السلطة بالمعنى الفوكوي إستراتيجية معقدة في وضع معين. علاقات السلطة تنطوي عل تقنيات وأدوات وإجراءات في الممارسة وعلى تقاطعات بين مجموع القوى الفاعلة في المجتمع. فالفعل هنا بيت القصيد في كل تفكير يؤسس لمفهوم السلطة كتقنية خاضعة لخطاب ما. من قبل الفاعل في مجتمعات متباينة...

ليست السلطة في تعريف ميشيل فوكو كلمة مرادفة لما دأب الناس في سماعه من معاني كالقدرة والتحكم والسيطرة وكل المؤسسات والأجهزة الخاصة بالدولة في الرقابة والإرغام بالقوانين الوضعية. وفي هيمنة طبقة اجتماعية مالكة للخيرات وللرأسمال المادي في التحليل الماركسي واليسار عموما. أو في التحليل السوسيولوجي للرأسمال المادي والرمزي الخاص بعالم الاجتماع الفرنسي ببيير بورديو أو مفهوم السلطة في فلسفة ألتوسير عن الأجهزة القمعية والإيديولوجية في الدولة الرأسمالية التي تمكنت من تطويع الناس وإرغامهم في الامتثال.

فالسلطة بالمعنى الفوكوي إستراتيجية معقدة في وضع معين. علاقات السلطة تنطوي عل تقنيات وأدوات وإجراءات في الممارسة وعلى تقاطعات بين مجموع القوى الفاعلة في المجتمع. فالفعل هنا بيت القصيد في كل تفكير يؤسس لمفهوم السلطة كتقنية خاضعة لخطاب ما. من قبل الفاعل في مجتمعات متباينة الرؤى لأجل تكريس شكل السلطة والممارسة. وفي انتقاء الممكن واستعمال آليات في الإنتاج والتوزيع والاستهلاك للخطاب الدائر حول السلطة. إنها بالفعل تلك الإستراتيجية التي تشير إلى موازين القوى وصراع الإرادات والمصالح المتباينة.

في معركة السلطة يبدو العنف مظهرا من مظاهرها وليس جوهرا يميز من يمتلك السلطة ويرغم الآخر بتطبيقها أو الانصياع إلى قواعدها. هناك تقنيات الإنتاج وإعادة تطويع الأجساد والعقول وفق ما تقدمه المؤسسات من تقنيات في الانصياع بطرق مرئية ولا مرئية. واضحة وكامنة في عملية الحجز والمنع عبر قنوات تصريف الخطاب وإعادة إنتاجه وتوزيعه وفق موازين القوى السائدة في المجتمع. من أهداف فوكو النفاد والحفر في أعماق المفهوم للبحث في الميكرو سلطة بعيدا عن الآراء السالفة في المنطق الماركسي والليبرالي وفي الفلسفة الكلاسيكية في عمل الدولة بالياتها المعروفة.

النظر إلى السلطة ليس كملكية خاصة بيد الجماعات أو الأفراد. السلطة خطة عمل وذكاء تمرير خطاب. وتنوع آليات السلطة في المراقبة والحراسة والعقاب. وتمثل السلطة الفكرة الأساسية في فلسفة فوكو. من السلطة للخطاب في الميل نحو تطويع الأجساد وتكيفها وفق السائد من الثقافة. ففي كل مجتمع هناك أشكال من الخطاب الذي يعاد إنتاجه وتوزيعه واستهلاكه وفي غالب الأحيان إخفاء أشكاله الأكثر توهجا وثقلا أي ما سماه فوكو نوع من الاستبعاد والمنع من الظهور ومن القول. خطوط حمراء في السياسة وإرادة الحقيقة.

وفي قضايا أخرى. تتجلى المتاريس في القول والخطاب دون المساس بجوهر الفكر السائد في استمرارية السلطة والالتفاف على أدواتها. وفي الأقوال تتضارب الآراء ويبقى الخطاب يراوح ذاته في عالم الواقع. وما يرمي إليه الفاعل من أبعاد ايديولوجية وسلطوية تعني أننا في حاجة إلى تخليص الحقيقة من شحنتها الإيديولوجية التي تعبر عن مصالح فئوية معينة أو تحيل إلى إعادة إنتاج "الهابيتوس" بتعبير بيير بورديو في حقول معرفية كالتربية والتعليم وإعادة إنتاج النخب السياسية وهيمنة الطبقة السائدة على الطبقة المسودة. من خلال ممارسة تقنية الإقصاء والانتقاء وإعادة تشكيل الرأسمال المادي والرمزي للطبقة المهيمنة على الحقل الثقافي والاجتماعي بالطبع والتطبيع أي بالقوة المادية والقوة الناعمة.

هناك نوع من الغبن والحيف الممارس على الطبقات الاجتماعية في الهامش من خلال آليات تصفية وتكريس الطبقية في مدرسة لا ديمقراطية تشرعن للثقافة السائدة وتعمل للحفاظ عليها في تضافر متماسك بين السلطة البيداغوجية والفعل الذي يرمي للزيادة في الرأسمال المادي والرمزي بالعمل البيداغوجي الذي يلمس فيه بورديو نوع من الطبع والإرغام.

فالخطاب المفعم بالقول والذي يرمي فيه الفاعل الهيمنة واللجوء إلى تقنيات معينة كإجراءات ظاهرة وكامنة. وإجراءات عملية للحد من سلطة ما أو المساهمة في تعزيزها وتوطيدها. لا شئ في عالمنا إلا الرقابة والنبذ والتحريض والهيمنة بطرق لا مرئية في الإرغام والانصياع. فكل خطاب حامل للسلطة المعرفية وحامل للقيم. ومن يمتلك سلطة الخطاب بآليات الإنتاج الاجتماعي المادي والرمزي فهو يمتلك النفوذ والقوة. لا قيمة للخطاب والقول إلا عندما تكون السلطة موجهة بقوة مادية.

إرادة الحياة حسب شوبنهاور الأسمى. أقوى من سلطة العقل كملكة في التفكير والنقد وإنتاج المعرفة. الإرادة الفعلية كذلك هي إرادة القوة التي عبر عنها الفيلسوف نيتشه القائمة في مصادر القوة والزيادة في كميتها عند الإنسان القادر في العيش وفق ما ترمي إليه الحياة وما يسعى إليه نيتشه في تحقيق الإنسان الأسمى. الكائن الفريد أو السوبرمان في عالم الغد والذي يجب أن تهيئ له الأسباب للظهور. عالم الحقائق كما يدركها نيشته ليست إلا أوهاما نسينا أنها كذلك بفضل قدمها وتغلغلها في أعماق المنطق والفكر الخالص. فمن الأدوات في تكريس الأوهام هناك العقل. صنم بالغ الفلاسفة في الإعلاء من قيمته خصوصا في الفلسفة المثالية والنزعة المغالية في الميتافيزيقا الغربية من الديكارتية والكانطية النقدية إضافة للغة باعتبارها استعارات وكنايات. لا تؤدي في قول الحقيقة.

لا بد من البحث عن غريزة الحقيقة. والبداية من الهدم للحقائق الثابتة. وتفكيك الميتافيزيقا الغربية بوصفها فكرا ضد الحياة والغريزة. لابد من القول مع ميشيل فوكو أن عوالم السلطة خفية في ثنايا الخطاب المفعم بالدلالة وإرادة الحقيقة. تتشكل في صميمها نزوع الذات الابستيمية نحو التحقق في سياق المؤسسات ودورها في تكريس هيمنة الخطاب من خلال آليات وإجراءات موجهة ومدعمة من قبل الإعلام والبرامج التربوية ومنظومة النشر والطبع وغيرها من المؤسسات الداعمة.

فالخطاب الموجه من قبل قوى معينة يحتار أمام الإرادة الموجهة للحقيقة والداعمة للخطاب الذي يميل نحو القول والتجلي ويكون واضح المعالم والمرامي. أما الخطاب المستتر فهو محلال في جس النبض وإشاعة أفكار معينة غالبا يكون مفعولها لاحقا في سياق الحقل السياسي والاجتماعي.

آليات السلطة اليوم ليس ما دأبنا في استعماله من قبل في تقسيمات السلطة عند مونتيسكيو بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية أو في سلطة الأمير وهيمنته بحد المكر والقوة عند ميكيافليي أو سلطة الحاكم المطلق في الفلسفة السياسة عند توماس هوبس. فالخطاب الآن يروم التعليل والإشهار ويبث في نفوسنا تلك المصداقية والانجذاب بفضل ما يملكه الخطاب من بريق وقوة في الإقناع والإرغام. ألاعيب الفكر واللغة في خطوط متوازية. ولعبة الأقنعة وتمكين الخطاب من الهيمنة والسيادة. تلك أهداف وغايات الفكر الآني الذي يرمي لإقامة الحواجز والمتاريس في رفض أشكال أخرى من الأقوال المضادة للسائد والمهيمن.

هناك قوى مترامية الخطوط والمصالح. قوى مسلحة بالتوجه النفعي لإعادة تشكيل الخطاب وفق مصالح مشتركة. شبكة من الخطوط والمستويات المتصلة والمترابطة في وحدة متنافرة ومتحدة لأجل الإبقاء على أهداف السلطة المشتركة والخطاب المهيمن. بنيات مكونة من عناصر متفاعلة، ولما كانت السلطة مقترنة بالمعرفة عند فرنسيس بيكون في الهيمنة والسيطرة على الحدود الجغرافية والسيطرة على العالم والنوع البشري. فان هذا النوع من السلطة تحول من عالم المعرفة العلمية بوصفها حقيقة مأمولة النتائج إلى محاولة الكشف عن إرادة الحقيقة، تلك الغريزة الدافعة والمسيطرة بطرق شتى. بالقوة المادية والمعنوية وبالإجراءات المتجددة في عالم الصورة والتقنية وثقافة الاستهلاك. إنها تقنيات الإرغام وتطويع الإنسان الذي تلاشى بفعل عمل البنيات وثقافة العصر.

فوكو الذي يعتبر الإنسان عمره لا يتجاوز مائة سنة. مجرد انعطاف في تاريخ المعرفة يظهر ويختفي تبعا لذلك. عمره يقاس بالمعرفة التي أنتجت هذا الإنسان بفكر منفصل عن الماضي. إنسان عصر النهضة وإنسان الأزمنة الحديثة أو الإنسان الذي رفعت النزعة الإنسانية من صورته لم يعد موجودا. اختفى وانتهى للأبد.

عاب البعض عليه المغالاة المفرطة في بنيوية متمركزة على عصر معين من خلال فكرتي الاتصال والانفصال ومن رؤية متجددة للحقيقة وعوالم السلطة وانهمام الفيلسوف بالنسق والتفكير من داخل العصر. وما يحمله من قيم ومعرفة في نقد صريح للذات المفكرة والكائن الحر والمريد. فالإنسان المعاصر نتاج للمعرفة السائدة والمعطيات الآنية. والحفر في أعماق الفكر وترسبات المعرفة من خال آلية النبش في العمق ندرك لا محالة معارف أخرى مسكوت عنها في عصر ما.

في غمار الخطاب تبدو إرادة الحقيقة الأقوى في التعبير عن ذاتها. في عمل المؤسسات الفاعلة. وفي هيمنة العلم والتقنية على الحياة الاجتماعية. وفي تكريس ثقافة الاستهلاك. العالم هنا يعاد تأويله وفق ما يرمي إليه الفيلسوف من أهداف الدراسة والتأملات في غمار السلطة والمعرفة والذات.

وفي ظل هيمنة الخطاب بتقنياته واليات إنتاج السلطة. حيث استبدل فوكو التعريفات السابقة للسلطة بتعريفات أخرى جديدة معتبرا دائما أن الفلسفة ليست إعادة إنتاج منظومة أفكار سابقة. ولا يمكن أن تكون الفلسفة نتاج عصر من العصور بل إن ميشيل فوكو في نقده للعلوم الإنسانية التي اعتبرها وليدة القرن التاسع عشر الميلادي ونتاج ظرفية معينة هيمنت على ذلك الزمان. وحان الآن أن تترك هذه العلوم المجال للنسق. فكر جديد يعيد تشخيص الواقع على غرار ما يقوم به الطبيب مع المريض. وتلك وظيفة الفلسفة في عالم اليوم.

الفيلسوف طبيب حضارة في وصف نيتشه. انه يقدم المواصفات الممكنة بالية الحفر في تشخيص الوقائع والتأمل في ترسبات المعرفة الواردة من زمن الأمس أو محاولة النفاد إلى اليومي والواقعي والاجتماعي في تحليل أهداف المؤسسات المتنوعة والخطاب المهيمن. تأملات ميشيل فوكو في الجنون والجنس وإرادة الحقيقة يكشف مدى التأثر بفلسفة نيتشه.

في القول أن ميشيل فوكو استكمل ببراعة وذكاء ما بدأه نيتشه في بحثه الدائم عن غريزة الحقيقة وعن الفكر المضاد والبديل للفلسفة السابقة. ففي الأمر اعتراف بالجروح النرجسية في الفكر الغربي بسبب التأويلات البالغة الدقة لكل من الجانب الاقتصادي والتاريخي. في فكر كارل ماركس عن الطبقة والوعي والاستلاب والاستغلال. والتأويلات للأعماق في سيكولوجية المحلل النفسي سيغموند فرويد عن الدوافع والرغبات ونظرية الكبت والأمراض العصابية. وفي بصمة نيتشه وأهداف الجينيالوجيا في قراءة المعرفة والشك في الحقائق ونقد المثالية الأفلاطونية والعقلانية الديكارتية وباقي أنماط الفلسفة. وفي ثقافة الاعتراف تتجلى الثقافة الغربية. ونزعة الإنسان للاعتراف بالخطايا والبوح بالأسرار. وفي معالم السلطة تتباين تجلياتها في النزوع نحو القمع والقوة أو في الميل نحو الصراع بين القوى المتصارعة.

لا ينتهي التأمل في ماهية السلطة عند الفلاسفة دون محاولة الاقتراب من أفقها ومعالمها عند فوكو. ففي مغامرة البحث عن دلالة السياسة في ترسبات الفكر الكلاسيكي. وفي تدبير الدول من خلال السلطة والفصل بين السلط. وفي أشكال التسلط وتصنيفات ماكس فيبر بناء على النموذج المثالي والتدرج في الفهم والتأويل لآليات تدبير الدولة. من السلطة التقليدية والسلطة الكاريزمية والسلطة الشرعية العقلانية. ويستقر عالم الاجتماعي على النمط العقلاني في قوة السلطة العقلانية في التنظيم والتدبير للمؤسسات والعمل بالقوانين الوضعية. وصيانة الحقوق والممتلكات بدون الانجرار للقوة. فالدولة ككيان مادي من حقها اللجوء للعنف المشروع عند الحاجة في عملية توفير السلم واستتباب الأمن والحفاظ على أسس الدولة الرأسمالية التي يعتبرها ماكس فيبر وليدة البروتستانتية والإصلاح الديني. ورغبة الناس في النجاح والرفع من قواعد السلطة والعمل السياسي. لذلك تتبلور معالم أخرى للسلطة في أدبيات الفكر السوسيولوجي.

تبقى الاركيولوجيا عملية خاصة بالحفر في تاريخ المعرفة والفكر المؤسس للحقيقة والسلطة. معالم أخرى وتقنيات مغايرة عن رؤية الحقيقة والتعبير عن إرادة المعرفة والنفاد إلى القوة المهيمنة في الخطاب الميال للتعميم والانتشار والاستهلاك. خطاب حول السلطة منتقى ومصاغ بطرق واليات في إدارة الصراع. وهيمنة الفعل في مجتمع ما. وفي الأمر مدعاة للقول أن للسلطة طابعا نسبيا ولا نهائيا. فهي سلطة بعيدة عن أدبيات الفكر التعاقدي مع توماس هوبس أو جون لوك وبعيدة عن الفكر المادي في السلطة القمعية للطبقة البورجوازية في تحليل ماركس والتوسير. وفي أنماط السلطة في تصنيفات مونتيسكيو وماكس فيبر. من هنا يبقى نيتشه الملهم الحقيقي للفلاسفة الجدد في الغرب.

* كاتب من المغرب

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق