q
كل مَنْ يدرس تاريخ وسيرة الإمام الحسن (ع) يجده مظلوماً، مهضوماً، حتى من شيعته ومحبيه وأقرب الناس إليه، كما أنه تستوقفه تلك الأخلاق الراقية جداً التي كان يتمتع بها الإمام الحسن، رغم أنه في عصره كان لا نظير له ولا شبيه إلا صنوه الإمام الحسين (ع)...

ولد الإمام الحسن المجتبى (ع) في ليلة النصف من شهر رمضان عام 3 هجري في المدينة المنورة

مقدمة أخلاقية

الأخلاق والالتزام بمنظومة القيم الأخلاقية هي من أرقى الصفات الحضارية عند البشر، وهي عادة مكتسبة لأنها ليست من ذاتيات الإنسان التي تولد معه أو ينفطر عليها كالعقائد الحقة، بل هي مما يكتسبه الإنسان من أهله وأبويه أولاً، ثم من المجتمع الصغير من حوله، ثم المجتمع الكبير الذي يحيط به، وكلما كانت الأسرة والمحيط راقياً وملتزماً بهذه القيم ينشأ الطفل عليها ويتربَّى على الفضائل ويتكامل فيها وتظهر منه في الحياة الاجتماعية فيما بعد ويعرف بها فيقال عنه: فلان مؤدَّب، وأخلاقي، ومتربِّي تربية صالحة.

ولكن هذه القيم -عادة- لا تجتمع في شخص واحد من البشر العاديين، ولكنها تجتمع بأولئك الكُمَّلين من البشر كالأنبياء والأوصياء، والأولياء، الذين جعلهم الله سبحانه قدوات وأسوات ومقاييس للبشر حتى يقتدوا بهم ويتأسوا بسيرتهم ويكونوا أعلام هداية في المجتمعات يدلونهم على الخير والفضيلة والهداية عبر الأجيال وفي كل زمان ومكان، وعلى رأس هؤلاء العظماء الرسول الأكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) الذي بعثه الله سبحانه رحمة للعالمين، وأسوة لمَنْ يرجوا الله واليوم الآخر، وهو الذي كان أكمل الخلق طراً لأن الله سبحانه ربَّاه على عينه، واصطنعه لنفسه، فقال له عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4) 

هذا الخُلق الذي وصفه الله العظيم، بالعظيم كان في مكة المكرمة وفي عصر الجاهلية إلا أن الله سبحانه أحاطه برعايته، وعنايته كما يصف أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) ذلك فيقول: (لَقَدْ قَرَنَ اَللَّهُ بِهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ اَلْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ اَلْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ). (نهج البلاغة: خ 192 القاصعة) 

وقال (صلوات الله عليه وآله): (أَنَا أَدِيبُ اَللَّهِ وَعَلِيٌّ أَدِيبِي أَمَرَنِي رَبِّي بِالسَّخَاءِ وَاَلْبِرِّ وَنَهَانِي عَنِ اَلْبُخْلِ وَاَلْجَفَاءِ وَمَا شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ اَلْبُخْلِ وَسُوءِ اَلْخُلُقِ وَإِنَّهُ لَيُفْسِدُ اَلْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ اَلْخَلُّ اَلْعَسَلَ)، (مکارم الأخلاق: ج۱ ص۱۷)، والله أدَّب رسوله على كتابه الحكيم حيث وصفته زوجته عندما سألوها عن أخلاقه فقالت: (كان خُلقه القرآن)، وقد أجادت وأفادت حقاً، فما أعظم هذا الوصف بأن يوصف أخلاق رسول الله بكتاب الله وكلامه العظيم، ولكن رسول الله (ص) نقل هذا الأدب وهذه التربية وهذه الأخلاق إلى وصيه وخليفته وإمام الأمة من بعده أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي ينقلها بدوره إلى أبنائه الطاهرين الذين سيقودون الأمة من بعده ولذا قال: (يا كُمَيْلُ إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) أَدَّبَهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَدَّبَنِي وَأَنَا أُؤَدِّبُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَأُوَرِّثُ اَلْأَدَبَ اَلْمُكَرَّمِينَ)، وكان أول مَنْ أدَّبهم رسول الله وأمير المؤمنين الإمام الحسن المجتبى السبط الأكبر (صلوات الله عليهم جميعاً) فكان آية من آيات الله في أخلاقه وأدبه.

من أخلاق الإمام الحسن (ع)

حقيقة إن كل مَنْ يدرس تاريخ وسيرة الإمام الحسن (ع) يجده مظلوماً، مهضوماً، حتى من شيعته ومحبيه وأقرب الناس إليه، كما أنه تستوقفه تلك الأخلاق الراقية جداً التي كان يتمتع بها الإمام الحسن، رغم أنه في عصره كان لا نظير له ولا شبيه إلا صنوه الإمام الحسين (ع)، وهو شبيه جده رسول الله (ص) ولذا يذكر المؤرخون كمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ قَالَ: (مَا بَلَغَ أَحَدٌ مِنَ اَلشَّرَفِ بَعْدَ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مَا بَلَغَ اَلْحَسَنُ كَانَ يُبْسَطُ لَهُ عَلَى بَابِ دَارِهِ فَإِذَا خَرَجَ وَجَلَسَ اِنْقَطَعَ اَلطَّرِيقُ فَمَا مَرَّ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اَللَّهِ إِجْلاَلاً لَهُ، فَإِذَا عَلِمَ قَامَ وَدَخَلَ بَيْتَهُ فَمَرَّ اَلنَّاسُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ مَاشِياً فَمَا مِنْ خَلْقِ اَللَّهِ أَحَدٌ رَآهُ إِلاَّ نَزَلَ وَمَشَى، حَتَّى رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَمْشِي). (بحار الأنوار: ج4۳ ص۳۳۸) 

فأخلاق الإمام الحسن كانت مضرب الأمثال لولا معاوية بن هند الذي عمل طيلة عشر سنوات بعد عام الجماعة والصلح في تشويه تلك الصورة النبوية الراقية للإمام الحسن، ورغم ذلك تجد أنهم لا يستطيعون أن يفروا من الحديث عن عظمته عندما يتحدَّثون عن عظيم تضحيته من أجل جمع هذه الأمة تحت راية واحدة وإن كانت بقيادة أموية ظالمة، فوحدة الأمة أحب إلى أئمة أهل البيت (ع) وإن كانت تحت قيادة غير عادلة لأنه كما قال أمير المؤمنين (ع) في ذلك: (فَإِنَّ اَلنَّاسَ لاَ يُصْلِحُهُمْ إِلاَّ إِمَامٌ بَرُّ أَوْ فَاجِرٌ.. فَإِنْ كَانَ بَرّاً فَلِلرَّاعِي وَاَلرَّعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ فَاجِراً عَبَدَ اَلْمُؤْمِنُ رَبَّهُ فِيهَا، وَعَمِلَ فِيهَا اَلْفَاجِرُ إِلَى أَجَلِهِ). (بحار الأنوار: ج۳4 ص۱۹)

والإمام الحسن انطلق من نفس المنطلقات التي انطلق منها والده أمير المؤمنين في حياه حيث قال: (سَلاَمَةُ اَلدِّينِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِ) (تاريخ اليعقوبي: ج٢ ص 114)، والإمام الحسن (ع) سار بنفس الطريق والمنهج الذي بيَّنه وسار عليه خلفه الصالح ووالده العظيم، حيث ضحَّى بالخلافة والحكم من أجل وحدة الأمة الإسلامية وسلامة الدِّين الحنيف، يقول الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله) في ذلك: (إن الإمام الحسن (ع) صالح معاوية لحفظ دماء المسلمين والمؤمنين، ولم يبايع معاوية قط، ولم يتنازل له في أمر الإمامة، ولا أقرَّ له بالخلافة، بل شرط ألَّا يُسمَّى معاوية بأمير المؤمنين.ـ وذلك كما صالح الرسول الأعظم (ص) المشركين في الحديبية ولم يبايعهم.. وكما سكت أمير المؤمنين علي(ع) على مَنْ غَصَبَ الخلافة منه ولم يبايعهم أبداً.. ولولا الصلح لما ترك معاوية من شيعة علي (ع) على وجه الأرض أحداً إلاّ قتله). (من حياة الإمام الحسن (ع): ص 172)

فصلح الإمام الحسن المجتبى (ع) الذي مازال لغزاً يحيِّر الكثيرين ممَّن لم يفهموا أو يدركوا عظمة أخلاق وقيم الإمام الحسن (ع) وفضائله التي حيَّرت معاوية وبني أمية في عصرهم الذي كان الإمام الحسن عدوَّهم الأول الذي حاولوا طيلة سنوات كثيرة تشويه سيرته وصورته في عيون الأمة ومازالت تلك الكلمات يتناقلها المجتمع الشامي دون وعي أو دراية إلى الآن للأسف الشديد.

حواريات ومواقف الإمام الحسن (ع)

كم تعجبت ووقفت طويلاً عندما قرأتُ مواقف وحواريات واحتجاجات الإمام الحسن على معاوية وبني أمية في بيوتهم ومجالسهم وهم كانوا حكام والناس وسلاطين الزمان، والإمام الحسن كان عدواً وهدفاً لهم فلا يستطيعون أن يغضُّوا الطرف عنه فكلما اجتمعوا في مكان كانوا يحاولون من إنزال شأن وعظمة الإمام الحسن (ع) بأقوالهم الباطلة وكذبهم وأفكهم ولكنه كان يلقنِّهم درساً لن ينسوه، ويعلِّمهم أدباً لم يعرفوه، وذلك بكلمات ومواقف لا يستطيعون أن يكذبوها أو ينكروها عليه.

وأحصى المؤرخون أكثر من خمسين احتجاجاً للإمام الحسن عليهم وعلى غيرهم من رجالهم وأمثالهم وفيها كلها كان الإمام الحسن مرفوع الراية، وعالي الهامة والهمَّة بل كان عَلماً في رأسه نور، أو نور على طور، فهو أمنع من عقاب الجو، وأطهر من ماء السماء، ومنها (أَنَّ مُعَاوِيَةَ فَخَرَ يَوْماً فَقَالَ: أَنَا اِبْنُ بَطْحَاءِ مَكَّةَ أَنَا اِبْنُ أَعْزَزِهَا جُوداً وَأَكْرَمِهَا جُدُوداً أَنَا اِبْنُ مَنْ سَادَ قُرَيْشاً فَضْلاً نَاشِياً وَكَهْلاً.. 

فَقَالَ اَلْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: (أَ عَلَيَّ تَفْخَرُ يَا مُعَاوِيَةُ؟ أَنَا اِبْنُ عُرُوقِ اَلثَّرَى، أَنَا اِبْنُ مَأْوًى اِلْتَقَى، أَنَا اِبْنُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى، أَنَا اِبْنُ مَنْ سَادَ أَهْلَ اَلدُّنْيَا بِالْفَضْلِ اَلسَّابِقِ، وَاَلْحَسَبِ اَلْفَائِقِ، أَنَا اِبْنُ مَنْ طَاعَتُهُ طَاعَةُ اَللَّهِ وَمَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَةُ اَللَّهِ، فَهَلْ لَكَ أَبٌ كَأَبِي تُبَاهِينِي بِهِ، وَقَدِيمٌ كَقَدِيمِي تُسَامِينِي بِهِ. تَقُولُ نَعَمْ أَوْ لاَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلْ أَقُولُ لاَ وَهِيَ لَكَ تَصْدِيقٌ، فَقَالَ اَلْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ):

اَلْحَقُّ أَبْلَجُ مَا يُحِيلُ سَبِيلَهُ *** وَاَلْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو اَلْأَلْبَابِ (من حياة الإمام الحسن (ع): ص 143)

وفي بعض المصادر أنه قال له: (فإن قلت: لا؛ غُلبت، وإن قُلت: نعم؛ كذبت)، وفي مجلس آخر أراد معاوية الأزرق كما كان يسميه الإمام الحسن (عليه السلام) أن يتطاول فقال بكل وقاحة: (أَنَا أَخْيَرُ مِنْكَ يَا حَسَنُ؛ 

قَالَ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا اِبْنَ هِنْدٍ؟ قَالَ: لِأَنَّ اَلنَّاسَ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَيَّ وَلَمْ يُجْمِعُوا عَلَيْكَ. 

قَالَ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِشَرِّ مَا عَلَوْتَ يَا اِبْنَ آكِلَةِ اَلْأَكْبَادِ اَلْمُجْتَمِعُونَ عَلَيْكَ رَجُلاَنِ؛ بَيْنَ مُطِيعٍ وَمُكْرَهٍ، فَالطَّائِعُ لَكَ عَاصٍ لِلَّهِ، وَاَلْمُكْرَهُ مَعْذُورٌ بِكِتَابِ اَللَّهِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ أَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْكَ، فَلاَ خَيْرَ فِيكَ، وَلَكِنَّ اَللَّهَ بَرَّأَنِي مِنَ اَلرَّذَائِلِ كَمَا بَرَّأَكَ مِنَ اَلْفَضَائِلِ). (المناقب لابن شهر آشوب: ج4 ص۲۲)

ويأتيك بالعجب العُجاب مَنْ يدَّعي أن لهذا الشخص المنكوس والكيان المركوس فضائل، وهذه شهادة من الإمام الحسن السبط سيد شباب أهل الجنة أنه بريء من الفضيلة، وهذا ما صدَّقه النَّسائي عندما زار دمشق وسألوه أن يكتب في فضائل معاوية فقال: (لا يرضى رأساً برأس حتى يفضل! والله لا أعلم له فضيلة إلا قول رسول الله (ص) له: (لا أشبع الله له بطناً)، قال: فما زالوا يدفعون في حضنيه حتى أخرج من المسجد، ثم حمل إلى الرملة، وتوفي بها.. وقال الدارقطني: إنه خرج حاجاً فامتحن بدمشق، وأدرك الشهادة)، فقتلوا الرجل لأنه قال كلمة حق بحق سلطان ظالم جائر حائد عن الحق، ولذا قال الدارقطني: أدرك الشهادة، فاعتبرهم كفاراً.

حلم الإمام الحسن السبط (ع)

وأحببت في هذه العجالة أن أشير إلى هذه الجزئية الأخلاقية طالما تحدَّثوا بها ووصفوا بها معاوية بن هند ألا وهي (الحلم) حتى أنه كان يروي ابن أبي الحديد فيقول: أن معاوية قال: إن قريشاً قد عرفت أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها، إلا ما جعل الله لنبيه (صلى الله عليه وآله)، فإنه انتجبه وأكرمه، ولو أن أبا سفيان ولد الناس كلهم لكانوا حلماء).

فقال له صعصعة بن صوحان: كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان! مَنْ خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، فكان فيهم البر والفاجر، والكيس والأحمق). (شرح نهج البلاغة: ج ٢ ص ١٣٢)

والعجيب أن هذا الشخص يفتخر بهذا القول وهو الذي يُدعى إلى أربعة أسوأهم وألأمهم أبو سفيان صخر بن حرب، فكيف يفتخر بأبيه وهو لا يَعرف له أب كما يروي الزمخشري وابن أبي الحديد وغيرهما بأنه دَعي أربعة، ويتطاول على عروق الثرى، ومأوى الهدى، ومنبع الصلاح والتقوى، ولذا سأتناول هذه الخصلة (الحلم) عند الإمام الحسن الذي اعترف بها أعدى أعدائه من البيت الأموي في آخر لحظاته في هذه الدنيا، وهي ما كانت تميِّز الإمام الحسن (ع) في عصره ولذا حاول أن يسرقها معاوية شخصياً منه ويدَّعيها لنفسه وعائلته كذباً وزوراً.

والحلم: هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب.. وقالوا: بأن فضيلة الحلم حالة يظهر معها الوقار، والثبات عند الأسباب المحركة للغضب، أو الباعثة على التعجل في العقوبة، وربما قالوا: بأنه حبس النفس حتى تخضع لسلطان العقل، وتطمئن لما يأمرها به.. ولذا اشتهر الإمام الحسن بالحلم حتى لُقب ب (حليم وكريم أهل البيت) لعظيم حلمه، وعدم انفعاله، وقدرته العجيبة على ضبط النفس ضد مهيجات الغضب.

ومن ذلك مَا رَوَى اَلْمُبَرَّدُ: أَنَّ شَامِيّاً رَآهُ رَاكِباً فَجَعَلَ يَلْعَنُهُ وَاَلْحَسَنُ لاَ يُرَدُّ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ اَلْحَسَنُ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَضَحِكَ وَقَالَ: أَيُّهَا اَلشَّيْخُ أَظُنُّكَ غَرِيباً وَلَعَلَّكَ شُبِّهْتَ، فَلَوِ اِسْتَعْتَبْتَنَا أَعْتَبْنَاكَ، وَلَوْ سَأَلْتَنَا أَعْطَيْنَاكَ، وَلَوْ اِسْتَرْشَدْتَنَا أَرْشَدْنَاكَ، وَلَوْ اِسْتَحْمَلْتَنَا حَمَّلْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ جَائِعاً أَشْبَعْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ عُرْيَاناً كَسَوْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ مُحْتَاجاً أَغْنَيْنَاكَ، وَإِنْ كُنْتَ طَرِيداً آوَيْنَاكَ، وَإِنْ كَانَ لَكَ حَاجَةٌ قَضَيْنَاهَا لَكَ، فَلَوْ حَرَّكْتَ رَحْلَكَ إِلَيْنَا وَكُنْتَ ضَيْفَنَا إِلَى وَقْتِ اِرْتِحَالِكَ، كَانَ أَعْوَدَ عَلَيْكَ، لِأَنَّ لَنَا مَوْضِعاً رَحْباً، وَجَاهاً عَرِيضاً، وَمَالاً كَبِيراً). 

فَلَمَّا سَمِعَ اَلرَّجُلُ كَلاَمَهُ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ خَلِيفَةُ اَللَّهِ فِي أَرْضِهِ (اَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، وَكُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ أَبْغَضَ خَلْقِ اَللَّهِ إِلَيَّ وَاَلْآنَ أَنْتَ أَحَبُّ خَلْقِ اَللَّهِ إِلَيَّ وَحَوَّلَ رَحْلَهُ إِلَيْهِ وَكَانَ ضَيْفَهُ إِلَى أَنِ اِرْتَحَلَ وَصَارَ مُعْتَقِداً لِمَحَبَّتِهِمْ). (المناقب: ج4 ص۱۹)

حلم يزن الجبال

نعم؛ هذا هو الحلم، وهذا هو الحليم، الذي يكظم غيظه، ويحبس نفسه، ويضبط غضبه حتى عن مثل معاوية والوليد وعمرو بن العاص ومروان الوزغ وأشباههم وأمثالهم، وهو قادر على البطش بهم، ويروي اَلْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ اَلْحَسَنَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أَنْ يَصْعَدَ اَلْمِنْبَرَ وَيَنْتَسِبَ فَصَعِدَ فَحَمِدَ اَللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَسَأُبَيِّنُ لَهُ نَفْسِي؛ بَلَدِي مَكَّةُ وَمِنًى، وَأَنَا اِبْنُ اَلْمَرْوَةِ وَاَلصَّفَا، وَأَنَا اِبْنُ اَلنَّبِيِّ اَلْمُصْطَفَى، وَأَنَا اِبْنُ مَنْ عَلاَ اَلْجِبَالَ اَلرَّوَاسِيَ، وَأَنَا اِبْنُ مَنْ كَسَا مَحَاسِنَ وَجْهِهِ اَلْحَيَاءُ، أَنَا اِبْنُ فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ اَلنِّسَاءِ، أَنَا اِبْنُ قَلِيلاَتِ اَلْعُيُوبِ، نَقِيَّاتِ اَلْجُيُوبِ..) فقطع معاوية عليه خطبته بالأذان.

(وَأَذَّنَ اَلْمُؤَذِّنُ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَللَّهِ، فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ مُحَمَّدٌ أَبِي أَمْ أَبُوكَ فَإِنْ قُلْتَ لَيْسَ بِأَبِي فَقَدْ كَفَرْتَ، وَإِنْ قُلْتَ نَعَمْ فَقَدْ أَقْرَرْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَصْبَحَتْ قُرَيْشٌ تَفْتَخِرُ عَلَى اَلْعَرَبِ بِأَنَّ مُحَمَّداً مِنْهَا وَ أَصْبَحَتِ اَلْعَرَبُ تَفْتَخِرُ عَلَى اَلْعَجَمِ بِأَنَّ مُحَمَّداً مِنْهَا وَ أَصْبَحَتِ اَلْعَجَمُ تَعْرِفُ حَقَّ اَلْعَرَبِ بِأَنَّ مُحَمَّداً مِنْهَا يَطْلُبُونَ حَقَّنَا وَ لاَ يَرُدُّونَ إِلَيْنَا حَقَّنَا). (بحار الأنوار: ج4۳ ص۳۵6)

هذا هو الحلم الذي يفتخر به الرجال، ولذا نجد أن مروان بن الحكم يحمل بجنازة الإمام الحسن وفي بعض الروايات وهو يبكي فلما رآه الإمام الحسين (عليه السلام) استغرب، فيقال: (لَمَّا مَاتَ اَلْحَسَنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أَخْرَجُوا جِنَازَتَهُ فَحَمَلَ مَرْوَانُ بْنُ اَلْحَكَمِ سَرِيرَهُ فَقَالَ لَهُ اَلْحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): تَحْمِلُ اَلْيَوْمَ جَنَازَتَهُ وَكُنْتَ بِالْأَمْسِ تُجَرِّعُهُ اَلْغَيْظَ (أو الغِصَص)؟، قَالَ مَرْوَانُ: نَعَمْ كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْ يُوَازِنُ حِلْمُهُ اَلْجِبَالَ). (بحار الأنوار: ج44 ص۱4۵)

فحلم الإمام الحسن المجتبى كان يزن الجبال حقاً وهذا ما اعترف به عدوَّه اللدود مروان، والفضل ما شهدت به الأعداء، فآلاف التحية والثناء على الإمام الحسن السبط حليم أهل البيت وكريمهم العظيم في يوم مولده المبارك.

اضف تعليق