كيف تحول القاسم من صبي صغير لم يبلغ الحُلم، أي لم يبلغ سن البلوغ الشرعي، وكان دون الخامسة عشر من العمر، الى رمز بطولي من رموز واقعة الطف؟ إنها الشجاعة، ونكران الذات، والتضحية عن وعي كامل من اجل الدين والعقيدة، "الموت فيك أحلى من العسل"، هكذا يجيب القاسم عمّه الامام الحسين...
في ظهيرة يوم عاشوراء أنهت معظم المواكب نشاطها الخدمي والشعائري، وبدأ الشباب بتفكيك التكايا والخيام، وإن كان المفترض استمرار العمل في الأيام التالية الى اليوم السابع، على الأقل، لإيصال رسالة حسينية ببدأ المصاب منذ يوم عاشوراء وحتى يوم الدفن في الثالث عشر من شهر محرم الحرام، وأن مصاباً آخراً بدأ بعد استشهاد الامام الحسين وأبنائه واصحابه، وهو؛ مصاب عياله وأهل بيته، وما لاقوه من محنة السبي الى الكوفة، ثم الى الشام، وما رافق ذلك من رزايا ومصائب.
وكما أسلفنا في مقال سابق، فقد أبدع الشباب، وحتى الاطفال في المشاركة بإحياء النهضة الحسينية بأشكال مختلفة بما لديهم من الحيوية والحماس يؤهلهم للقيام بأعمال الحمل والنقل وتوزيع أنواع الأطعمة والمشروبات في شوارع مدينة كربلاء المقدسة، وفي مناطق أخرى من العراق، بل والعالم أجمع، معبرين عن مدى حبّهم للإمام الحسين، وتفاعلهم مع قضيته.
المواكب الخدمية والتدريب على الأخلاق الحسنة
طوال ايام السنة، يعيش الاطفال، ومن هم في سنّ المراهقة حياة مليئة بصخب العادات والسلوكيات في محيط الأسرة والمدرسة والشارع، في معظمها تبتعد عن أساس المنظومة الاخلاقية بسبب المؤثرات الخارجية، وانتشار فكرة التوافق بين انواع السلوك والافكار، فلا مانع –مثلا- من أن يكون الابن بار بوالديه، ولطيف، ومؤدب، بيد أنه يضع سلسلة حول رقبته، وأخرى في معصمه، ويلبس بنطال فيه فتحات تكشف جزءاً من الساق بعنوان "موديل"، أو نرى آخر لايهتم لما يلفظه من كلمات خلال الحديث، او طريقة الإدلاء بالحديث مع الآخرين، كأن يقفز بين كلام الآخرين، او يرفع صوته بشكل مفاجئ، وممارسات غير طيبة عديدة نلاحظها بالتحديد في محيط المدرسة، وفي الشارع، بل حتى حتى الأسرة.
وعندما يحين موسم عاشوراء، وأيام زيارة الاربعين، نرى هؤلاء الفتيان والبراعم ينتشرون في كل مكان ليواكبوا الكبار في أعمالهم ونشاطاتهم لخدمة الزائرين سيراً على الاقدام، بيد أن المشكلة تبقى في أن بعض هؤلاء يأتون وهم يحملون في كوامنهم حالات نفسية وسلوكيات درجوا عليها طيلة ايام السنة، مثلاً؛ حب الأنا، وحب التميّز والظهور، لاسيما في المدرسة، بينما في مواكب الخدمة الحسينية نلاحظ المائز الوحيد انصهار الجميع في بوتقة هذه الخدمة، ولا ينظر شخص الى نفسه، لان الهدف واحد يسعى الجميع للوصول اليه، وهو طلب الشفاعة والقرب الى الإمام الحسين، في الآثار التكوينية في الحياة الدنيا، وفي يوم القيامة، فالجميع يسعى لأن يسجل اسمه في ديوان الإمام، عليه السلام، و أي حركة تحوم ذات الشخص سعياً للظهور والشهرة فان الثواب والأجر ينقطع فوراً، وهذه من بنود عقيدتنا في العلاقة المعنوية بالله –تعالى- وبأوليائه الصالحين، فاذا كان العمل للصورة وللناس، فان الجواب يوم القيامة: خُذ أجرك من الناس!
هذا الدرس الكبير والصعب يجب ان يفهمه الصغار، كما فهمه الكبار، ومن مصاديق هذا الدرس؛ مواكب الشهداء من خريجي هذه المواكب، من شعراء وقراء، وسائقي سيارات، وطباخين، ومن مختلف الشرائح ممن خدموا القضية الحسينية في سنوات التحدي والمجابهة للنظام الصدامي، {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}، وها هي اسماء لامعة من الشهداء الشعائر الحسينية اكتسبوا الخلود من خلود شهداء الطف.
أما اليوم فان ابنائنا يرفلون بنعمة الحرية والأمان، مع وافر الامكانيات الذاتية والتقنية الحديثة، فانهم أحرى وأجدر بأن يجسدوا كل معاني الأخلاص والتفاني والتضحية والإيثار وهم يمارسون مختلف الاعمال تحت راية الامام الحسين، عليه السلام، حتى يكونوا مثالاً بين الناس، وفي الأسرة للأخلاق الحسنة، والآداب الرفيعة كونهم خريجوا المواكب الحسينية.
من المُعلم؟
الأخلاق والآداب تبقى كلمات ونصائح جميلة لا يجادل فيها أحد، إنما المهم التطبيق العملي، ففي المواكب الحسينية ثمة مسؤولين ومشرفين من كبار السن من ذوي العلم والفهم، الى جانب خطباء المنبر الحسيني، تقع عليهم مسؤولية تحويل الأخلاق والآداب الى وصايا مؤكدة في كل لحظة من لحظات العمل بالموكب، حتى يعرف الاشبال والبراعم أنهم في محيط خاص لا يشبه ابداً ما كانوا يعيشونه في الاماكن الاخرى، فان الاحترام المتبادل، والكلام المهذب فيما بينهم، ومع الزائرين خلال توزيع الطعام والشراب، او حتى مساعدتهم فيما يحتاجونه، وغيرها من الامور، هو جزء اساس من الخدمة الحسينية التي من اجلها تركوا بيوتهم وراحتهم وبقوا اياماً وليالي في هذه المواكب الحسينية.
ومن أقوى وسائل التعريف بمفاهيم النهضة الحسينية؛ تقريب الشخصيات العاشورائية من الاطفال والاشبال الى اذهان الموجودين، وأنهم قادرون ان يكونوا مثل القاسم بن الحسن، ليس فقط في ليلته التي يحتفي بها الناس في مراسيم شجيّة تحت عنوان افتراضي "عرس القاسم"، وإنما في سائر الليالي والايام، ولجميع، وليس فقط لذلك الفتى الذي يقوم بدور القاسم، فالجميع مدعوون لأن يقوموا بالدور ذاته.
كيف تحول القاسم من صبي صغير لم يبلغ الحُلم، أي لم يبلغ سن البلوغ الشرعي، وكان دون الخامسة عشر من العمر، الى رمز بطولي من رموز واقعة الطف؟
إنها الشجاعة، ونكران الذات، والتضحية عن وعي كامل من اجل الدين والعقيدة، "الموت فيك أحلى من العسل"، هكذا يجيب القاسم عمّه الامام الحسين، ويثب له استعداده لملاقاة الحتوف دون خوف او تردد.
نحن لا نحب أن يلحق بأولادنا الأذى، فضلاً عن الموت، بأي شكل من الاشكال في الوقت الحاضر، وما نسمعه من حكايات الواقعة العاشورائية نعدها مثالاً يدفعنا للاقتداء وتعلم الشجاعة والاقدام، لا أن نفعل نفس ما فعلوا، فالشجاعة لها مدخلية كبيرة في قول الصدق ومساعدة الآخرين في المدرسة وفي المحلة السكنية، فضلاً عن محيط الأسرة، وايضاً؛ طاعة الوالدين في الحق والفضيلة، وعدم تفضيل أشياء اخرى، مهما كانت جميلة وجذابة مثل الالعاب الالكترونية ومواقع الانترنت، فهي زائلة بينما العلاقة بالوالدين باقية لن تزول آثارها، فهي تبقى عندما يتحول الطفل الصغير الى أب ثم جد، ثم يرى آثارها يوم القيامة. بينما "الموبايل" جهاز أشبه ما يكون مثل الدمية التي يلهو به الطفل الصغير تتحول الى نفايات حالما يتعرض للعطب والخلل.
اضف تعليق