حين أُعلن عن تأسيس المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق، تساءل كثيرون، هل سيضع هذا المجلس حداً للفساد المالي والإداري، وقبل ذلك السياسي المستشري في العراق؟ أم أنه سيضيف أعباءً جديدة تكرّس البيروقراطية السائدة، خصوصاً أن الفساد هو الوجه الآخر للإرهاب، والعنف الذي استفحل في المجتمع العراقي...

حين أُعلن عن تأسيس «المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق»، تساءل كثيرون، هل سيضع هذا المجلس حداً للفساد المالي والإداري، وقبل ذلك السياسي المستشري في العراق؟ أم أنه سيضيف أعباءً جديدة تكرّس البيروقراطية السائدة، خصوصاً أن الفساد هو الوجه الآخر للإرهاب، والعنف الذي استفحل في المجتمع العراقي، في ظلّ نظام سياسي قام على المحاصصة الطائفية- الإثنية، الذي كانت قاعدته الزبائنية، والمغانم.

وخلال السنوات الست عشرة (ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق) تعرّضت الدولة العراقية لنهب منظم داخلي، وخارجي، إقليمي ودولي، حتى إن بول بريمر، الحاكم المدني الأمريكي للعراق، بدّد وحده نحو 8 مليارات، و800 مليون دولار، خلال فترة لا تزيد على عام واحد، كما ذهبت واردات النفط التي زادت على 700 مليار دولار، كلّها من دون حصيلة تُذكر، واستمر تدهور الأوضاع المعيشية والخدمية، الصحية، والتعليمية، والبلدية، والبيئية، بما فيها الكهرباء والماء الصافي، ولم تنفع كل محاولات الاحتجاج الشعبية التي شهدتها بغداد، وبقية المحافظات.

وظلّت عشرات الآلاف من الملفّات لأشخاص متهمين بالفساد من دون معالجة جادة، ومسؤولة، بما فيها قضايا تعود إلى نحو 1000 من الشخصيات النافذة، بضمنها وزراء سابقون، ووكلاؤهم، ومديرون عامون، ونواب، ومستشارون وأصحاب الدرجات الخاصة.

لقد أصبح الحديث عن مكافحة الفساد في العراق مجالاً للتندر، وشاعت «ثقافة السخرية» في مجتمع لم يعرفها إلّا ما ندر، وفقد مصطلح مكافحة الفساد الكثير من معانيه، بل أصبح «شعاراً» يتشبث به الفاسدون أحياناً، قبل غيرهم، حيث يتجرأون على اتهام خصومهم، أو التواطؤ مع فاسدين آخرين للانتقام، أو الثأر، أو الكيدية، من المنافسين السياسيين. وقد بيّنت التجربة أن ليس كل من يزعمُ مكافحة الفساد حريص على المال العام، لاسيّما حين يتم غض النظر عن ملفات وإشهار أخرى، فمن يريد مكافحة الفساد حقاً لا يتّجه لزج القضاء في علاقات نفوذ، وتواطؤ مع من يسعى للتسقيط السياسي، أو النيل من منافس، وهناك أمثلة عدة على ذلك، جرت تسوية ملفاتها بعد ضجة صارخة، وتشويه سمعة، ووقف القضاء في الحالين عاجزاً، أو مغلولاً، لاسيّما في ظلّ أعمال العنف والتداخلات العشائرية، وإن كان هناك أمثلة إيجابية جريئة دفع بعض القضاة ثمنها باهظاً.

لقد حاولت الحكومات المتعاقبة، أو بعض الأحزاب والكتل فتح ملفات بعض الفاسدين، أو التهديد بفتحها ضد خصومها، (بما فيها خارج القضاء)، وأحياناً من التوجه السياسي نفسه، أو الحزبي، وسبق لها أن وضعتهم في مواقع متميّزة لاستفادتهم الشخصية والحزبية، وذلك شرط ولائهم المطلق لها، وفقاً لقاعدة «الولاء قبل الكفاءة»، لدرجة أن الدائرة أخذت تتسع تدريجياً من الولاء العائلي والشخصي إلى الطائفي، أو الإثني، إلى السياسي، أو الحزبي، ثم إلى المناطقي، أو الجهوي، علماً بأن نظرة الرأي العام كانت صائبة وسبّاقة، وكان صوته عالياً بتأكيد مخالفة هؤلاء وانتهاكاتهم اليومية، بل وحتى الإشارة إلى اتهامات صارخة لهم بالسرقة والتلاعب بالمال العام، لكنه كان يتم السكوت عن ذلك.

وقد كشف رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، وجود أكثر من 50 ألف موظف في ملاكات تابعة لوزارة الدفاع (وحدها)، فما بالك بالموظفين المسجلين وهم غير فعليين، بمن فيهم من يتقاضى أكثر من راتب، أو يتسلّم رواتب لا يستحقها تحت عنوان «الخدمة الجهادية»، أو العيش في المنفى، أو تخصيص درجات خاصة لا تنطبق عليها المواصفات الوظيفية في التسلسل الإداري، فضلاً عن تزوير الشهادات لعدد من المسؤولين الكبار، ويضم ملف النزاهة أرقاماً تكاد تكون مذهلة بهذا الخصوص.

الأساس في مكافحة الفساد هو الفصل الحقيقي بين السلطات، بحيث تكون هناك مراقبة برلمانية، ومحاسبة، ومساءلة خارج الحكومة، ويمكن للمجاميع المتضامنة اتخاذ قرار على أساس برامج، ورؤى، وأهداف، ومطالب، وليس تبادل المنافع، أو المغانم، أو المساومات غير المبدئية على حساب المواطن.

نستطيع القول إنه لا حياة سياسية من دون فساد، لأن السياسة واقعياً هي صراع على النفوذ، والمصالح، والموارد، والامتيازات، مثلما هي «إدارة للشأن العام»، والتلازم بين الفساد والسياسة ليس تبريراً، لكنّ الفساد متفاوت الدرجة، والموقع، والخطورة، والامتداد، ولذلك فإن السياسة الناجحة هي التي توفّق بين إدارة الشأن العام، أو «الخير العام» حسب ابن خلدون، وبين صراع النفوذ، والمصالح، وبهذا المعنى يكون هدف العدالة في مكافحة الفساد ليس انتقاماً، وإنما إحقاقاً للحق، والمصلحة العامة.

وحتى الأنظمة الديمقراطية لا تخلو من الفساد، بل لا يوجد نظام سياسي يخلو منه، لكن النظام الديمقراطي توجد فيه منهجيات وآليات في المشاركة، والمراقبة، والمحاسبة، لترشيد السياسة العامة، فضلاً عن دور المجتمع المدني الذي هو شريك وراصد، و«قوة اقتراح».

والمهم ليس إكثار الحديث عن الفساد وتشكيل الهيئات واللجان، والبحث عن انتشاره، وتسطير توصيات لمكافحته، بل تمكين المؤسسات والأفراد وتنظيمات المجتمع المدني لمكافحته، وتحصين الإدارة بالوقاية، والحماية، والإجراءات الفعّالة لتطويقه، وحصره.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق