لماذا لم ينجح البايولوجي بتحليل كل شيء نزولا الى الكيمياء؟ لاننا عادة لا نستطيع فهم العملية البايوكيميائية بدون فهم الغاية منها. نحن نحتاج لمعرفة نتائجها المفيدة للكائن الحي. لا احد في الكيمياء يدّعي ان الكاربون يفقد الكترونات لأجل ان يصبح ثاني اوكسيد الكاربون، ولكن في البايولوجي...

في عام 1790 في كتابه (نقد ملكة الحكم)، تنباّ عمانوئيل كانط بان لا وجود ابدا لـ "نيوتن لحزمة من العشب". البايولوجي لا يمكن ان يتوحد ابدا او يُختزل الى عدد محدود من القوانين الميكانيكية كما في حالة الفيزياء. هذا "كما يدّعي، هو بسبب اننا لا نستطيع ان نلغي كليا فكرة الغائية او التيليلوجي (التوجّه نحو هدف معين) من الانظمة الحية. السؤال "ما الغاية من؟" ينطبق على الهياكل الحية بطريقة لا تشبه ما يحصل في الفيزياء.

معظم الفلاسفة الانكلوامريكيين، ومؤرخو العلوم والثيولوجيون أخطأوا تماما في فهم هذه الحجة. القصة لديهم تذهب على الشكل التالي: ان كانط ذكر عدم وجود لنيوتن في البايولوجي، بينما شارلس دارون (1809-1882) وهو نيوتن البايولوجي أكّد ان الاختيار الطبيعي يوضح التكيّف بدون الحاجة الى غاية، ونحن الآن ورثة البايولوجي الميكانيكي، وان المعتقدات الدينية هي وحدها لازالت تتحدث عن الغائية.

هناك عدد من الاتجاهات التيلولوجية المختلفة، ولكن الخطاب الانكلوامريكي لم يكن واع الاّ بالصيغة الأعلى صوتا. هذه الصيغة هي الادّعاء بان التكيف في الطبيعة يجب ان يكون نتيجة لمصمم عظيم لأن الحظ وحده لا يمكن ان يفسر الخياشيم في الماء او الرئتين في اليابسة او العيون المعقدة او السوائل التي تسبح بها البكتريا، ولذلك فان العلوم الميكانيكية هي غير تامة.

هذه باختصار هي تقاليد الثيولوجيا الطبيعية للغائية (الجدال لصالح اله الطبيعة). هذا الجدال يعود الى حوار (طيماوس لإفلاطون) لكن اوج ذروته كانت في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. حتى دارون وقبل ان يبدأ رحلته على ظهر السفينة، قرأ وأعجب بالثيولوجي الطبيعي لـ (وليم بالي) الذي شبّه الطبيعة بساعة انيقة. نظام من الأجزاء يناسب بالضبط اجزاء اخرى وله وظيفة الابلاغ عن الوقت (ساعة) يفترض مسبقا وجود ذكاء مصمم (صانع الساعة).

دارون قتل حجة التصميم، نظريته في الاختيار الطبيعي كانت قاتلة. حجته في ذلك، ان تراكم وانتشار السمات الموروثة بواسطة عمليات ميكانيكية للجينات والبروتينات والجيولوجيا والمناخ وغيرها، كلها شكّلت ببطء الكائنات الحية لتناسب بيئتها بحيث بدت كأنها مصممة(1). وفي اللغة الفلسفية، دارون غيّر الخطة المصممة الهياً الى حالة من التكيّف اللاحق. الكتابات الشهيرة في الثيولوجيا الطبيعية تتضمن كتاب ريتشارد دكن (Blind watchmaker)، وكتاب دانيال دينيت (فكرة دارون الخطرة)، وكتاب غري كوين (لماذا التطور حقيقي).

لكن هناك قلة من الأصوات لازالت رافضة. انها ترفض ان دارون قتل الثيولوجيا الطبيعية، واستمروا باعتقادهم فيها مطلقين عليها اسم المصمم الذكي.

الاتجاهات الفكرية الاخرى للغائية تتضمن 1- التيلولوجي الارسطي 2- الكلية 3 – وحدة الطبيعة 4- الحافز والحيوية 5- التنظيم الداخلي، ومختلف الفروقات داخل كل صنف. تقاليد الثيولوجيا الطبيعية امتزجت مع هذه التقاليد الاخرى. لذا سنحاول غربلة هذه الانواع لنرى ان كان هناك اي شيء منسجم مع الطبيعية الدارونية.

التيلولوجي الارسطي

اعتقد ارسطو بالهدفية الموجهة في الطبيعة لأن العمليات الطبيعية دائما تنكشف باتجاه هدف ما، جوزة البلوط تتطور الى شجرة بلوط. ايضا، اجزاء من الكائنات الحية هي في نفس الوقت تعمل لأجل كلّياتها: انسجة العظام لأجل العظم. الدم لأجل الدورة الدموية، السن لأجل المضغ. ارسطو يشير الى هذه الغايات والأهداف بالأسباب النهائية، معرّفا السبب النهائي بـ "الغاية التي من اجلها يتم الشيء".

تيلولوجيا ارسطو يصعب فهمها لأنها اسيء تفسيرها عبر مئات السنين من ثيولوجيا القرون الوسطى بالقول ان ذهن الله وضع الاهداف في الطبيعة. تلك لم تكن رؤية ارسطو، رغم اجيال من التدريسيين الذين حاولوا تقديسه. وبعد الثورة العلمية بدأ الناس يفكرون في الطبيعة كماكنة عملاقة، وكما في كل المكائن تحتاج الاهداف لتوضع بواسطة نوع من الذهن المصمم. بدلا من ذلك، هو اعتقد في التيلولوجي كسمة للطبيعة بنفس الطريقة التي نعتقد بها في الجاذبية، باعتبارها مظهرا للمادة غير شخصي، غير مصمم. كان ارسطو ناقدا للصيغ المبسطة للتطور التي رآها لدى امبيدوكلس و ديموقريطس، لأنه اعتقد ان الاجزاء المادية الصغيرة لا يمكنها ان تنمو مجتمعة الى اعضاء دائمة ما لم تكن المادة امتلكت وسيلة عضوية صُممت في الطبيعة وفق علاقتها مع الاسباب النهائية.

لذا فان ارسطو اعتبر التيلولوجي كطريقة لوصف الانتظام في التكاثر البايولوجي والسلوك والتشريح. لو انه عرف الـ DNA يُحتمل انه غيّر رأيه ليقول "ان المعلومات تغير المادة". لكننا لانزال لدينا سؤال السبب النهائي لأرسطو: كيف ان المادة الشائعة (بالنسبة له المادة، بالنسبة لنا الـ DNA او الخلايا) اصبحت مختلفة في احياء واعضاء متنوعة؟ الـ DNA وحدها لا تكفي لتوضيح هذا، وبعد ان عزلنا الكروموسومات ادركنا اننا نحتاج لدراسة التطور بعناية اكبر، لذا نحن بالنهاية نكتشف مجموعة الجينات والعمليات البايولوجية التي تنظم كل الـ DNA المحتملة في اعضاء حقيقية وهياكل وسلوكيات. تلك الاسباب التنظيمية لم يستهدفها البايولوجيون الاّ مؤخرا وهي كانت تمثل مظاهر الحياة التي سمّاها ارسطو "تيلولوجية".

على خلاف الثيولوجيا الطبيعية، تيلولوجيا ارسطو المنهجية ليست غير منسجمة مع الدارونية. ارسطو اعتقد انك لا تستطيع عمل بايولوجي بالحديث فقط عن دوران الذرات، انت تحتاج ايضا الى اكتشاف لماذا هذا العضو او السلوك يتناسب مع هيكل الحيوان او وظيفته او بيئته. ذلك السؤال يميل الى سايكولوجيا دينية فقط اذا كنت ثيولوجيا طبيعيا.

الكلية Holism(2)

لو وضعنا جانبا تيلولوجيا ارسطو (ثمرة البلوط تصبح شجرة)، ولنركز الآن على التقاليد الكلية التي خلقها. الكلية في التيليلوجي ترى ان البايولوجي لا يمكن ان يكون اختزاليا بل يجب ان يعترف بالعلاقات السببية للخلايا داخل الانسجة، داخل الاعضاء، داخل الكائن الحي، داخل البيئة. ميتافيزيقا القرون الوسطى اتّبعت هذا المسار مسمية اياه ميرولوجي (او دراسة العلاقات بين الاجزاء والكليات) لكنها حرفت التحقيق عن مساره عبر محاولة تقرير اي من هذه المستويات المتداخلة هو الجوهر الحقيقي للشيء. في النهاية، اصبحت الفلسفة التحليلية الانكلوامريكية مهتمة جدا في الكلية في القرن العشرين، ولكن فقط كمشكلة منطقية. الفلسفة القارية من جهتها ادمنت ولوقت طويل على الكلية البايولوجية. غوث، كانط وهيجل كانوا متأثرين بعمق بالطريقة التي يبدو فيها الشكل البايولوجي يحكم عمليات فيزياكيميائية مبسطة، وهم حاولوا بمختلف الطرق فهم تنظيم الطبيعة دون اللجوء الى الثيولوجيا الطبيعية.

لماذا لم ينجح البايولوجي بتحليل كل شيء نزولا الى الكيمياء؟ لاننا عادة لا نستطيع فهم العملية البايوكيميائية بدون فهم الغاية منها. نحن نحتاج لمعرفة نتائجها المفيدة للكائن الحي. لا احد في الكيمياء يدّعي ان الكاربون يفقد الكترونات لأجل ان يصبح ثاني اوكسيد الكاربون، ولكن في البايولوجي علينا ان نعترف كيف ان سمات معينة او سلوك معين هو لبقاء الكائن الحي او مجموعته. لذا فان كل العمليات البايوكيميائية التي تنتج من تنفس الاوكسجين هي طريقة لادارة الكائن الحي لأجل ردود افعال كيميائية سريعة في خلاياه. التكاثر الجنسي كمثال ثاني ايضا له نتائج الاختيار المفضلة، يزيد لياقة الذرية من خلال التغيير والقوة الهجينية. هذا التأثير التكيفي يوضح لماذا اختيرت الطفرة في التناسل الجنسي ولماذا تتواصل. انه توضيح تيلولوجي منهجي.

بالنسبة للشخص الكلي، هذه المحاولة لإيجاد "الغاية التي من اجلها يتم الفعل" تنطبق على التراكيب بالاضافة الى عمليات البايولوجي. لذا فان ورقة النبتة يستحيل فهمها بدون فهم شيء ما حول الاشجار، وعليه فان الغرض من الورقة او القلب هو غير مفهوم بدون نظام دائري، الدماغ ليس له معنى هام الاّ في جسم المخلوق الذي يمكنه الحركة. في النهاية هذه الكليات التيلولوجية اشير اليها بالغرض او الهدف النهائي، واصفا اياها "الاكثر طبيعية في جميع وظائف الكائنات الحية، بمعنى، كي تجعل شيئا آخرا مثلها".

ان مدرسة الكلية تريدنا ان نتذكر وسط كل النجاحات الواقعية للعلم الاختزالي، صلاحية المستويات العليا للسببية والتوضيح.الكلية هي نوع من التعددية السببية، تذكّر التقريريين الذريين والوراثيين ان الكائنات الحية والايكولوجيا ليستا فقط نتاج ثانوي مصاحب لتلك الظاهرة.

حقيقة ام وهم

البيانات التيليلوجية هي ذات قوة توضيحية في البايولوجي، ولكن هل ان توضيحاتها حقيقية ام مضللة؟ كانط جادل بان العقل لايستطيع الاّ تمديد الهدف نحو البايولوجي، ونحن يجب ان نقبل الادعاءات التيلولوجية المتواضعة (كمبادئ منظمة) للفكر. في هذا المنطق، من الجائز علميا الادعاء ان عظام الطير الجوفاء هي لغرض الطيران. العقل لايمكنه التوقف هناك طبقا لكانط، وطبيعيا سيذهب لتقدير كل النظام بدءاً من الاهداف وصولا الى المنطقة التي تعيش بها الكائنات الحية. ولكن بسرعة سيصبح المرء في موقف ساخر: الحشيش لأجل الابقار، الابقار لأجل طعام الانسان وهكذا. كانط يلوم التيلولوجيين المتطرفين الذين يدّعون ان حشرة الناموس تساعد في ايقاظ الانسان وجعله نشطا، وان الدودة الوحيدة تساعد في عملية الهضم في ضحاياها. الخداع في البايولوجي هو ابقاء التيلولوجي المحلي ولكن مع التخلص من المحتوى العالمي والكوني.

يقول كانط، عندما نعمل بايولوجي نحتاج لإخضاع التفسيرات الفيزياكيميائية البسيطة الى توضيحات تيلولوجية وظيفية. نحتاج كلا المستويين من التعليل والتوضيح، وان احد المستويين لا يختزل الآخر. العديد من البايولوجيين والفلاسفة، اللاحقين لكانط، جادلوا اننا نستطيع نتظاهر ان الاشياء هي لأجل الاهداف، ولكن هذا التظاهر هو فقط مفيد منهجيا ولايشير الى اي شيء حقيقي.

هل يمكننا الذهاب الى ما وراء التفسير الخالص نفعيا الى نوع من التيلولوجي يوضح الكيفية التي تكون بها الاشياء واقعية؟. اذا سألني عالم الاعصاب لماذا انا ادرس فلسفة، ربما اقول شيء مثل "مسارات عصبية معينة نُحتت في دماغي كأن تكون في المناطق الحزامية والجدارية والفص الجبهي التي من السهل ان تحفز بقوة ما لدي من ناقل عصبي للشعور بالسعادة، يدفعني لكي احب عمل الفلسفة". وعندما يسألني صديقي لماذا انا ادرس فلسفة، من المحتمل ان اقول شيء مثل "لغرض حل ألغاز مفاهيمية والتفكير في مواد ممتعة تشبع رغباتي العميقة". وعندما يسألني مدير الكلية نفس السؤال، انا ربما اقول شيئا ما مثل "الفلسفة تحسّن التفكير النقدي وتجعل الطلاب احسن مواطنين للديمقراطية". هذه التفسيرات ليست في تصادم مع بعضها. انها جميعها منسجمة وصحيحة. ونفس الشيء، اذا كان الوراثيون يعطون تفسيرا جزيئيا للاختلافات في لون جلد الانسان، والبايولوجيون التطوريون يعطون تفسيرا تكييفيا للون الجلد فهم لا يتنافسون ليعطوا التوضيح الصحيح. هنا ثلاثة تفسيرات مختلفة للون الجلد كلها منسجمة وصحيحة:

اولا: التفسير الميكانيكي الخالص للتغيرات الصغيرة في مجموعة هورمونات MC1R الذي يقول لنا كيف ان تركيز الميلانين ينتج جلدا داكنا او خفيفا.

ثانيا: الشخص الذي يعيش في منطقة كثيفة الشمس سوف يعيش أفضل اذا كان جلده اسود لأن الاشعاع المسرطن UV-B سوف يُغلق امامه الطريق بفعل زيادة صبغة الميلانين.

ثالثا: قبل مليون و200 الف سنة اي بعد 300 الف سنة من فقدان أسلافنا لشعر الجسم، بدأت مجموعة من المهاجرين ـ ضغوطا اختيارية بيئية جديدة. الجلد الفاتح تطور في المناطق القليلة الشمس مما يسمح بإنتاج فيتامين D الضروري، بينما تطور جلد داكن لدى سكان المناطق المشمسة.

ان التفسير البايوكيميائي الاول ربما يعمل افضل بدون تيلولوجي، لكن الاثنين الاخرين هما تفسيران تكيّفان وتيلولوجيان بقوة ليس بمعنى ان خلايا الجلد تتوقع الاهداف التي تصلها في النهاية وانما بمعنى ان توزيع واستمرارية هذه الظواهر وجيناتها يصبح لها معنى فقط اذا كانت "لأجل" البقاء.

وحدة الطبيعة

اعترف كانط ان الذهن الانساني لايستطيع تقدير الهدف في الطبيعة. دراسة وثيقة لموقفه تكشف عن خيار تيليلوجي مختلف قليلا. بالاضافة الى التيليلوجي الأداتي الذي يسعى لربط هياكل معينة الى الوظائف (السن الحاد لآكلي اللحوم، لون الجلد الى البيئة الشمسية، الغدد العرقية الى التنظيم الحراري)، نحن يجب ان نفترض، كما يرى كانط، وجود الكثير من التيليلوجي العالمي في كل الطبيعة لكي نؤسس علوم في المقام الاول. نحتاج للتحرك بعناية هنا لأن هذه القضية يساء فهمها باستمرار من جانب كلا الفريقين أعداء واصدقاء التيليلوجي.

الجدال هو: كيف يمكننا توقّع ان تعطي الطبيعة لنا اجوبة لأسئلتنا ما لم تكن هناك بعض المظاهر العقلية والمنطقية في الطبيعة يمكن تفسيرها باذهاننا العقلية؟ اي يمكننا القول ان العلم يفترض بعض التناسب بين اذهاننا العقلية وهيكل الطبيعة. والاّ فان الاول لايمكنه استيعاب الاخير. هذا "التوقع للتناسب" يوحّد كل الطبيعة في مجال واحد للاستكشاف الممكن. كانط يقترح ايضا ان "مبدأ الهدفية" الشمولي او – توقّع اننا سنحصل اجوبة على اسئلة "ما الغاية من " حول العالم الطبيعي – يشكل هذه الوحدة في الطبيعة، ويقول "نحن يجب بالضرورة ان نفترض ان هناك مثل هذه الوحدة حتى لو لم نستوعبها او لم نكن قادرين على اثباتها"(نقد ملكة الحكم، مطبوعات دوفر، ص 15).

هذه الاطروحة ملفتة. افتراض هذه الوحدة في الطبيعة هو ضروري لنا لكي نستمر بعمل العلوم. لكن الفرضية ستكون دائما غامضة تفتقر الى القوة التنبؤية، وغير قادرة على الاثبات. في الحقيقة ان اكثر ما يقوله كانط حول محتوى الافتراض هو، "هناك خضوع في الطبيعة للاجناس والانواع الحية يمكن فهمه من جانبنا"، مضيفا ان هناك "انسجام في الطبيعة مع قدرتنا الادراكية"(نفس المصدر، ص 16). ان المحصلة الهامة من مفهوم وحدة الطبيعة هذا هو انه ليس حقا حول الطبيعة. بالنسبة لكانط، بناء الطبيعة القابل للفهم هو وظيفة لأذهاننا. اذا كان كانط صائبا، عندئذ فان رؤية الطبيعة كهادفة، على الاقل في هذا المدى، تكون بُنيت في قدراتنا الادراكية.

الحافز والحيوية conatus and vitalism(3)

سبينوزا (1632-1677) وصف الطبيعة بعبارات ميكانيكية، لكنه اعترف ان الكائنات الحية فعلا تشترك بنزعة نحو هدف موجّه، انها تكافح لتعيش. هو سمى هذا المبدأ المنشط للانظمة الحية بالكفاح او الحافز conatus، واعتبره جوهر جميع المخلوقات. انه لايشبه التيليلوجي لدى الثيولوجيين الطبيعيين لكنه اعتراف بان طبيعة المخلوقات لديها مبدأ ضروري موجّه نحو هدف فيها بحيث لا يمكن فهمه بالسببية الخالصة لكرة البليارد.

لدى بعض المنظرين اللاحقين، اصبح الحافز قوة ميتافيزيقية سحرية. بعد سبينوزا، بدا كانط يعتقد ان "القوة التكوينية" عملت داخل المادة لتصنع ما يبدو معجزة في تكاثر الحيوان. العديد من علماء الأجنة في القرن التاسع عشر ايضا افترضوا وجود قوة "حياة" حيوية لأنهم لا يستطيعون تصوّر كيف ان السائل الثقيل العضوي غير المختلف يصبح ببطء جنينا. فيزياء الحركة لم تتمكن من تحويل الرخو غير المركب الى اجزاء فاعلة عالية التركيب وكليات متكاملة، لذا فان الجنين اما ان يكون اُتقن بالكامل داخل الام ثم نما ليصبح اكبر حجما عبر التغذية، او انه كان عديم الشكل ثم بالتعاقب اتخذ شكلا بواسطة القوة الحيوية للخلق المتوالي.

افكار المذهب الحيوي كانت مرغوبة جدا حتى بعد الثورة الدارونية. فكرة القوة اللامرئية الغامضة التي ترشد الأجنة الحيوانية كانت منسجمة لحل أصل لغز الحياة ايضا، وربما استُخدمت هذه الماكنة الالهية لتفسير بزوغ الحياة. حاول دارون ايجاد استبدال ميكانيكي للقوة الحيوية لكن ذلك لم يثبت. احد اشهر علماء الاجنة هانس دريش (1867-1941) عرض حيوية تجريبية مستخدما دليلا بانه لا يهم كم مقدار الضرر الذي أحدثه في البيضة الملقحة للحيوان الفقري، لكن العملية تبقى مستمرة كما لو ان قوة خارجية غير مرئية ترشدها.

الوراثة الحديثة وعلم الخلايا الجذعية اوضحا لنا لغز التطور الرحمي. غير ان الاسئلة البديهية لأفكار المذهب الحيوي والحافز لاتزال بلا اجابة في البايولوجي الحديث رغم ان بعض الاعمال التجريبية برزت لتعزل بشكل افضل وسائل الحافز البايولوجي. فمثلا، بدلا من التفكير حول الحافز كسمة لكل الانظمة الحية، اكتشف علماء الاعصاب اليوم مثل Jaak pankseep شيئا ما يشبه نظام حوافز على اساس دماغي في الثدييات: في نفس الطريقة التي تمتلك بها جميع الفقريات نظام خوف، هي ايضا منشغلة في البحث عن سلوك، واخيرا عزل علماء الاعصاب الدافع التحفيزي الاساسي الذي يميز البحث عن سلوكيات متنوعة (الصيد، بحث عن طعام، انجاب). وبلغة واضحة نحن نسميها رغبة. انها عادة تُصنف مع العواطف، لكنها في الحقيقة عاطفة متعالية، نظام تحفيزي يستخدمه الكائن الحي لكي يجد ويستغل الموارد في بيئته. انه يحفز الثدييات لمتابعة المتعة او القناعة، لكنه ليس تماما مثل المتعة. انه ذلك النمو، الاحساس المكثف بالانتباه العالي وزيادة الشعور بالتوقّع كما لو انك على وشك ان تخدش حكة قوية.

التنظيم الذاتي Autopoiesis

قبل الثورة الدارونية لاحظ الناس غموضا لا مفر منه في خاصية التنظيم الذاتي للمادة (هذه الخاصية في الكائن الحي تسمح له بإدامة نفسه وتجديدها عبر تنظيم مكوناته وحماية حدوده). صحيح ان الظروف البيئية تتخلص من او تغيّر الكائنات الحية والمجموعات السكانية عبر سمات مؤذية، ولكن هل نحتاج الى علم أفضل بواسطته تأتي تلك الكائنات الحية الى الوجود في المقام الاول؟ بدءاً من خطط الجسم الى الدماغ، تتبلور المادة الى تراكيب مكررة. هل نحتاج الى علم افضل من الشكل او التنظيم الذاتي نفسه لكي نفهم كيف يحدث هذا؟

العديد من المفكرين، مثل صديق دارون (ريتشارد اوين) او الامريكي الطبيعي (لويس اغازيس)، اعتقدوا ان تطور وتشريح شكل الحيوان مثّل تجسيدا لأفكار الله في المادة الفيزيائية. تراكيب الحيوانات الفقرية التي نشترك بها مع الكلاب والاسماك طبقا لهؤلاء المفكرين هي نموذج اصلي او بمثابة الفكرة المهيمنة التي زرعها الله في الطبيعة. عندئذ سيعمل التكيف والاختيار الطبيعي لأجل استمرارية التغيرات البايولوجية. هذه التأملات لم تعد ذات احترام علمي لكنها تبقى افتراضا مرغوبا للتطوريين المؤمنين.

غير ان سؤال التنظيم لايزال لا يتناسب بالضبط مع الدارونية الجديدة. بعض مفكري القرن العشرين الاذكياء مثل دارسي ثومسن و ستيفن غاي غولد و ستيوارت كوفمان و وليم ومسات اقترحوا طرقا بان الانظمة المادية تميل نحو هياكل معينة فاعلة. لاشيء هناك غامض حول هذا. بدلا من ذلك انها محاولة للتركيز الدقيق على المنطق او آليات المستوى المتوسط بين الوراثيات واختيار الاعضاء الحية. كوفمان مثلا، بيّن ان انظمة المواد الديناميكية سوف تلتحم حول حالات يمكن التنبؤ بها طبقا لقواعد منطقية.

هو وآخرون اقترحوا ان بعض "علوم التنظيم الذاتي" سوف تحتاج للارتباط بالاختيار الطبيعي باعطائنا فهما اكثر دقة عن تطور الشكل البايولوجي. وكما في المذهب الحيوي من قبل، بعض هذه البحوث تسعى لمعالجة تطور التعقيدية في الأجنة الحيوانية او في اصل الحياة. "علم التنظيم الذاتي" هذا يحاول فهم الطريقة التي تنتظم بها العمليات الجزئية بواسطة حالات كلية نسبية بمرور الزمن. اصبح من المألوف علميا افتراض طبيعية مادية – كل شيء يحدث خلال عمليات فيزيائية- لكنه مع ذلك ينحدر من تقاليد تيليلوجية قديمة.

........................................
الهوامش
(1) ظهرت الاعتراضات على الافكار التطورية منذ القرن التاسع عشر بعد ان نشر دارون كتابه (اصل الانواع) عام 1859.هذه الانتقادات برزت اولاً بين صفوف العلماء وجماعات علمية في مختلف الحقول خاصة العالم Jean Baptiste Lamarck، ثم اقتصرت لاحقا على افراد من جماعات دينية. الهجوم على نظرية دارون جاء من عدة جبهات وفي جوانب متعددة سنذكر باختصار بعضا منها:
1- عدم التفنيد unfalsifiability: ان اي بيان او قضية يمكن اعتبارها قابلة للتكذيب اذا كان بلإمكان إجراء ملاحظة او اختبار يُظهر ان ذلك البيان او تلك القضية زائفة. البيانات التي لا يمكن تكذيبها هي لا يمكن اختبارها بالتحقيق العلمي وبالتالي لا يمكن تقييم دقتها. هنري موريس مثلا ادّعى انه يمكننا إدخال اي ملاحظة في الاطار التطوري، لذا من المستحيل بيان ان التطور خاطئ ولذلك فان التطور غير علمي.
2- المنطق الدائري circular reasoning: ان نظرية التطور هي ذات منطق دائري، حيث ان الدليل يُفسّر كدعم للتطور، لكن التطور هو بحد ذاته مطلوب لتفسير الدليل. مثال على ذلك الادّعاء بان الصخور الجيولوجية توضع لها تواريخ طبقا للمتحجرات التي فيها، لكن المتحجرات هي بدورها تؤرخ تبعا للصخور التي تحتويها.
3- الدليل evidence: يقول المعارضون ان التطور لم تتم ملاحظته ابدا. هناك نوعان رئيسيان للتطور يجب دراستهما وهما التطور الجزئي والتطور الكلي. هم لا يرفضون حدوث التغيرات التطورية الثانوية في المدى القصير، لكنهم لايتفقون على حدوث التغيرات التطورية الكبيرة في فترات زمنية طويلة والتي لايمكن ملاحظتها مباشرة وانما يُستدل عليها فقط من عمليات تطور جزئية.
4- الاستحالة impossibility: المظاهر الكبرى للتطور ليست فقط غير علمية وغير مقنعة وانما ايضا مستحيلة لأنها تتعارض مع قوانين اخرى للطبيعة او انها مقيدة بطرق لايمكن بها انتاج تنوع بايولوجي في العالم.
5- خلق الهياكل المعقدة: الكائنات الحية تمتلك خصائص معقدة جدا على المستوى الذري وعلى مستوى الخلايا الحية بحيث انها لا يمكن ان تعمل اذا كانت أقل تعقيدا. نظرية التطور الحديثة تشير الى ان جميع الانظمة البايولوجية يجب ان تتطور بمقدار هامشي بسيط من خلال عملية مزدوجة من الاختيار الطبيعي و التحول الوراثي. اذا كانت جميع المراحل الوسيطة بين العضو الاصلي والعضو الذي سيحصل، هي ليست التحسينات المطلوبة على الاصلي، فسيكون من المستحيل على العضو اللاحق ان يتطور بعملية الاختيار الطبيعي وحده. الأعضاء المعقدة كالعين تحتاج الى سبب آخر او مصمم حسبما يذكر وليم بالي.
(2) مصطلح Holism استخدمه اول مرة الفيلسوف Jan Smuts (1870-1950) من جنوب افريقيا ويشير الى ان أجزاء الكل هي في ترابط متشابك وثيق بحيث انها لا تستطيع ان توجد بشكل مستقل عن الكل، وانها لا يمكن فهمها بدون الاشارة الى الكل الذي يُعتبر اكبر من مجموع أجزاءه. يؤكد Smuts ان الكل يباشر وظيفة تنظيمية قابلة للفهم تتصل بالتعاون والتنسيق بين هياكل وفعاليات الأجزاء وباختيار او عدم اختيار التغيرات. النتيجة من كل ذلك هو توازن في تنسيق الأعضاء والوظائف. فعاليات الاجزاء موجهة نحو غايات مركزية وفكرة موحدة بدلا من ان تكون فعاليات ميكانيكية منفصلة للأجزاء.الكلية جرى تطبيقها في الحالات الذهنية واللغة والايكولوجي.
(3) الحيوية او المذهب الحيوي vitalism نظرية تؤكد بان أصل ظاهرة الحياة تعتمد على قوة او مبدأ متميز عن القوى الفيزيائية او الكيميائية الخالصة. وفق هذه النظرية، عمليات الحياة لا يمكن فهمها بقوانين الفيزياء والكيمياء وحدها، وبهذا فان الكائنات الحية مختلفة جذريا عن الأشياء غير الحية لأن الاولى تحتوي على عنصر غير فيزيائي وتُحكم بمبادئ مختلفة عن تلك التي تحكم الاشياء الجامدة.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق