كان النحات جون مونوز يدرك تماماً الصعوبات التي نواجهها في التعبير عن انفسنا. تمثال مائل صغير الحجم رمادي اللون، ينتصب مستغرقاً في صورته المنعكسة على المرآة عند حافة المعرض. هو كما لو انه يحاول إعادة التأكيد على وجوده.

كان النحات جون مونوز يدرك تماماً الصعوبات التي نواجهها في التعبير عن انفسنا. تمثال مائل صغير الحجم رمادي اللون، ينتصب مستغرقاً في صورته المنعكسة على المرآة عند حافة المعرض. هو كما لو انه يحاول إعادة التأكيد على وجوده.

كمراقبين، نحن لا نمارس اكثر من فعل المشاهدة، مندهشون وحائرون بهذا الفعل الإغترابي. يرى النحات مونوز ان الاسئلة الفلسفية حول طبيعة الذات، الزمن، المراوغة بين الحقيقة والخيال كلها تتجسد في أعماله الفنية المتنوعة.

كان مونوز من أعظم النحاتين الذين برزوا في اسبانيا بعد وفاة فرانكو عام 1975، علماً ان الجزء الأعظم من تعليمه الفني اكتسبه في نيويورك ولندن حين عمل لبعض الوقت في بعض الاعمال الخدمية. أهم عمل اشتهر به هو عمله الفني (Double Bind) الذي عُرض في القاعة البريطانية (تات تربن هول) عام 2001. لم ينفق مونوز وقتاً طويلاً في مهنة النحت حتى وافاه الأجل وهو في عمر الـ 48 عاماً في نفس السنة التي عُرض بها عمله. كان عمل دوبل بايند- بأرضيته المخادعة وأبعاده الغامضة والرجُلين الرماديين المُضللين اللذيَن بديا لأول وهلة كأنهما ضجران بملامحهما البيروقراطية الشديدة المكر- يمثل قمة انجازاته الفنية.

كان دوبل بايند بمثابة الأداء الأخير والملائم لمونوز، أعماله كانت مرتبطة دائماً بالفن المعماري وبأوهام المكان. تفاصيل مثل المصاعد والمسالك الضيقة المتبعثرة في أرضية القاعة، سلالم معدنية متناهية في الصغر تقود الى لاشيء، شرفة ذات طابع اسباني وُضعت في أعلى نقطة من جدار القاعة بجانب اشارة معدنية تشير الى "فندق": ليس فيه كما يبدو اي غرف او نزلاء.

يُعتبر مونوز الأكثر اهمية بين النحاتين من جيله الذين هم منشغلون اساساً بلغة الفن والمواد. ومع ان مونوز لم يهتم ابداً بالفن التمثيلي الاّ انه أعاد وبروح عالية النحت الانساني ليعمل كشفرة سرية وعلامة فلسفية. هو تأثر كثيراً بأدب جوزيف كونراد (Joseph Conrad) وغنتر غراس (Gunter Grass) و ت أس اليوت بالاضافة الى بيكاسو و فرنسيس باكون و روبرت سمثسون و ثوماس سكوت. المسرح كان له ايضا تأثيراً بعيد المدى، خاصة أعمال صاموئيل بيكيت و بيرناديلو Pirandello.

في عمله (رسوم معطف المطر) جرى صنع تماثيل طباشيرية كبيرة لغرف، عادة هي مؤثثة شكلياً وتشبه القصص المصورة لأفلام هوليود القديمة. كلها تخلو من الحضور الانساني. أريكة متهالكة ذات وسائد، منتصف باب مفتوح على امتداد قاعة مضاءة – كل ذلك يستحضر غياب الناس الذين كانوا قبل لحظات يشغلون هذه الأمكنة.

وكما في المسرحية الشهيرة للكوميدي الايطالي بيرانديلو بعنوان (شخصيات تبحث عن المؤلف)، فان هذه هي مواقع تبحث عن شخصيات. الغرف تصبح بمثابة منصة يُعرض عليها فشل الحياة الانسانية كما في مسرحية Beckett-like. الصمت يصبح جحيماً وجودياً يأتي من استحالة الكلام والمعنى. ان سلسلة رسومات مونوز لأفواه متحررة من الجسد تستحضر مسرحية بيكيت (Not 1 ) التي عُرضت عام 1972 و فيها فقط فم مضاء بشعاع ضوئي منفرد، يتحدث دون ان يقول شيئاً بالاضافة الى صرخات الصمت القادمة من لوحة باكون Bacon’s popes.

البهلوانيون، محل عارضات الأزياء، راقصات باليه بلا سيقان، الأقزام والمهرجون كلهم ساعدوا مونوز في تحديد ادوار شخصياته: الغرباء جميعهم جُعلوا صامتين و بائسين في لعبة الحياة هذه. القزم المتأثر بالخادمة الشابة لإبنة الملك الاسباني مارغريتا هو تمثال دائم الحضور، لا يستدعي فقط البطل في رواية The Tin Drum وانما المهرج، والساذج والخبير في شكسبير.

في الـ ويستلاند (الاسم مأخوذ من احدى قصائد اليوت)، مهرج صغير يجلس على رف معدني فوق سطح مغطى ببحر من الصدف. هو يبدو كما لو كان ينتظر سيده ليأتي ويعطيه صوتاً. في الفيلم النرويجي The Prompter (عام 1988)، يقف قزم صُنع من مواد يمتزج فيها الورق بالنسيج في صندوق امام منصة فارغة مصنوعة من الرخام الهندسي الابيض والاسود حيث يخلق وهماً بصرياً يذكّرنا بالتصاميم المعمارية للمنازل ذات المستوى الرفيع. في النهاية البعيدة هناك طبل، لو حدقنا في الصندوق سنكتشف عدم وجود عيون لدى القزم وانه مجرد من أي كتابة. كل من الطبل والمرشد (يرسل الايعازات من خارج المنصة دون ان يراه احد) صامتان، الطبل ينتظر عازفهُ، اما المرشد ينتظر الممثلين او الأدوار.

هذه الاعمال تعكس مشاعر بيكيت بان الكائن الانساني لديه الحافز والحتمية للتعبير عن الافكار والاحاسيس لكنه يكافح ليجد الوسائل. نفس الفكرة تجسدت في مجموعة كبيرة من التماثيل الصينية، حيث تبدو الالتفاتة وحزمة الضوء بابتسامة محيّرة، متجمدة كما في الشخصيات الخالدة في قصيدة Grecian urn للشاعر الكبير Keats John.

مات مونوز فجأة في 28 أغسطس عام 2001 بعد شهور فقط من استكمال الـ دوبل بايند. لو جرّدنا الفن العالمي المعاصر من رؤية مونوز الانسانية والوجودية، فسوف لن يكون اكثر من فن سطحي راض بذاته. لا احد يعلم ماذا سينجز مونوز لو انه بلغ اقصى مراحل النضج؟ اننا نجد هنا فناناً غير خائف من الاسئلة الكبرى، حول معنى ان تكافح لتبقى فرداً في هذا العالم الملتبس.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق