q
عاش الامام الكاظم حياته بعد أبيه الامام الصادق، خمسة وثلاثين عاماً، إماماً وقائداً للأمة، باذلاً جهده لنشر رسالة الإسلام والبناء الحضاري الممتد منذ عهد جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، لاسيما فيما في مجال العلم والمعرفة، حيث ورث من أبيه الصادق، عليه السلام، مدرسة علمية باهرة...

التمزّق الاجتماعي- الحرب الأهلية- الفوضى... مفردات استخدمها هارون العباسي في خطابه لرسول الله، في مرقد بالمدينة، يعتذر اليه بأني "قد عزمت على أخذ موسى بن جعفر فأحبسه لأني قد خشيت أن يلقي بين أمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم"، فهو يدّعي أمام رسول الله بأنه أكثر حرصاً من حفيده وخليفته؛ الامام موسى بن جعفر، في توفير الأمن والاستقرار لابناء الأمة!

هو لم يوضح للأمة ولا للتاريخ على أي شيء سيجمع شمل الأمة؟ هل "على موائد الخمور وفي أندية الرقص والغناء وفي بيوت الرذيلة"، كما وصفه الدكتور حسن عباس نصر الله، في كتابه عن حياة الامام الكاظم؟ بيد أن معطيات الواقع الاجتماعي والسياسي تكشف دائماً حقيقة نوايا الطغاة من أمثال هارون العباسي والى يومنا هذا في ادعائهم توفير الأمن والرخاء للناس، فهم يوفرون المال لسد الاحتياجات اليومية، مع بعض الحريات في السفر والحضر والبناء والعمل، فيكون همهم في إطار الحياة اليومية، وفي تطور زمني لاحق "التقاعد"، فلا حاجة لتصدّع الرأس في قضايا الحكم ومن الذي بيده ثروات البلد، ومن يقرر مصير ومستقبل الامة؟

الحاكم العالِم

هكذا بين الامام الكاظم لهارون العباسي وللأجيال من ابناء الأمة مواصفات الحاكم الناجح بأن يكون الأقدر بين الناس بالإجابة على مختلف الاسئلة، فقال لهارون ذات مرة: "سمعت من رسول الله، صلى الله عليه وآله، يقول: من ولّي أقواماً، وُهِبَ له من العقل كعقولهم، وأنت امام هذه الامة يجب أن لا تسأل عن شيء من أمر دينك، ومن الفرائض إلا وأجبت عنها". ثم سأله عن الخنفساء؛ تزقّ أم ترضع صغارها؟! فصمت هارون.

فأجاب الإمام الكاظم، عليه السلام: "إن الله -تعالى- لما خلق الارض خلق ذبابات الارض من غير فرث ولا دم، خلقها من التراب، وجعل رزقها وعيشها منه، فاذا فارق الجنين أمه، لم تزقه، ولم ترضعه وكان عيشه من التراب"، (سيرة أهل البيت، تجليات الإنسانية- الدكتور حسن عباس نصرالله).

عاش الامام الكاظم حياته بعد أبيه الامام الصادق، خمسة وثلاثين عاماً، إماماً وقائداً للأمة، باذلاً جهده لنشر رسالة الإسلام والبناء الحضاري الممتد منذ عهد جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، لاسيما فيما في مجال العلم والمعرفة، حيث ورث من أبيه الصادق، عليه السلام، مدرسة علمية باهرة، و جمهرة من طلبة العلم، ومن المقربين، تحدث التاريخ عنهم الكثير، بيد أن شهوة الملك ونزعة التسلّط لا تدع لمن يتلبّس بها، الاحتكام الى العقل والمنطق في صياغة منهج سياسي سليم لإدارة شؤون البلاد والعباد، فيطلق لنفسه العنان لارتكاب كل جريمة، وكل منكر للوصول الى قمة الحكم، ولذا نجد تجارب الحكام المستبدين والطغاة عبر التاريخ، ومنهم؛ هارون العباسي، سعيهم لاحتواء العلماء وتخييرهم بين الرضوخ لأوامر السلطة، وتوظيف عقولهم وابداعاتهم لتوطيد دعائم حكمهم، بل وتبرير جرائمهم، أو حدّ السيف.

وهذا ما قام به هارون للهروب من وطأة الضغط النفسي لوجود الإمام الكاظم في أوساط الامة، وهو يشع بنور العلم للآفاق منطلقاً من مدينة جدّه المصطفى، علماً أنه، عليه السلام، عاصر شطراً من حياة المنصور الدوانيقي، ثم المهدي العباسي، ومن بعده هارون، وهي فترة استثمرها الامام في نشر علوم ومعارف أهل البيت، متصدياً لكل الانحرافات في العقيدة والفكر، لاسيما وأن تلك الفترة كانت قد برزت مذاهب فقهية، وتيارات فكرية خُيل اليها أنها قادرة على تقمّص دور المحور الديني والثقافي في الامة، وهو ما كان يشجع عليه هارون العباسي من خلال الاغداق على وعاظ السلاطين وأشباه العلماء الباحثين عن المال والشهرة، بينما عالم نحرير في الفلسفة مثل هشام بن الحكم البغدادي فانه يعيش مطارداً بأمر من هارون نفسه حيث قال عنه ذات مرة: "مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ساعة واحدة! فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة الف سيف"! ويكون مصيره الموت بشكل مؤلم وبصمت بعيداً عن الناس بسبب الضغط النفسي وتفاقم المرض عليه.

الميوعة تغطي على دموية الحكم

لا يرى هارون، ولا أي حاكم على شاكلته، ضيراً في وجود العلماء، وفي تشييد الجامعات والمختبرات والمراكز البحثية، بل واحياناً نجد التمويل والتشجيع لبعضهم شريطة أن يكونوا في محور السلطة، فهو لا يسمح لهذا العلم أن يتحول وسيلة لتطور المجتمع والانسان الى ما هو أعلى من صنم الحكم، فالعالم في شتى الحقول يعرف جيداً أن "لكل وعاء يضيق بما جُعل فيه، إلا وعاء العلم فان يتسع العلم جلالة وشرف"، وهي الحقيقة التي كشفها أمير المؤمنين، عليه السلام.

فكيف يتم تحييد العلم والمعرفة في الصراع المرير على السلطة؟

من أهم الوسائل؛ الميوعة، وإطلاق العنان للشهوات والغرائز بين الناس،لاسيما الشباب، وإتاحة الفرص أمامهم ليس للمطالعة والبحث العلمي، والابداع، وإنما لارتياد أندية الموسيقى والغناء والعلاقات الجنسية، وقد حذرنا الأئمة الاطهار من الانزلاق نحو الاثارات الجنسية لانه يتسبب في تخدير العقل وقتل العلم والابداع.

وقد كتب الشيخ باقر القرشي في كتابه القيّم؛ حياة الامام موسى بن جعفر، إن حفلات الرقص والمجون امتدت الى شوارع بغداد وساحاتها العامة، و بات الشباب يبحثون عن المغنية الأفضل في بغداد لحضور حفلاتها، والاستمتاع بالجواري القادمات من مختلف أنحاء العالم.

وفي هذا الكتاب يورد الشيخ القرشي –رحمة الله عليه- إحصائية رهيبة عن واردات الدولة الاسلامية في عهد هارون بأنها كانت تصل الى ما قيمته اليوم ملياري دولار سنوياً! هذه الثروة الهائلة كانت تنفق على علماء البلاط و وعاظ السلاطين، والمتزلفين والانتهازيين، فضلاً عن موائد الخمور والخلاعة والحفلات الباذخة، وأيضاً؛ للترويج لهذا النمط من الحياة بين أوساط الأمة.

بيد أن الاشعاع العلمي للإمام الكاظم عكّر صفو العيش لهارون، وأحبط كل سياساته التضليلية، فكان الوعي ينتشر في الآفاق بفضل المئات ممن تخرجوا من مدرسة الإمام الصادق، ومن شيعة ابنه الكاظم، عليهما السلام، فلم يجد حيلة لاحتواء هذا النور سوى السجن في الطامورات المظلمة حتى لا يرى أحداً ولا أحدٌ يراه، فقضى الإمام خمس سنوات في سجون هارون، من سنة 179للهجرة، وحتى 184للهجرة تاريخ استشهاد الإمام الكاظم غيلةً بدس السمّ في طعامه، بعد ان كتب اليه رسالة من داخل السجن أنه ""لن ينقضي عنّي يومٌ من البلاء إلّا انقضى عنك معه يومٌ من الرخاء حتّى نفضي جميعاً إلى يومٌ ليس له انقضاء يخسر فيه المُبطلون".

اضف تعليق