q
إسلاميات - اهل البيت

الامام علي (ع) خِطابٌ وسلوك

في ذكرى ولادة أَميرُ المُؤمنينَ المَيمونةِ في (١٣) رجب الأَصب (1)

علَّمنا كيف نُحدِّد الأَولويَّاتِ وكيفَ نستعدَّ لكُلٍ أَولويَّةٍ، نفسيّاً ومعنويّاً وماديّاً، لنكونَ على استعدادٍ باستمرارٍ للتَّعامُلِ معها بِلا ضعفٍ أَو هوانٍ أَو حتَّى تكبُّرٍ وسطَوةٍ. لقد ظلَّ خطابهُ يتطابق معَ سلُوكهِ وسلوكهُ معَ خطابهِ في كُلِّ الظُّروفِ والتحدِّياتِ والمُنعطفاتِ وفي كُلِّ المواقعِ التي شغلَها مهما عظُمت خطورتَها أَو...

برأيي فإِنَّ واحدةً من جوانبِ عظمةِ شخصيَّةِ أَميرِ المُؤمنينَ الإِمام علي بن أَبي طالبٍ (عليه السلام) المسكوتُ عنها، هو قدرتهُ النَّادرة والفريدة على تشخيصِ التَّحديَّاتِ بدقَّةٍ وتحديدِها في الزَّمانِ والمكانِ من جهةٍ، ومواجهتِها وعدمِ التهَرُّبِ منها بطريقةِ الإِستبدالِ مثلاً أَو التَّغافُلِ والإِنشغالِ عنها بذريعةٍ أَو بأُخرى، بالثَّانويَّاتِ أَو بالتَّوافهِ من الأُمورِ من جهةٍ ثانيةٍ، وثباتِ الشخصيَّةِ على القِيَمِ والمبادئِ وعدم التغيُّر والتبدُّل بحِجَجِ [الغايةِ تُبرِّر الوسِيلة] مثلاً من جهةٍ ثالثةٍ.

ولقد علَّمنا (عليه السلام) كيف نُحدِّد الأَولويَّاتِ وكيفَ نستعدَّ لكُلٍ أَولويَّةٍ، نفسيّاً ومعنويّاً وماديّاً، لنكونَ على استعدادٍ باستمرارٍ للتَّعامُلِ معها بِلا ضعفٍ أَو هوانٍ أَو حتَّى تكبُّرٍ وسطَوةٍ.

لقد ظلَّ (عليه السلام) خطابهُ يتطابق معَ سلُوكهِ وسلوكهُ معَ خطابهِ في كُلِّ الظُّروفِ والتحدِّياتِ والمُنعطفاتِ وفي كُلِّ المواقعِ التي شغلَها مهما عظُمت خطورتَها أَو سهُلَ مِراسها، وهذا من مواطنِ الصِّدقِ كما وصفَهُ (عليه السلام) بقولهِ {فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَه ومُتَبَوِّئاً أَوْطَانَه}

إِنَّهُ علَّمنا كيفَ نُحوِّلُ الشِّعارَ إِلى سلُوكٍ، والخِطابَ إِلى مشرُوعٍ، والكلامَ إِلى فعلٍ.

ليسَ هذا فحسْب وإِنَّما علَّمنا أَن لا يكونَ لكلامِنا فضلٌ على سلوكِنا ولتنظيراتِنا وخطاباتِنا فضلٌ على إِلتزاماتِنا.

يقولُ (عليه السلام) يصفُ صاحب الإِيمان {الإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ وأَلَّا يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عَمَلِكَ وأَنْ تَتَّقِيَ اللَّه فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ}.

ولمَّا كانَ (عليه السلام) هوَ الإِيمانُ كلُّهُ كما وصفهُ رسولُ الله (ص) في يومِ الخندقِ عندما برزَ لعدوِّ الله عمرُو بن ودِّ العامري، لذلكَ لم نلحظ أَبداً فضلاً لحديثهِ عن عملهِ وسلوكهِ وعلى كُلِّ المُستويات، وهوَ القائِلُ (عليه السلام) {أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي واللَّه مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا ولَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا} فهوَ القُدوة والأُسوة والنُّموذج في الخطابِ والسُّلوكِ، وفي الكلامِ والعملِ، لم يُحرِّض ثُمَّ يتخلَّف ولم يُشجِّع الآخرينَ بحماسةٍ مُنقطعةٍ ثُمَّ يجلِسُ على التلِّ يتفرَّج!.

إِنَّ قاعدةَ التَّطابُقِ هذهِ هي المِعيار الوحيد الذي حدَّدهُ لنا الإِمام (عليه السلام) لتمييزِ الصَّادقِ من الكاذبِ، والمُؤمنِ من المُنافق، والمُضحِّي من أَجلِ الآخرين مِمَّن يُضحِّي بالآخرين من أَجلِ نفسهِ!.

إِنَّ عليّاً (عليه السلام) صاحبُ القِيمِ والمناقبِ والمبادئِ هو نفسهُ لم يتغيَّر في كُلِّ الظُّروفِ والأَحوالِ مهما قسَت عليهِ أَو ثُنيت لهُ الوِسادة.

فلم تُغيِّرهُ العَناوين ولم تُؤَثِّر على قراراتهِ المناصب والمواقِع أَبداً.

ومن أَجلِ أَن يكونَ كذلكَ رفضَ رفضاً قاطعاً أَن يلتفَّ حولهُ الذُّيولُ والأَبواقُ والإِمَّعات والمُصفِّقُونَ، فكانَ (عليه السلام) صارِماً في رفضِ كُلِّ مظاهر القداسةِ المُزيَّفةِ والتَّعظيمِ المُصطَنعِ وعبادةِ الشخصيَّةِ ومُحاولاتِ صِناعةِ الدِّيكتاتور والصَّنميَّة فلقد قَالَ (عليه السلام) وقَدْ لَقِيَه عِنْدَ مَسِيرِه إِلَى الشَّامِ دَهَاقِينُ الأَنْبَارِ فَتَرَجَّلُوا لَه واشْتَدُّوا بَيْنَ يَدَيْه فَقَالَ؛ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوه؟ فَقَالُوا؛ خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِه أُمَرَاءَنَا فَقَالَ؛ واللَّه مَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا أُمَرَاؤُكُمْ! وإِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وتَشْقَوْنَ بِه فِي آخِرَتِكُمْ، ومَا أَخْسَرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ وأَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الأَمَانُ مِنَ النَّارِ!}.

حتَّى السُّلطة والحُكم والإِمرة لم يشأ أَن يمنَحها ذرَّةً من القُدسيَّةِ المُزيَّفة والهالةِ المُصطنَعةِ حتَّى لا تتغوَّل فتتحوَّل من وسيلةٍ طاهِرةٍ إِلى هدفٍ قذِرٍ يتقاتلُ عليها الرِّجال فتُذَلَّ أَسماءٌ وتسيلَ بسببِها الدِّماءُ وتُنتَهكُ الأَعراضُ، ومن أَداةٍ لإِقامةِ الحقِّ والعدلِ إِلى آلةٍ للبطش والتجبُّرِ والإِستبدادِ، فقالَ (عليه السلام) مرَّةً {أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ!}.

ويقولُ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسِ؛ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه فَقَالَ لِي؛ مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟ فَقُلْتُ؛ لَا قِيمَةَ لَهَا! فَقَالَ (عليه السلام)؛ واللَّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا.

وهوَ القائِلُ {أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلَّا يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِه فَضْلٌ نَالَهُ ولَا طَوْلٌ خُصَّ بِه وأَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللَّه لَه مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِه وعَطْفاً عَلَى إِخْوَانِه} وقولهُ في عهدهِ للأَشترِ {وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ}.

وعندما أَرادهُ النَّاسٌ للخلافةِ بعدَ مقتلِ عُثمان، لم يُبدِ ما يبدو من [الرِّجال] المُتهالكُونَ على السُّلطةِ فهوَ لم يُصَانِعُ ولَا يُضَارِعُ ولَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ، وإِنَّما قالَ ما يُعبِّرُ عن المبدأ والأَخلاق والثِّقةِ بالنَّفسِ واليقينِ بالمنهجِ والزُّهدِ بالسُّلطةِ والتَّعامُلِ معها بمسؤُوليَّةٍ وصدقٍ.

فلقد قالَ (عليه السلام) {دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَه وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَه الْقُلُوبُ ولَا تَثْبُتُ عَلَيْه الْعُقُولُ وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ وإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوه أَمْرَكُمْ وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!}.

رفضَ أَن يتمسكَنَ ليتمكَّن! ورفضَ أَن يسترضي أَحداً على حسابِ مبادئهِ ليضمِنَ الخلافة ثمَّ بعدَ ذلكَ [لكُلِّ حادثٍ حديثٍ]!.

كانَ واضِحٌ قبلَ أَن يُستَخلفَ وعندَ استِخلافهِ وبعدَ أَن استُخلِفَ! رافضاً أَن يشترِطَ عليهِ أَحدٌ شيئاً على حسابِ الحقِّ والعدلِ والإِنصافِ.

- يتبع...

اضف تعليق