يمكن القول إن الحياة الإنسانية بما فيها من تشكيل وتنوع تصاب بالتصدع والهلع عندما تتعرض إلى أزمات حادة يتقوض فيها الجوهر النفسي والفكري العام لمجتمعاتها. هذه الحساسية المفرطة للنسيج الإنساني العام كثيرا ما غيرت مفاصل مهمة في التاريخ، فمع افتقاد الأمن واشتعال الحروب وانتكاسات الاقتصاد تحول هذا النسيج إلى هشاشة منفرطة من الخوف والإحباط والضعف؛ لهذا فبمقدار ما تأخذ الحضارات وقتها في النمو والبناء طويلا، تشهد ضمورا عندما تتعرض إلى أزمات حادة خصوصا إذا كانت في بدايات النهضة.
يشكل العنف بأدواته المختلفة مؤشرا ارتكاسيا في حركة النهضة التي تهدف أساسا إلى بناء الإنسان فكرياً ونفسياً أولاً، وتوفير الاستعدادات الحضارية الكامنة فيه وتحويلها إلى طاقة إيجابية فعالة ثانياً؛ لذلك فان النهضة تعتمد أساسا على وجود الاستكشافات العقلية للفرد والتي تؤسس فيه وعيا استدلاليا، تقوده نحو تفهم حركة النهضة واستيعابها؛ فحركة النهضة تعتمد على السير ببطء لاحتواء الوعي البشري الذي يستند على وجود القناعات الذاتية التي تحقق فيه الرغبة في التغيير والتجديد والتصاعد.. فالإصلاح والتجديد في حركة النهضة يتركز على تغيير المدركات المفهومية لبناء مفاهيم جديدة في باطن الوعي البشري ضمن أطوار عملية التراكم التاريخي للحضارة؛ لذلك يحتاج هذا الوعي إلى الهدوء الزمني المتوالي لإدراك وفهم ديناميكية النهضة وروحها. لكن العنف بأدواته الحادة يقف سداً منيعاً أمام الفهم الصحيح لحركة الإصلاح والتجديد عبر تزييفه للوعي وإنشائه خطابا منفعلا قائماً على التسطيح، والقفز على منطق التاريخ، وتجاوز الزمن التاريخي للحضارات.
فالعنف فعل غير عقلاني ينبع من الانفعالات الفورية؛ لهذا فهو يعاكس النهضة حدوثا وشكلاً، وهو قادر على إحداث شرخ كبير في حركة النهضة عندما يتجاوز التسلسل العقلي والمفهوم المنطقي للأشياء، ويوجد وعيا موهوما يقود لنرجسية ثورية تنتج الفوضى، وتغيب العقول، ويسيطر اللامنطق.. فالعنف المتلبد بالإرهاب الدموي يقلب الكثير من المفاهيم الراسخة في الوعي السليم إلى فوضى مشوشة تنشر الانفعال غير العقلاني، وتؤسس سلوكيات التعصب والتشدد والتحزب والتصادم، وبذلك تفرز في المجتمع ظواهر الانشقاق والتفكك والانحلال والإحباط والانعزال، وكل هذا يؤدي إلى تدمير حركة البناء والإصلاح، والقضاء على الحركة الطبيعية لنمو الإنسان، ويحوله إلى كائن مشوه ينمو في ظروف غير طبيعية.
نحن ندين الإرهاب؛ لا لأنه يستهدف الأبرياء فقط، بل لأنه يستهدف حركة النهضة والإصلاح ويقمعها، ويغتال الزمن الحضاري للإنسان، ويقتل وعيه ويسلخ قناعاته بالإكراه والرعب، فالعنف إرهاب يهدف إلى فرض أهدافه على الآخرين بسلطان التخويف والتهديد، ويؤسس لسلطته عبر امتهان الكرامة الإنسانية واغتيال هويتها وتحطيم جوهرها، وهو بذلك لا يختلف في جوهره بين كونه سلاحا للحاكم أو المحكوم، وسيلة للمعارضة أو صوتا للمظلوم، لأنه بكل ذلك يؤسس لشريعة الغاب ويتجاوز القيم الإنسانية التي جاءت بها الرسالات حيث تخاطب بشكل جوهري العقل لبناء ذاته أخلاقيا واجتماعيا، ولتأسيس مجتمع إنساني قائم على التعايش والتعاون والمحبة.
نحن ندين العنف المتجسد بأشكاله الإرهابية لأنه يستهدف أولا اغتيال الإسلام وتحطيم قيمه السامية القائمة على جوهر احترام الإنسان وكرامته، وذلك عبر تسويقه وجعله مطمعا يستغله الطغاة في تحقيق مصالحهم الشخصية والسلطوية، لذلك يجب على كل مسلم التنبه لهذا المغزى البشع للكثير من الحركات المشبوهة التي وجدت على طول التاريخ الإسلامي، وأن لا يقع ضحية لشعاراتها الثورية.
ومن كل هذا يمكن قراءة الوقائع واستخلاص النتائج من آثار العنف الدامي الذي خلفته انفجارات أيلول في الولايات المتحدة، إذ غيرت هذه الأحداث الكثير من الخرائط وقضت على الكثير من المكتسبات، وأفرزت أنماطا جديدة من التفكير، وحولت التاريخ نحو مجرى آخر جديد، وأرجعت مساراته إلى الوراء كثيرا، بحيث يمكن أن تقارب قرون الحروب الصليبية.
ومن هذه النتائج:
1- إن العنف قد يوجه حركة الإسلام الحضارية نحو حرب استنزافية عبر الصدام مع الحضارات الأخرى وخصوصا الغربية، مما يعرقل حركته الجوهرية نحو العالمية، فالإسلام دين عالمي يهدف لهداية البشر جميعا دون استثناء، إذ إن قيمه السامية قائمة على غايات الاستيعاب والاندماج مع الآخرين دون وجود حالات التخندق والحرب، فهو دين سلام يقوم على الانفتاح وتأسيس التعايش والتعاون؛ فالأحداث العنيفة تغاير جوهره وأهدافه الغائية.
2- إن العنف الدامي يقود - كنتيجة لضخامة تأثيراته الدموية التي تثير حالات الاشمئزاز والرعب - إلى إيجاد وعي مسبق وأحكام قطعية تترسخ في أذهان الآخرين، مما يؤدي إلى وجود حكم دائم ضد الإسلام والمسلمين، مهما تعددت مشاربهم وتنوعت آراؤهم، والعنف الدامي الأخير قد أسس وعيا مسبقا - أضيف إلى الوعي الأسبق في أعماق الوعي الغربي - قائماً على العداء والحقد الذي قد يستمر طويلا..
3- بالإضافة إلى الوعي المسبق الذي سوف ينشأ لدى المسلمين، فإن سلبية المسلمين تجاه القيم الإسلامية سوف تزداد، خصوصا أن تأثيرات الأحداث العنيفة والتموجات الناتجة عنها قد تولد أزمات نفسية وحالات من عدم الثقة وانفلاتاً حضارياً، وحصول حالات الشعور بالهزيمة المطلقة، فتأثيرات الإرهاب على الداخل الإسلامي هي أعمق بكثير من تأثيراته الخارجية.
4- سوف تزيد أحداث العنف من سوء الفهم الظلامي، الذي تستغله بعض وسائل الإعلام المرتبطة بالصهيونية لتأجيج مشاعر العداء والحقد ولتحقيق مزيد من التصادم الحضاري؛ فالعنف لم يولّد إلا انتكاسات جديدة معقدة بشكل أكبر في العلاقات مع الآخرين، وبذلك يوفر دعاة العنف فرصاً ذهبية للأعداء من أجل المزيد من التشويه والتمزيق.
5- يرتبط العنف بالاستبداد ارتباطاً شديداً؛ فكلما ازداد العنف ازداد الاستبداد، وكلما ازداد الاستبداد ازداد العنف؛ لذلك فإن أحداث العنف الأخيرة سوف تقود لمزيد من الدكتاتورية والاستبداد، فالعالم الغربي وخصوصا الولايات المتحدة التي أحست برعب شديد استولى على ديمقراطيتها وهدد حريتها حيث تعالت الأصوات هناك منادية بالأمن أولاً قبل الحرية، وحيث سوف تتقلص الحريات عندهم ويخضع الناس -خصوصا المسلمين- لرقابة وتقييد كبيرين، فإن العالم الإسلامي سوف يكون الحال فيه أسوأ وتتجذر فيه الدكتاتورية بشكل أكبر، فالخوف من العنف هو هاجس عام يجند القوة لضرب الجميع دون التفريق بين الجيد والسيئ في هذه الحالات.
6- يمكن أن تؤدي أحداث العنف الأخيرة إلى نتائج خطيرة، تتمثل بتقويض البنى التحتية للعالم الإسلامي واستنزافها أو تدميرها، فعلى الصعيد السياسي سوف يكون الخضوع للضغوط أسهل، بزيادة هامش التبعية، وتهميش المشاركة الشعبية، مما يعني عملياً رجوع الاستعمار المباشر بأقوى صوره، وهو تحقيق ميداني لمفهوم العولمة، إذ إن العنف يوفر غطاءً قانونيا للقوى الكبرى لكي تفرض سلطانها على الجميع بداعي توفير الأمن، وقد قالوا ذلك بشكل صريح: (إما معنا أو مع الإرهاب)، وهي دعوة للتوحد القسري في إطار العولمة.
واقتصادياً فإن تلك الأحداث قد أدت إلى تضرر اقتصاد الدول الإسلامية بشكل أكبر من الذي حدث في الولايات المتحدة، ومردّ ذلك الارتباك الاقتصادي الدولي بشكل عام، واعتماد العالم الإسلامي على الاقتصاد الغربي بشكل خاص، ولاشك في أن الضغوط على المسلمين سوف تزداد عبر ذلك الحصار الشديد الذي يهدف إلى تقويض الاستثمارات المستقلة وصبها في الصندوق الاستثماري الغربي، وسوف يشهد العالم الإسلامي قريباً انتكاسات خطيرة في الاقتصادات المحلية، في ظل العولمة الجديدة التي تقودها الولايات المتحدة.
ومع هذه التطورات فإن النتائج الأخيرة سوف تفرز انهياراً اجتماعياً ونفسياً يقود بالنتيجة إلى تحطم البنية الداخلية وانهيار التماسك القيمي لصالح القيم الغربية، إذ مع العنف لاوجود لمنطق العقل والحوار ، ومعه لا تبقى هناك فسحة للعمل العقلاني المسالم، وبذلك تفوز القيم الغربية وتستهلك عقولنا وأفكارنا، بعد أن تستثمر الهزيمة والتفكك الاجتماعي بشكل جيد.
7- ومن أهم آثار العنف الدامي الأخير أنه وحد العالم الغربي عقائديا وأيديولوجيا ضد العالم الإسلامي، وأثار فيه دفائن الحرب الدينية التي نسيها العالم لقرون مديدة، فالعالم الغربي قبل الحادي عشر من أيلول كان موحداً اقتصادياً في مصالحه، ومنسجماً في سياساته، وإن اختلفوا فيما بينهم في بعض الأحيان، وبعد هذا التاريخ فقد توحد دينياً وحضارياً ضد العالم الإسلامي، وهذا هو من أخطر النتائج، وإذا كان البعض يأمل بأن لا يقع هذا الصدام الديني فإن الواقع شيء والأحلام شيء آخر، فالعنف عندما يكون دامياً ومدوياً يغرز خنجره في أعماق الوعي محدثاً أحقاداً وآلاماً لا ينساها الإنسان لأجيال طويلة، ويسجلها التاريخ في ذاكرته البشرية المتوارثة.
ما هو الحل في كل ذلك، هل ننتظر حصول المأساة؟!!
لكي نستطيع أن نصلح ولو قليلا:
1- لابد من تجاوز الأزمة بشكل عقلاني؛ يعتمد القراءة الواقعية النابعة من نقد الذات وعدم تحميل القوى الكبرى المسؤولية الكاملة عما حصل، لأننا بذلك نبرر العنف الحاصل، ونعفي دعاته من المسؤولية، وهذا من أكبر الأخطاء؛ إذ لابد أن ندين العنف بشكل مطلق لأننا قد نحترق بناره قبل الآخرين.
2- ضرورة إيجاد فهم متوازن قائم على التحليل المنطقي؛ إذ إن الكثير من التحليلات المغلوطة تؤدي إلى تأزّم وتعقيد أكبر وبالنتيجة إلى مزيد من الصدام الحضاري.
3- توضيح المفاهيم الإسلامية التي يستغلها البعض في مطاطية واسعة تؤدي إلى تشويه صورة الإسلام، وهذا يستدعي وجود مؤسسات علمية حقيقية تتصدى لتوضيح وتقديم صورة الإسلام الحقيقي، وهذا يستدعي وجود تعاون شامل بين كل الفئات لتحقيق هذا الأمر، كما يستدعي بشكل أكبر وجود مراكز دراسات في الغرب تهدف إلى إيصال المفهوم الإسلامي النظيف بمختلف اللغات، وبصورة خطاب مناسب ينزه الدين الإسلامي عن التشويه المتعمد.
4- التحرك الإعلامي المكثف لتغيير صورة الإسلام والمسلمين في الإعلام؛ وهذا يستدعي وجود بنية إعلامية مستقلة لا تتأثر بالمصالح السياسية والسلطوية والطائفية الضيقة.
5- إن مشكلة العنف تعالج بشكل أساسي من خلال وجود قنوات الإصلاح السليم؛ فعندما يختنق المجتمع بالقمع والاستبداد، يغرق في مستنقع الانحطاط وتظهر الأمراض الخبيثة، ولا يمكن معالجة العنف إلا في مجتمع قائم على حرية التعبير والتعددية والتنوع والصحافة الحرة، فحينئذٍ فقط ينطلق المصلحون بحرية لتحقيق القيم الأخلاقية السامية، وينمو الإنسان بصورة طبيعية، ويتقلص الانحراف النفسي والفكري الذي هو سبب مباشر للعنف والتشدد والتعصب.
فبالحرية والتعددية تنعم البشرية بالسلام والتعايش، وبالاستبداد ترتفع أصوات العنف والقتل والدمار.
اضف تعليق