q

في البداية لابد أن نثمن النصر العسكري للقوات المشتركة العراقية في الموصل، ولابد من الإشارة إلى نشوة الجنود العراقيين بالنصر، والأهم من ذلك أن تنظيم داعش إنتهى في مدينة الموصل كهيكلية ووجوده كسلطة آمرة وناهية.

ولكن علينا أيضا أن نتساءل ماذا بعد معركة التحرير؟، فكثير من وسائل الإعلام الأجنبية والمحلية لغتها التدمير الحاصل في المدينة، فأحد المراسلين الفرنسيين يقول: "ما عدا الجنود وجرافاتهم التي بدأت برفع الأنقاض عن الشوارع الأساسية لا يوجد حي يرزق في أزقة المدينة القديمة المنحدرة"، فعلا تحتاج الموصل إلى الكثير مما لا يقل صعوبة من النصر العسكري، بعد أن وصل الحال بأهالي الموصل أن يأكلون القطط والأشجار بسبب التضور من الجوع عندما رزحوا تحت قبضة التنظيم الإرهابي، كذلك جزء من سكان المدينة قضوا تحت الأنقاض أو لاذوا بالفرار أمام تقدم القوات العراقية.

التساؤل الأهم هل أن دحر تنظيم داعش في مدينة الموصل يعني إنحساره للأبد؟، التاريخ يجيب عن ذلك بـ(لا)، فتنظيم القاعدة لم ينحسر وينتهي بعد دحره من معقله الرئيس في أفغانستان، وكذلك تنظيم داعش فلا يمكن الجزم أنه سيختفي تحت أنقاض الموصل.

داعش بنى نجاحه على الدعاية السياسية من خلال طرحه قيما ونماذج مضادة للديمقراطية وحقوق الإنسان وعلى الديمقراطيات مواجهته بالرجوع إلى القيم الخاصة به، فلابد من تنفيذ هذه القيم من قبل الحكومة العراقية والقوى السياسية والمجتمع الإقليمي والدولي عبر إتباع آليات إدارة مجتمعات ما بعد الصراع.

أولى هذه الآليات هي الآلية الأمنية، فبعد تحقيق النصر العسكري في الميدان، من الضروري التفكير بإستراتيجية أمنية لمسك هذه الأرض، فكل إستراتيجية عسكرية تتضمن عدة مراحل بدءا بمرحلة التحضير والهجوم ثم مرحلة التطهير ثم مسك الأرض وأخيرا مرحلة التأمين النهائية، وهنا لابد من إعادة الإنتشار الأمني للقطعات الماسكة بشكل يعيد تطبيع الأوضاع الأمنية، والتركيز على الحدود الإدارية والطرق الرئيسة، وملاحقة فلول التنظيم في الصحراء والحدود وكشف مكان المتخفين مع المدنيين، وهنا لابد أن تبادر المؤسسات الحكومية للعمل بسرعة إلى تقديم الخدمات بالتزامن مع الإنتشار الأمني، وأهم ذلك كله الإتفاق على القوة الماسكة للأرض.

ثاني هذه الآليات هي الآلية الإقتصادية، فالموصل تحتاج إلى مليارات الدولارات، فمعركة التحرير الحقيقية هي معركة إعادة الإعمار والبناء علما أن الموصل حضريا تعيد نفسها بنفسها فقط تحتاج مقاربات عمرانية إقتصادية نزيهة لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، لكن إعادة الإعمار قد يلاقي عقبات منها الفساد والمقاولات السياسية، فالأموال قد تتأخر وقد تقع في أيادي غير أمينة وحتى لو إستحضر التمويل قد لا يكون ثمة مجال لإستخدامه في ظل إستمرار الصراع السياسي، فتحرير الموصل شيء وتضميد الجراحات الإجتماعية وردم الخلافات السياسية شيء آخر، لأن الموصل ستخضع لسيطرة قوى تتنافس فيما بينها.

ثالث هذه الآليات هي الآلية الثقافية، فمن الضروري إعادة انتاج الخطاب الديني والسياسي والإعلامي إذ أن هذا الخطاب دخل في صيرورة بطيئة، من التكلس والتحجر والجمود، كما نحتاج إلى مناهج تربوية وتعليمية تواكب مستوى التحول الثقافي الذي ساد مجتمع الموصل،.

المقاربة أو الآلية الرابعة هي المقاربة الإجتماعية، تحتاج الموصل إلى مصالحة مجتمعية وعدالة إنتقالية، لا يمكن أن نبقى نشاهد مشاهد الثأر والإنتقام، فأهم مسألة تطرح ما بعد تنظيم داعش وتعد التحدي الأكبر هو تصفية الحسابات داخل الموصل، فقد شهدت الموصل هذه التصفيات حتى أبان حكم داعش وفي بعض الفترات التي ضعف فيها التنظيم لا يمر يوم من دون إكتشاف جثث لأشخاص موثوقي الأيدي مرميين في الشارع هم في معظمهم من المشتبهين بالإنتماء إلى داعش أو من المتعاملين معهم، أو العكس من يتهم بتعاونه مع القوات الحكومية والصحافة.. فمرحلة ما بعد داعش لن تكون سهلة لإستمرار وجود المجموعات السنية المسلّحة التي تقدّر أعدادها ما بين 45 و50 مجموعة أي ما قد يصل إلى 30 ألف مسلح سيكونون حانقين على تداعيات ما بعد داعش، ناهيك عن مشهد تماهي أفراد التنظيم مع المدنيين مما يشكل خطر داهم وقنابل موقوته تحتاج إلى جهد محلي وإجتماعي يسهم في الفرز والتحقق بما لا يؤثر على الوئام الإجتماعي، كما يرافق موضوع المصالحة موضوع العدالة الإنتقالية التي تعد من أهم ضرورات ما بعد داعش ولكي نقنن آثار الإنتقام وتصفية الحسابات.

الآلية الأخيرة التي يجب التفكير فيها هي المقاربة السياسية ببعديها المحلي والخارجي، فمحليا التفكير بالتحضير من هم الممثلون الفعليون والحقيقيون للمجتمع الموصلي بكل أطيافه، ولابد أن لا نستعجل بالتحضير للإنتخابات لأن مجتمعات ما بعد الصراع تحتاج فترات من إعادة الثقة والتفتيش عن الأصلح للتمثيل السياسي، فمسألة التوقيت والتسلسل للإنتخابات والتأسيس الديموقراطي في أجواء ما بعد الصراع، تؤكد أن الساسة لديهم إستنتاج قطعي وهو أنَّ الإنتخابات تستعمل كمقياس للنجاح؛ ولهذا يتم التعجُّلُ بتنفيذها من دون إجراء التحضيرات اللازمة.

أما خارجيا فالمقاربة السياسية تحتاج توحيد الجهود الدبلوماسية والسياسية لإستقدام المساعدات الخارجية فيجب أن يكون بناء الموصل والأنبار وصلاح الدين وبقية محافظات (الدولة) أولى الأولويات، وكذلك تقوية المؤسسات كي تكون بعدها عملية إعادة الإعمار والإندماج سهلة، ويقل الإعتماد على الدعم الخارجي.

أخيرا لابد أن نذكر بدرس سياسي مهم يعد تحديا لمرحلة ما بعد داعش في الموصل، ألا وهو موقف القوى السياسية الفاعلة من التزاحم الدولي والإقليمي على التسابق لإختطاف ثمرة الإنتصار، وتثبيت دوره ونفوذه، هذا التدافع والتزاحم سيرتبط بدور الولايات المتحدة وإيران، ويمكن القول أن الإدارة الأمريكية سادتها قناعة تسليم بالدور الإيراني في ظل الإدارة الأمريكية، لأن الإيرانيين لديهم حلفاء أقوياء داخل العراق. لكن الولايات المتحدة تفتقر إلى الحلفاء السياسيين ما عدا جزء من الأكراد وإلى حد ما السنة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001 – 2017 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق