لم يكن الوصول نحو الدولة المدنية بالأمر السهل وإنما عبر مراحل تاريخية عصيبة وحروب دامية ونتاج لمفكرين عمالقة تمازجت جميعها حتى وصلت لما هي عليها اليوم في العديد من الدول الغربية، فالتساؤل المطروح هنا ما المقصود بالدولة المدنية؟

ويمكن الاجابة على ذلك بالاستناد لبعض الكتاب والمفكرين واهم تلك الآراء تمحورت على ان الدولة المدنية: هي الدولة التي تقوم على اساس الحياد، ولهذا الحياد نموذجان للتطبيق الاول يقوم على اساس حصر الدين في المجال الفردي والمجتمعي الخاص، وإبقاءه بعيداً عن المجال العام، وهذا الانموذج مطبق في فرنسا اما الانموذج الآخر والذي يطبق في الولايات المتحدة الاميركية وألمانيا، يقوم على اساس ان الدين فضلا عن كونه شأناً خاصا، فانه يؤدي دوراً في نمو الافراد والمجتمع وفي النظام العام.

إن حيادية الدولة نتيجة مدنيتها، جعل الانتماء الى الدولة لا يقوم على اساس ديني بل يقوم على اساس قانوني بعيداً عن كل مرجعية عقائدية، فالدولة لا تعامل مواطنيها على اساس قناعتهم، بل على اساس مسؤولياتهم تجاه النظام العام(1).

فالدولة المدنية او دولة الحياد هي دولة مستقرة لأنها لا تنحاز الى أي قوة من قوى المجتمع او أي فئة من فئاته بل هي راعية لكل الطوائف والقوى(2)

إن الحياد في الدولة المدنية يجب ان يكون حياداً منصفاً فلا احد فوق القانون حيث ان الفرص متاحة للجميع، والإعلام متاح للجميع، كما هو حال التعليم والصحة والخدمات والتوظيف، وحياد الدولة يجب ويفترض به ان يكون موضوعيا، حيث يعطي للمظلوم حقه دون تقصير ويعاقب الظالم بما يستحقه دون استبداد وتعسف، وان الدولة المدنية المحايدة يجب ان تكون منصفة و موضوعية، لا تشعر أي طائفة او مكون فيها بالاستبعاد، او التهميش، او الجرح في الكرامة، او المعتقد، او الرموز (3).

بالعودة لدراسة حالة العراق فثمة متغيرات رافقت التغيير السياسي عام 2003 وابرز ملامح ذلك التغيير صعود نجم الاسلام السياسي وبطبيعة الحال توجد مسببات من وراء ذلك، والمتعارف عليه ان الاحزاب الدينية سواء السنية والشيعية كانت الاقوى نفوذاً وتأثيراً في صفوف المعارضة العراقية وهذا العامل لا يلغي وجود احزاب وقوى معارضة اخرى مدنية وديمقراطية وغيرها من التوجهات لكون النظام السابق يعتمد على الحزب الواحد في حكمه وبالتالي منع الاحزاب الاخرى من ممارسة اي عمل او نشاط لها.

اما التفسير الاخر لبروز تلك الاحزاب الدينية فيعود للتوجه الشعبي نحوها بداية التغيير السياسي اما للوعود التي رفعتها لا سيما خلال مدة المعارضة من شعارات عدالة اجتماعية ومحاربة الفساد وإشاعة الحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية وهذا ما كانت تنتظره القواعد الشعبية من تلك الاحزاب لا سيما الشيعية منها، اما العامل الاخر الذي يقف وراء التوجه الشعبي للتيار الديني بعد 2003 ربما ناجم من جراء التجربة القاسية لمدة اربعون عاماً عاشها ذلك التيار بعزلة شبه تامة الامر الذي ولد رغبة شعبية لمعرفة نوايا تلك الاحزاب والقوى الدينية باعتبارها تقوم على اسس ومفاهيم دينية وبالتالي كانت الاقرب لعقول الناس في اوائل التغيير السياسي.

الذي حصل ان اغلب تلك القوى الدينية لم تتمكن من تحقيق الشعارات التي رافقتها طيلة مدة مسيرها لا سيما في حقبة المعارضة ربما نتيجة اوضاع داخلية وخارجية لا سيما الوجود الامريكي كذلك العامل الاقليمي الايراني والتركي والسعودي وحجم التأثير، كذلك اسباب تتعلق بالهيكل التنظيمي لتلك القوى، ايضاً عدم التهيؤ المسبق بحيث تلك الاحزاب لم تكن يوماً مهيأة لحكم دولة، وهذا كان واضحاً للمتابعين فأغلب البرامج هي للدعاية الانتخابية لا غير يغيب عنه التطبيق الفعلي، كذلك مشاكل سياسية وأمنية وطائفية وبطبيعة الحال تتحمل تلك الاحزاب جزءاً كبيراً منها.

والنتيجة فإن القواعد الشعبية لتلك الاحزاب شعرت بالتهميش والاضطهاد والمعاناة من فقر وبطالة وقلة الخدمات وبالتالي تبدد حلم دولة الرفاهية التي كانت ترفعها تلك الاحزاب وليس بإمكاننا التعميم في دراسة هذه الحالة فبعضاً منها كان يرفع شعار التدين نتيجة الرغبة الشعبية في تلك المرحلة وبعضاً منها كانت تأخذ مجرد التسمية من الدين وإلا فإن الدين منهاج يحتذى به.

اما مؤخراً فقد ظهرت احزاب وقوى جميعها تدعي المدنية وتمثيلها للتيار المدني وترفع شعار بناء دولة المواطنة وهذا امر مشجع، إلا ان الاشكالية تكون في من يرفع ذلك الشعار ففي حالة اتخاذه منهجاً للعمل عليه والسير على وفق خطواته لبناء الدولة لا غبار عليه ويعد من اهم متطلبات بناء الدولة الحديثة، وأما من يحاول ركوب الموجة مستغلاً الانتقاد الموجه للأحزاب الدينية والتوجه نحو المدنية متخذاً لنفسه شعاراً يرفع لأغراض انتخابية تتبدد حال وصوله لكرسي الحكم.

والنموذج الاخير اخذ يتسع لا سيما في المدد الاخيرة وقبيل الانتخابات وهذه اشكالية تشتت ذهن الناخب العراقي فأحزاب الامس نفسها اليوم بلباس المدنية ومن كان يرفع شعار الدين اولاً اليوم يرفع الدولة المدنية المخلص الوحيد ومع ذلك لا يمكن نكران وجود احزاب مدنية لها تاريخها ومنهجها او بعضهاً منها تحالف مع جهات محسوبة للتيارات الدينية متخذاً منهجاً موحداً او رؤية مستقبلية لتحقيق دولة المواطنة إلا ان البعض يشكل على ذلك الحلف لاختلاف وجهات النظر وأساليب ممارسة الحكم وربما ينجح نظرياً ويواجه صعوبات اقلها الانشقاق عملياً، وهناك طرف ثالث شعر بإمكانية غياب تمثيله مستقبلاً فسارع بالتوجه لتصحيح المسار وتشكيل كتل وأحزاب جديدة.

وبالتالي يعود الحل للمواطن العراقي والكفاءات والجهات المتصدية والوطنية فعليها حث المواطن ونشر الوعي بين الناس لمعرفة وفرزنة من يستحق التمثيل بجدارة ويملك رؤية عملية لبناء الدولة والتمييز ما بين الصالح والمسيء، وذلك لان الخطأ في هكذا مرحلة حساسة لا يغتفر والمفروض بعد هذه التجارب ان تتراكم خبرة لدى المواطن بالرغم من الاحداث ما حوله، ايضاً الصرامة في تطبيق قانون الانتخابات وصياغة نظام انتخابي يحقق العدالة في التمثيل واختيار الاشخاص ذوي الخبرة والكفاءة والنزاهة املاً بالخروج بنخبة سياسية تصحح المسار.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

........................................
المصادر
لمزيد من التفصيل حول الدولة المدنية ينظر:
1-. باسم الراعي: المجتمع والدولة (اشكالهما وتحولاتهما)، دار الفارابي، بيروت، ط1، 2011.
2-. علي احمد الديري: خارج الطائفة، مدارك للنشر والترجمة، بيروت، ط 1، 2011.
3-. كاظم شبيب: المسألة الطائفية (تعدد الهويات في الدولة الواحدة)، دار التنوير، بيروت، ط1، 2011.

اضف تعليق