عند المقارنة بين الماضي والحاضر لماذا لم يعد لدينا هذا الشغف العلمي الذي أنتج لنا ثروة علمية لا نظير لها ولا حدود؟ ولماذا لم تعد الرغبة موجودة لدى الأجيال العربية والمسلمة الحالية في صناعة التغيير وإنتاج المستقبل الأفضل عن طريق العلم والتعلم كالأجيال التي سبقتهم...

الشغف في التعلم وحب العلوم، صفة لازمت علماء الأجيال الماضية، وحين تطالع تاريخ العرب والمسلمين او تقرأ سيرة أي عالم منهم، كابن الهيثم وابن سينا وجابر بن حيان والرازي وابن النفيس والطوسي وغيرهم الكثير، تجد انه لم يقصر شغفه بالعلم والتعلم على جانب واحد فقط، بل تعداه الى طرق المزيد من الأبواب والاكتشافات في شتى صنوف العلم، فتجده الى جانب اهتمامه بالرياضيات –مثلاً- قدم عدة أبحاث وكتب في الفلك والفيزياء والطب والكيمياء، واكتشف أدوات وابتكارات ساهمت في رفد علوم ومهن أخرى كانت ستبدو اصعب لولا اختراعاتهم ومساهماتهم العلمية فيها.

السؤال الذي يتبادر الى الذهن عند المقارنة بين الماضي والحاضر هو: لماذا لم يعد لدينا هذا الشغف العلمي الذي أنتج لنا ثروة علمية لا نظير لها ولا حدود؟

ولماذا لم تعد الرغبة موجودة -الا ما ندر- لدى الأجيال العربية والمسلمة الحالية في صناعة التغيير وإنتاج المستقبل الأفضل عن طريق العلم والتعلم كالأجيال التي سبقتهم؟

الواقع بالأرقام

تقرير اليونسكو للعلوم حتى عام 2030، والذي يعد التقرير الخامس من نوعه الذي تصدره منظمة اليونسكو بصورة دورية منذ عام 2010، يعتبر من اهم التقارير العالمية وأكثرها موثوقية لأنها ترصد وتحلل أهم المؤثرات على سياسة العلم والتكنولوجيا والابتكار والحوكمة، واستراتيجية النمو الفعالة والاتجاهات العالمية في الإنفاق على العلم والبحث العلمي، ويوضح التقرير الاتجاهات العالمية في الإنفاق على البحث والتطوير وكذلك الاتجاهات العالمية المتعلقة بالموارد البشرية، ويقدم التقرير والذي يقع في ما يزيد عن سبعمائة صفحة، صورة شاملة ومتكاملة لواقع منظومة العلوم حول العالم التي يمكن ذكر بعضها عن واقعنا العربي:

* سكان العالم العربي وصلوا لـ 415 مليون نسمة، ويصل الناتج القومي لهم لـ 2.6 ترليون دولار، وما يخص اسهامات التكنولوجيا في هذا الناتج لا يتجاوز0.1% مما يعكس وجود فجوة معرفية وتكنولوجية كبيرة.

* يساهم العالم العربي بنسبة 6% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2013، في حين أنّ إسهامها في معدّل الإنفاق العالمي على البحوث لم يتجاوز 1%.

* لايزال توزيع الاستثمار في مجال المعرفة غير متساو فلا تزال الولايات المتحدة تهيمن باستثمارات تبلغ 28% من إجمالي الاستثمارات العالمية في مجال البحث والتطوير، وانتقلت الصين لتحتل المركز الثاني بنسبة 20% متقدمة بذلك على كل من الاتحاد الأوروبي بنسبة 19%، واليابان بنسبة 10% أما بقية بلدان العالم والتي تمثل 67% من إجمالي سكان العالم –بما فيها العالم العربي- تساهم فقط بنسبة 23% من إجمالي الاستثمار العالمي في مجال البحث والتطوير.

* جاءت الصادرات عالية التقنية من العالم العربي كنسبة من الصادرات الصناعية (2013): 2.8 مليار دولار، وجميع الدول العربية لا تتعدى تلك النسبة بها عن 10% من إجمالي الصادرات.

* وأسهم العالم العربي في عام 2013 بنسبة 0.2% فقط من براءات الاختراع المقدمة إلى مكتب العلامات التجارية وبراءات الاختراع في الولايات المتحدة، وحتى عام 2011، لم تتجاوز إسهاماته 1.9% من إنفاقات الأعمال التجارية العالمية على أعمال البحث والتطوير.

* أشار التقرير إلى أن معظم الدول العربية تكرس أكثر من 1% من إجمالي الناتج المحلي للتعليم العالي مع ارتفاع معدلات الالتحاق بالتعليم العالي الإجمالية لكلا الجنسين في العديد منها، وبشكل عام وعلى الرغم من ذلك، فشلت هذه الدول في خلق فرص اقتصادية على نطاق كاف لاستيعاب العدد المتزايد من الشباب.

القرآن والمعرفة

تضمنت الكثير من دساتير وأنظمة دول العالم بين طياتها التركيز على العلم والبحث العلمي والتطوير في المعرفة والاهتمام بمختلف العلوم لتحقيق الرفاه الاقتصادي والسلم الاجتماعي والعدالة والمساواة بين شعوبها، وبما ان القرآن الكريم هو الدستور الأول للمسلمين في العالم العربي – كان لزاماً ان نعرف كيف اهتم بالعلم والمعرفة!، وكيف حث المسلمين على ذلك؟

الآيات التي حثت، ليس فقط المسلم، بل الانسان بصورة عامة على طلب العلم واعتباره فريضة وواجب انساني، وجزء من الايمان والإنسانية، هي كثيرة جداً وواسعة المعاني والدلالات نكتفي بنقل بعضها على سبيل المثال لا الحصر:

(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) طه: 114، (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) النمل: 15، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) القصص: 14، (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) سبأ: 6، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فاطر: 28، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) الجمعة: 2، (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) المجادلة: 11.

أسباب التخلف

قد ندرج عشرات الأسباب الموجبة للتراجع والتخلف والابتعاد الكبير الذي أصاب العالم الإسلامي أولاً والعربي ثانياً عن النهضة الفكرية والاخذ بأسباب المعرفة والعلم والتطور في المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية والاجتماعية والتكنولوجية...الخ.

لكن ما يهمنا هو وضع اليد على الأسباب الأقرب والابرز في ايصالنا الى هذا الواقع المرير والتي تناول الإشارة الى بعضها المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه (طريقنا الى الحضارة) ويمكن تلخيصها بالآتي:

1. العلم والتعمق والعمل والمثابرة: حيث أشار المرجع الشيرازي الى ان من "أهم أسباب تقلص حضارتنا أنا أصبحنا اليوم بحيث لا نهتم بالعلم والتعمق، والعمل والمثابرة، بينما الأجانب أخذوا يعملون بكلا الشيئين".

2. الحضارة العلمية والعملية: من اهم أسباب تخلفنا هو عدم الاهتمام بالحضارة العلمية (الموجودة في القران الكريم والأحاديث النبوية ونهج البلاغة والصحيفة السجادية وغيرها) والحضارة العملية (سيرة الرسول الأعظم (ص) واهل بيته الكرام (ع) الموجودة لدينا)، اذ يؤكد المرجع الشيرازي انه "على الإنسان المؤمن أن يغترف من هاتين الحضارتين: العلمية والعملية، ما يستطيع أن يكون به كالمهندس الخبير في فن الهندسة، والمعمار القدير في شؤون البناء، يعرف ماذا يأخذ، وفي أين يضع؟".

3. لا للسطحية: فهي عدو النجاح والتقدم بحسب ما يراه السيد محمد الشيرازي، وقد أشار الى ذلك بالقول "نرى أن الغربيين قد تقدموا رغم عدم وجود حضارة لهم إلا ما وصل إليهم من حضارة الإسلام الراقية، بينما نحن المسلمين أصحاب الحضارة وأهلها قد تأخرنا أثر السطحية والكسل، وقد خسرنا حضارتنا، وفقدنا خيرها وبركتها، فالخطيب منا غالباً يكتفي بمطالعة كتاب أو كتابين مطالعة عابرة، وإمام المحراب منا عادة لا يستفيد من تجارب وعقول الأئمة الآخرين، وهكذا وهلم جراً، وإذا لم يكن لخطيبنا وإمام محرابنا الدقة العلمية الكافية لمعرفة الصحيح من غير الصحيح، ولتمييز السليم من السقيم، فكيف بعامة الناس وغالبية المسلمين العاديين؟".

4. من أسباب تخلف المسلمين أيضاً ترك اسباب التقدم، حيث يقول الإمام الشيرازي في كتابه (من أسباب ضعف المسلمين) لقد تقدم الغرب علينا عندما أخذوا بالعمل ببعض قوانين الإسلام، مثل حق الانتخاب والتصويت، وخلع الحكام الطغاة المستبدين، والمطالبة بالحقوق والحريات، ومثل النظم في الأمور، والإتقان في العمل.

5. الحضارة بيد الشعب: يقول الإمام الشيرازي في كتابه (العمل الصالح طريق التغيير): ان "باني الحضارة هو الشعب الحر"، ويضيف: "فإذا أخذ الحكام بمخالفة العلماء ومحاربتهم وسلبوا الحريات من الشعب، فحينئذ لم ير الشعب في الحكام مظلة للتقدم وكان ذلك سبباً في خمود الشعب، فيتأخر الكل عن ركب الحضارة والتقدم، وإلا فيكف يكون من المعقول أن ألفي مليون مسلم ليس لهم من الصناعة شيء يذكر، بينما يعج الغرب بالصناعات، مع أن الحضارة والصناعة والعلم كان للمسلمين ومنهم انتقل إلى الغرب".

"إذن، فالحضارة تتولد من الشعوب ولا يتمكن الشعب من إيجاد الحضارة إلا إذا أطاع الحكام والعلماء وأعطوا للشعب كامل الحرية التي منحها الإسلام قال سبحانه وتعالى في وصف الرسول الأعظم (ص) (يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)، وليس سلب الحريات عن الناس سبباً لتأخرهم الصناعي والحضاري فقط وإنما يتأخرون عن الركب في السياسة والاجتماع والطب والاقتصاد والثقافة وغيرها من مختلف شؤون الحياة".

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2019Ⓒ
http://shrsc.com

.....................................
المصادر
1. القران الكريم.
2. طريقنا الى الحضارة/ السيد محمد الشيرازي.
3. كلمات حول نهضة المسلمين/ السيد محمد الشيرازي.
4 من أسباب ضعف المسلمين/ السيد محمد الشيرازي.
5. العمل الصالح طريق التغيير/ السيد محمد الشيرازي.
6. ويكيبيديا.
7. مقالات شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق