q

تبرز إشكالية أخرى حول العنف، وهو ان الجماعة التي تتّخذ من العنف وسيلة في عملية التغيير لا تمثّل إلا مجموعة أفرادها أو قسماً من طبقات المجتمع، وبما أن العنف قد يؤدي إلى دمار الممتلكات وقتل الأنفس إضافة إلى العنف المضاد الذي يمكن أن تردّ به السلطات على عنف الجماعات، فان الإضرار بطبقات وفئات من الأمة قد يشكّك بشرعية العنف وبالتالي شرعية الجماعة التي تستخدمه.

فالجماعة التي تعتبر نفسها ضمير الأمة وممثلة الشعب تفقد شرعيتها عندما تضرّ بمصالحه وحقوقـه، فعن الرسول (ص): «لا يحلّ دم امرئ ولا ماله إلا بطيبة نفسه»(1)، وعلى فرض أن الجماعة تستخدم العنف باعتباره حقاً مشروعاً لها في الدفاع عن مصالحها فإن العنف قد يحقّق لها مصالحها على الأمد القصير ولكنه قد يضر بمصالحها ومصالح الآخرين إضراراً كبيراً على المدى البعيد، وفي هذا الصّدد يقول الإمام الشيرازي: «لا يجوز التعسّف في استعمال الحق إذا كان التعسّف يصل إلى الضرر الكثير في حق نفسه ومطلق الضرر في حق الغير»(2).

وقد حاول البعض أن يشكك في آلية العنف عندما شكّك في أخلاقية هذا الأسلوب خاصة وأن بعض دعاة العنف يحملون رسالة تغييرية تحمل في طياتها مبادئ أخلاقية ومثلاً إنسانية ترفع لواء الخير والأخلاق، وهذا هو الذي جعل البعض يعتقد بوجود تناقض واضح بين آلية العنف وأهداف الجماعات التي تعمل بهذه الآلية وتدعو لها، مما يشكّك فـــي مصداقيتها وبـــالتالي في شرعـــية هذه الآلية.

فالجماعة أو الحركة التي تهدف التغيير تفقد شرعيتها عندما تستخدم نفس الأسلوب الذي تستخدمه السلطة في طغيانها مهما كان التبرير الأخلاقي الذي تدعيه، ذلك (أن التبرير الأخلاقي للإرهاب بالاستناد إلى الغاية أو الهدف مهما كان هذا الأخير نبيلاً شرعياً يعني أن نجعل من الأخلاق مجرد مجاملة لنزاعاتنا أو قبولاً لأيديولوجية معينة، أي عذراً للتغييرات اللانهائية والمتناقضة في نشاط مجموعة بشرية أو طبقة أو حزب أو دولة)(3).

إن التشكيك بشرعية العنف دينياً وعرفياً وأخلاقياً يرجع إلى محور أساسي وهو أن العنف لا يتحدّد بحدود ولا يقف إلى مستوى معين بل قد يتجاوز كل الخطوط الحمراء الشرعية والأخلاقية والقانونية التي رسمها القائمون به خاصةً إذا بدأ التصعيد المتفجّر مع سلطات قائمة على القمع. وعندما يتجاوز العنف تلك الحدود ويقع في دوّامات من الدم المتبادل والمتصاعد تفقد الجماعة مبرراتها الشرعية والأخلاقية والشعبية التي يناضل من اجلها.

ومن كلّ هذا نستنتج الحقيقة الأساسية التي أفرزها تاريخ العنف وهي أن العنف في جوهره متصاعد بقوّة وسرعة ودموية بحيث يتجاوز الأعراف الدينية والقانونية والأخلاقية أحياناً ويصعب السيطرة عليه مما يبطل هدفية العمل ومشروعيّة الحركة.

* مقتطف من دراسة تحت عنوان (العنف وحركة التغيير) نشرت في مجلــة النبــأ-العــددان (21 ـ 22) السنــة الرابعــة 1419

..........................................
(1) الصياغة الجديدة: الإمام السيد محمد الشيرازي، ص389.
(2) الفقه القانون: الإمام السيد محمد الشيرازي، ص221.
(3) الإرهاب السياسي: أدونيس العكرة: ص164.

اضف تعليق