن الخط المستقيم والنهج القويم الذي رسمته شريعة السماء لأهل الأرض.
ولا ريب في أن مسألة الحوار المتعلقة بهذا الأمر وبكل أمر مهم آخر، هي أيضاً من أهم المسائل والقضايا التي تفرض نفسها بقوة في المنطق الإسلامي، بدءاً من الحوار في القرآن الكريم، ككتاب سماوي، وصولاً إلى الحوار بين الأفراد والمجتمعات، وحتى بين الحضارات أيضاً.
فالحوار في القرآن الكريم يدلّنا بشكل لا يقبل النقض على أن هذا الكتاب السماوي، الذي هو السفير الإلهي الأخير إلى بني الإنسان، هو كتاب الحوار والنقاش إذ طالما أخبرنا ذلك الكتاب المنزل بحكمة الله ولطفه أن الله سبحانه وتعالى قد قبِل الحوار مع ملائكته ورسله (ع)، بل حتى قبِل الحوار مع إبليس ذاته: ((قال ما منعك ألّا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)) (1).
فبالحوار البنّاء المبني على الحجج الواضحة والبراهين القاطعة وعلى المنطق العقلي السليم القائم على الأسس الإلهية والتعاليم الرساليّة نستطيع أن نرقى بأنفسنا إلى مستوى الحقائق، لا بل أن نجعل الحقائق ذاتها تعيش معنا في واقعنا ومجتمعاتنا، وبعبارة أوضح، نستطيع أن نترجم تلك الحقائق إلى واقعٍ حركيٍّ يمنحنا القناعة الكافية للعيش في مجتمع قائم على بلورة الأفكار الإيجابية المطلوبة ويصفّيها من كل الشوائب وأن يرتقي بإنسانية الإنسان إلى مستوى الخلافة السامية التي أرادها الله سبحانه وتعالى في أرضه وملكه.
وانطلاقاً مما سبق ذكره يمكننا أن نصل إلى نتيجة هامة مفادها أن الحوار الهادف هو الطريق الأمثل إلى تلاقح الأفكار ورقيّها، وهو السبيل الأرحب إلى ترجمة تلك الأفكار والمفاهيم إلى وقائع عملية تسمو بالفرد وبالمجتمع إلى درجة تحقيق وإعادة هيكلة المجتمع الإنساني المؤمن الذي ارتضاه لنا الله ورسوله وأهل بيته (ع)، أولئك الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
فالحوار مع أهل الفكر والمعرفة هو طلب للعلم، والعلم بدوره هو بوّابة العمل وقنطرة العبور إلى برّ الأمان. ولو أردنا الآن أن نتحاور مع علم من أعلام الفكر والمعرفة والثقافة الموسوعية التي تصل بالإنسان عموماً، وبالمسلم على وجه الخصوص، إلى شاطئ الأمان، فسنكون من الذين يهدفون إلى الوصول الآمن من خلال طلب العلم من أهله والتأكيد على ربطه بالواقع العملي المُعاش.
السيد مرتضى الشيرازي قطب من أقطاب العلم والمعرفة في العصر الحديث، وهو سليل أسرة مشهود لها بالأعلميّة وبروح التجديد الإسلامي في مختلف القضايا الفكرية والاجتماعية التي تطرق باب التقدم وباب المتغيّرات الزمنية التي هي سنّة من سنن الحياة وقانون من قوانين تطوراتها الطبيعية.
وبالتالي، فإن حوارنا مع سماحة السيد الشيرازي لن يكون من باب حوار الندّ للندّ، أبداً، على الإطلاق. فالحوار المنطقي يقتضي تكافؤاً بين الطرفين المتحاورين، وهذا ما نحن لسنا بكفء له على الإطلاق. وإنما المقصود هنا بالحوار معه هو طرح العديد من المسائل الجوهرية التي تلامس واقع الإسلام والمسلمين في العصر الراهن، وما علينا نحن إلا أن نستمع بإمعان إلى أجوبة سماحته، ومن ثم نقوم بشرح وتحليل أجوبة تلك الأسئلة التي وضعناها على بساط البحث الصريح، علماً أننا لن نورد في هذا البحث كل المسائل الهامة التي نودّ طرحها على سماحته، وإنما سنرجئ القسم الآخر من الأسئلة إلى بحث آخر، وربما بحوث أخرى، تكون بمثابة التتمة المطلوبة لهذا البحث الموجود الآن بين أيدينا.
ومن الجدير ذكره أن كل هذه الأسئلة التي سنطرحها الآن، ولاحقاً، هي أسئلة تهمّ كل مسلم وربما غير مسلم أيضاً. ولذلك، وبسبب تلك الأهمية فقد جاءت تلك الأسئلة على لساننا وعلى ألسنة ناس سبقونا في طرحها على سماحته في مقابلات وندوات شتى، مع التركيز على ما جاء في كتاب (الحوار الفكري) الذي هو في حقيقته مجموعة من الأجوبة على أسئلة هامة كانت قد وُجِّهت إلى سماحته تحديداً.
ودورنا نحن هنا هو أن نعيد صياغة تلك الأسئلة المطروحة بشكل أكثر عمقاً وموضوعية، ومن ثم أن نقوم بشرح وتحليل تلك الإجابات مع عرضها على بعض الأفكار ووجهات النظر التي يقول بها بعض أرباب الفكر والمعرفة في العالم.
دعونا إذن الآن نبدأ بإعادة طرح أحد الأسئلة الهامة على الشكل التالي:
- من المعروف أن البلدان والمجتمعات الإسلامية عموماً تعيش حالات من التشرذم والتشتت، وضعف في القوة وفي إثبات الوجود أمام الأعاصير التي تتناهبها من كل جانب. فهل الضعف والخلل في الرسالة أم في من يسيء قراءتها وفهمها؟
يجيبنا سماحته على ذلك بكل ثقة ورويّة بالقول والتأكيد على أن الضعف والخلل ما كان يوماً في الرسالة ولا في الرسول (ص)، وإنما كان في أولئك الذين لم يتمثّلوا فعلياً ما جاء في الرسالة، ولم يحفظوا ما أوصاهم به الرسول المصطفى (ص). فالجواب الواضح موجود في قوله تعالى: ((واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا))(2). فالاعتصام على ما نفهمه من قول السيد الشيرازي هو التمسك بالقرآن وسنّة أهل بيت نبيه الأكرم (ص) قولاً وعملاً. فهما الثقلان اللذان لن يفترقا أبداً. ومما يعزز جواب السيد الشيرازي المستوحى من كتاب الله السماوي الخالد، هو قوله أيضاً سبحانه وتعالى: ((ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم))(3).
ففي التنازع هدر للقوى وضرب لوحدة الصف وقوة الكلمة وسلامة القرار، فما من أمّة تنازع أبناؤها إلا وغدت فريسة سائغة للمتربصين بها شرّاً. وإذْ يؤكد سماحة السيد على ضرورة وحدة وقوة الصف الإسلامي الذي شبّهه الرسول الأكرم (ص) بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، فإن الفكر المعاصر يؤكد على سلامة ومصداقية هذه القاعدة. فأرباب السياسة في العصر الحديث يتمثّلون القاعدة السياسية الذهبية التي تقول: (إذا أنت لم تخطط لنفسك، فسرعان ما ستصبح جزءاً من مخططات الآخرين). وغنيّ عن القول أن التخطيط السليم لبناء المجتمع يحتاج إلى وحدة صف ذلك المجتمع، وإلى القوة الذاتية التي تحميه من الداخل والخارج على حدّ سواء، وهو عين ما قاله أمير المؤمنين علي(ع): (من نام لم يُنم عنه) أو كقوله:(من نام عن عدوّه، أنبهته المكائد)(4).
وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي الذي يمكننا أن نطرحه على سماحته:
- ما هو الأسلوب المطلوب الذي يجب انتهاجه لتوحيد المجتمعات الإسلامية، أو على أقلّ تقدير، لتحجيم الخلاف بينها من أجل تحصين الأمّة من الداخل والخارج؟؟
وعلى هذا السؤال الذي يشغل بال الكثير من المسلمين الغيورين على وحدة ومصير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعلى وحدة الكلمة والنهج والهدف، يجيبنا سماحته بأن أفضل طريق وأسلم أسلوب لفعل ذلك هو انتهاج لغة الحوار الموضوعي في بحث نقاط الخلاف الفكري والعقائدي، وليس لغة العنف والفرض والإكراه (5).
حسناً، هذا هو الجواب المختصر والمفيد، وخير الكلام ما قلّ ودلّ، ولذلك دعونا نقوم الآن بعملية التحليل الموضوعي والمنطقي لهذا الكلام الذي يمكننا نحن أيضاً أن نلخّصه بأربع كلمات فقط، وهي (نعم للحروف، لا للسيوف).
فانتهاج لغة الحوار السلمي الآمن الذي يحترم سيادة العقل بين الأطراف المتحاورة هي لغة المنطق الإنساني السليم، لغة الكلمة التي تدعو إلى الخير والصلاح، إنها لغة المنطق القرآني الذي يقول: ((فبما رحمة من الله لِنتَ لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك))(6). فعلى الأطراف المسلمة المتحاورة أن تكون على مستوى الوعي القرآني، وأن تكون مقتدية برسولها الأكرم(ص) في أدبيات الحوار لأن الهدف الأسمى هو جمع القلوب وتوحيد الأهداف، لا أن تكون الأطراف المتحاورة أطرافاً متناحرة تهدف إلى تهميش الأطراف الأخرى وتذويبها في بوتقة وجهات النظر الضيقة والأفق الفكري المحدود.
وما يؤكد واقعية وموضوعية وجهة نظر المدرسة الشيرازية عموماً، والسيد مرتضى الشيرازي خصوصاً، هو قول العلّامة الأزهري محمد أبو زهرة في كتابه (الوحدة الإسلامية): (الوحدة الإسلامية حقيقة ثابتة بمقتضى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فلا يعرف الإسلام الفرقة بالألوان أو بالعناصر والأجناس، أو باللغات والثقافات، وقد كانت الوحدة حقيقة ثابتة في الوجود، كما هي مقررة في النصوص) (7).
وهذه الحقيقة قد أثبتها بدوره إمام الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت، حيث قال: (إن دعوة التقريب هي دعوة التوحيد والوحدة، وهي دعوة الإسلام والسلام، وإن أسلوبها الذي تنتهجه لهو الأسلوب الحكيم الذي أمر اللهُ به رسولَه الكريم إذْ يقول -ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن...-... لقد آمنتُ بفكرة التقريب كمنهج قويم، وأسهمت منذ أول يوم في جماعتها)(8).
فالكلمة التي تخرج من القلب ستدخل حتماً إلى القلب، خاصة إذا كانت تلك الكلمة الطيبة معزّزة بقوة الفكر وسلامة العقل. فما يخرج من القلب يجب أن يكون تحت جناح العقل وبرعايته وحمايته وإلا سيكون الكلام مجرد عواطف جوفاء لا قيمة لها على أرض الواقع.
فالحوار القائم على احترام الآخر ونبذ العنف هو الحوار القرآني المتجسد في مناظرات الرسول الأكرم وأهل بيته (ع) مع كل من كان يخالفهم الرأي. وإذا كان البعض يرى أن القرآن الكريم يتحدث في بعض المواضع بأسلوب بعيد عن اللين والرفق عن بعض أولئك الذين ينطلقون من موقع الأفكار المضادة لفكره، فلم يكن ذلك نتيجة للطبيعة الروحية القرآنية التي ترفض الحوار بالقوة والإكراه، بل كان نتيجة لامتناعهم ورفضهم الدخول في أجواء الحوار وابتعادهم المتعمّد عن استعمال أدواته التي أعطاهم الله إياها للمعرفة والتدبّر والتفكير واتخاذ القرار، ومن ثم الإقرار... وهذا بالضبط ما أراد السيد مرتضى الشيرازي الإشارة إليه في معظم مؤلفاته ومحاضراته. فالحوار يكون مع من يريد الحوار، واليد ممدودة دائماً لكل من يريد المصافحة.
أمّا بالنسبة لأولئك الذين يرفضون الحوار جملة وتفصيلا، فما هو الحل معهم؟؟
الحل معهم هو مقارعتهم بالفكر واستخدام الكلمة ضدهم كسلاح فعّال، حتى ولو كانت تلك المقارعة معهم عن بعد وليس بالحوار المباشر... فأولئك الذين يرفضون الحوار بكل أشكاله، يتخذون من العنف العملي وسيلة لإسقاط الآخرين واضطهادهم عملياً وفكرياً، بل ويدعون إلى تصفية الأطراف الأخرى التي تطلب الحوار وتنادي به بشتى السبل وبكافة الوسائل القمعية.
وبالرغم من وجود هذا النوع من المتزمتين، يرى السيد الشيرازي أن المحاولات الدائمة لشقّ طريق للحوار لابدّ أن تنجح في نهاية المطاف، وغالباً ما كان يتساءل سماحته –وهو تساؤل العارفين- لماذا بعض تلك الأطراف المتزمتة ترفض الحوار؟ بل لماذا يختار المسلمون التفرقة والضعف، والله سبحانه وتعالى أراد لنا الوحدة والقوة؟!
فالسيد الشيرازي غالباً ما يستشهد بقول الله جلّ وعلا: ((إن هذه أمتكم واحدة)) (9)، وبقوله سبحانه أيضاً: ((إنما المؤمنون أخوة)) (10). ويؤكد سماحته بشكل دائم على أن التمسّك بهاتين الآيتين الكريمتين، وبغيرهما من الآيات الكريمة الأخرى المشابهة لهما في المعنى هي الآيات التي ترسم عزّ المسلمين، وهي التي توحّدهم وتنفي عنهم أسباب الضعف والذل والهزيمة والتخلف والهوان، فبالتغلب على العوامل السلبية الداخلية نستطيع التغلب على العوامل السلبية الخارجية (11).
ولكن، وبنفس الوقت، يرى سماحته أيضاً أنه لا يمكن لهذه الخريطة الوحدوية أن تكتمل معالمها وخطوطها إلا في ظل تطبيق عدة شروط موضوعية وعملية.
ومن أهم تلك الشروط والمبادئ عقد المؤتمرات والندوات التمهيدية التي تؤسس لعملية تثقيف الأمة، وذلك عن طريق تشكيل لجان مشتركة تدرس وتدرّس أُطر وسُبل التقارب وآلياته (12). فتشكيل اللجان المشتركة المنبثقة عن عقد المؤتمرات والندوات بين كافة الأطراف الإسلامية الداخلة في الحوار، من شأنها أن تعزّز أيضاً آليةً من أهم آليات التفاهم والتقارب، بل سيكون لها أبعد الأثر في تثقيف الأمة وتوجيهها الاتجاه الصحيح في كيفية التعامل بين أفرادها مع بعضهم البعض من جهة، وبين مؤسساتها وهيئاتها ومنظماتها، بل وكافة أطيافها، من جهة أخرى.
فما هي هذه الآلية، وما هي أهميتها بالنسبة لفكرة الحوار والتقارب من منظور فكر السيد مرتضى الشيرازي؟
وربّ قائل يقول متسائلاً: لقد تحدثتَ في بداية البحث عن السلم والسلام في الحوار، ألا يعني هذا، بالضرورة، أنك قد تحدثتَ عن العنف أيضاً؟
وهنا نقول له: نعم، لقد تحدثنا في هذا البحث عن الحوار السلمي وعن فوائده، ولكن ذلك لا يعني أننا قد تحدثنا عن العنف وآثاره. فالحديث عن فضائل ضوء الشمس لا يعني بالضرورة الكلام عن مساوئ حلك الظلام. فنظرية (نبذ العنف في العمل الإسلامي) صاحبها وحامل لوائها هو السيد محمد الحسيني الشيرازي (13)، والد السيد مرتضى. وبالتالي، فإن السيد مرتضى قد سار على نفس النهج الذي انتهجه والده في حواره مع الآخرين، وفي تعامله مع كافة القضايا الإسلامية. ومن هنا علينا أن نتوقف عند هذه المحطة الهامة التي تشكّل السؤال التالي الذي يمكننا أن نطرحه على سماحته:
- لماذا تبنّيتم سماحتكم نظرية الوالد (رحمه الله) في نبذ العنف في العمل الإسلامي عموماً، وليس في مجرد الحوار فقط؟
وهنا يأتينا الجواب الجليّ بأن (الّلاعنف) سمة من سمات الأنبياء والأئمة والعقلاء الذين يهتدون بنور الحق ويسيرون على نهج وحي السماء.
فمن أبرز صفات الرسول الأكرم (ص) أنه كان أبعد الناس عن العنف إلى أبعد حدّ، وقد دعا القرآن الكريم عامة المسلمين إلى أن يستظلّوا تحت مظلّة هذا القانون الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لهم، فقال في محكم تنزيله: ((ادخلوا في السلم كافة))(14)، وفي هذا أمر واضح في خطابه للمسلمين دون استثناء.
وبالفعل، فقد ترجم الرسول الأكرم وأهل بيته (ع) مبدأ نبذ العنف بشكل يفوق حدَّ الوصف.
فالرسول الكريم (ص) لم يهدر دم أحد إلا إذا كان مستحقاً فعلاً للقتل لعظيم جرائمه، كقاتل عمّه حمزة (ع) وغيره، ومع ذلك فإن أكثرهم استأمن لهم بعض معارفهم عند رسول الله (ص) فأمنهم، فجاءوا إليه وأسلموا على يديه، فقبل إسلامهم وعفا عنهم.
أمّا بالنسبة لأمير المؤمنين علي (ع)، فكان وما زال مثالاً ونبراساً للإنسانية في نبذ العنف بكل أشكاله، ويكفي أن نذكر هنا حادثة عفوه عن قاتله عبد الرحمن بن ملجم، حيث قال له أمير المؤمنين(ع) وهو على فراش الموت، وقد جِيءَ به أسيراً بين يديه:
يا هذا، لقد جئت عظيما وارتكبت شيئاً عظيما وخطباً جسيما، أبئس الإمام كنتُ لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم يكن يقال لي فيك كذا وكذا، فخلّيت لك السبيل ومنحتك عطائي وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة؟ ولكن رجوتُ بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك علّ أن ترجع عن غيّك، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقيّ الأشقياء.
فدمعت عينا ابن ملجم، وقال: يا أمير المؤمنين، أفأنت تنقذ من في النار؟
فقال له (ع): صدقتَ.
ثم التفت الإمام (ع) إلى ولده الحسن (ع) وقال له:
إرفق يا ولدي بأسيرك وارحمه، وأحسِن إليه وأشفِق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد صارتا في أمّ رأسه وقلبه يرتجف خوفاً و رعباً و فزعاً؟
فقال له الإمام الحسن (ع):
يا أبتاه، قد قتلك هذا اللعين الفاجر وفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق فيه؟؟؟
فقال له أمير المؤمنين (ع):
نعم يا بني، نحن أهل البيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا، بحقّي عليك أطعمه يا بنيّ مما تأكل، واسقه مما تشرب.... وإنْ أنا عشتُ، فأنا أولى بالعفو عنه، وأنا أعلم بما أفعل به، فإنْ عفوت، فنحن أهل البيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا عفواً وكرماً (15).
ولذلك، علينا وفق هذه الحادثة و انسجاماً مع سياقها، أنْ لا ننسى قول الإمام جعفر الصادق (ع): ((إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف))(16).
فالعنف والشدة والخرق والقسوة – وفق منظور السيد مرتضى الشيرازي – تستدعي في سلسلة حلقاتها المتتالية سلسلة من ردود الأفعال العنيفة التي تجرّ بدورها إلى ردود أفعال معاكسة أخرى أكثر عنفاً... وهكذا إلى ما لا نهاية في دائرة مغلقة من العنف والقسوة (17). وقد ناقش سماحته مسألة العنف بشكل واسع في كتابه (مقاصد الشريعة ومقاصد المقاصد). ففي ذلك الكتاب تحليل كافٍ وبيان وافٍ عن ابتعاد الإسلام المحمدي الأصيل عن العنف كلّياً، وهذا ما قاد الكثير من الناس إلى اعتناق الإسلام حبّاً وطواعية، وإيماناً بعمق روحانيته وإنسانيته.
وفي الحقيقة، إذا أردنا أن نستفيض نحن أكثر في الحديث عن هذه النقطة تحديداً، نرى اليوم أن الأماكن التي يسكنها أتباع أهل البيت (ع) في شتى بقاع الأرض هي المناطق التي يسارع الكثير من سكانها غير المسلمين إلى اعتناق الإسلام فيها، وذلك لسبب هام جداً، وهو أن أولئك غير المسلمين قد أدركوا أن أتباع فكر أهل البيت (ع) ليس لديهم فتاوى بإهراق دماء وقتل المخالفين وتكفير الناس ومحاكمتهم وتنصيب أنفسهم قضاة نيابة عن الله، يحاكمون الناس على خفاياهم ونواياهم.
ويرى سماحة السيد مرتضى الشيرازي أيضاً أن الإسلام، كمنظومة فكرية وأخلاقية، يدعو بطبيعته إلى الّلاعنف حتى باللسان: ((ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم)) (18). ويؤكد سماحته على ذلك أيضاً بقول أمير المؤمنين علي (ع): (إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين) (19). فاللاعنف هو الأحمد عاقبةً، وهو الطريق الأقصر للوصول إلى الأهداف الإنسانية العليا، وذلك لأن الذي يملك قوة المنطق لا يحتاج إلى منطق القوة. وقد دلّت التجارب على ذلك كالحركة السلميّة في بلاد الهند وغيرها (20).
فالمهاتما غاندي، زعيم الهند الأعظم، كان شديد التأثر بالإسلام و رسالته، وكان مولعاً بالرسول(ص) وبتعاليمه وأخلاقياته، وكان محبّاً لأهل بيته الكرام (ع) ولإنسانيتهم الراقية، وعلى رأسهم الإمام الحسين (ع)، الذي ورث قيم ومبادئ جدّه رسول الله (ص). وقد اعتبره أمير الشعراء أحمد شوقي تلميذاً من تلامذة الإمام المهدي (عج) في القول والفعل، وقال من جملة ما قاله فيه شعراً:
قريب القول والفعل من المنتظر المهدي،
شبيه الرسل في الذود عن الحقّ، وفي الزهدِ
دعا الهندوس والإسلام للإلفةِ والودِّ (21).
ومن المعروف عنه أن دعوته لهم لم تكن إلا لنبذ العنف والابتعاد عن الشدّة واستخدام القوة. والسؤال هنا، ما هو المصدر الهام الذي أثّر على غاندي في فلسفته الداعية إلى نبذ العنف؟
والجواب بكل بساطة ووضوح: إنه الإسلام المحمدي الحقيقي المتمثّل بأهل بيت رسوله (ع) قولاً وعملاً.
فكثيراً ما كان غاندي يقرأ في سجنه وخلوته آيات عطرات من القرآن الكريم (22).
وهو القائل مخاطباً شعب الهند بكافة أطيافه: (إن نبيّ الإسلام هو الذي قادني إلى المناداة بتحرير الهند) (23).
وهو أيضاً صاحب المقولة الشهيرة التي جرت على لسان كل إنسان حرّ وشريف في العالم: (على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالإمام الحسين) (24).
ولذلك، فإن الزعيم الهندوسي غاندي قد انتهج سياسة الإمام الحسين (ع) في التغيير والإصلاح والثورة على المفاسد، حيث أن الحسين (ع) لم يخرج إلا طلباً للإصلاح والتغيير في أمّة جدّه رسول الله(ص).
إن هذا المبدأ في نبذ العنف هو المبدأ الذي أكّدت عليه مدرسة التجديد الشيرازية في العصر الحديث، وأكّد عليه، بقوة الكلمة، السيد مرتضى الشيرازي في كل مؤلفاته ومحاضراته، وفي كل لقاءاته وحواراته الفكرية المتنوعة.
وأخيراً أرجو أن أكون قد وفقتُ في بحثي هذا في وضع النقاط على الحروف بشأن بعض القضايا الهامة، وأرجو أن أُوفق في حواراتنا القادمة مع فكره الموسوعيّ الشامل، وذلك من خلال طرح مفاهيم جديدة، كالمشكلة الطائفية، والتعايش السلمي مع غير المسلمين، ومسألة المجتمع المدني، وإلى غير ما هنالك من مفاهيم عالية القيمة في المجتمع الإنساني الحديث. والله الموفّق.
اضف تعليق