q

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى اهل بيته الطيبين الطاهرين الابرار المنتجبين، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.

يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4]

ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً}[الأحزاب: 21].

عانت المجتمعات البشرية ولا زالت تعاني من سيادة الأخلاق النفعية المكيافيلية مقترنة بالاخلاق الذئبية لتوماس هوبز، واخلاق القوة لنيتشة.

فإذا كان مكيافيلي قد اجتر من الفلسفة اليونانية أخلاق القوة السوفسطائية وأضاف إليها أن الغاية تبرر الوسيلة، فإن توماس هوبز قرر أن يجتر من الفلسفة اليونانية الأخلاق الأبيقورية القائمة على مبدأ اللذة، وأضاف إليها الأنانية، وتناول ذلك تحت عنوان الذئبية الإنسانية، فاعتبر الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، فإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، فالأخلاق يجب أن تقوم على المادة والمنفعة وأخلاق السوق.

إلا أن أبرز ممثل لأخلاق القوة في الفلسفة الغربية الحديثة هو فريدريك نيتشه والذي اجتمع لديه كل ما كان من تراث فلسفي سابق يحض على القوة ويدعو إليها، بالإضافة إلى تأثره الشديد بنظرية داروين في الانتخاب الطبيعي، والبقاء للأقوى.

اذا كانت الفلسفات الوضعية ومصالح واهواء الجماعات المتنفذة والمتسلطة في كل المجتمعات قد سخرت من الضعفاء والفقراء الذين يحسبون أنهم صالحون، لأنهم لا يملكون مخالب لينشبوها في أعناق الآخرين، وحاربت الاديان لأنها تحض على ما اعتبرته أخلاق الرقيق وأخلاق العبيد كالحب والتسامح والغفران والتواضع، وكان مثلها الأعلى في الحياة الإنسان المتحجر القلب، المتجرد من العواطف، الذي لا يعرف الشفقة أو الرحمة.

وإن الضعفاء الذين يسمون عدم الأمانة خيانة وعار، والقوة ظلم، يعبرون بذلك عن عجزهم وضعفهم وهوانهم. وإن من يريد الحياة يجب أن يسمح لرغباته بالانطلاق إلى أبعد مدى أما الأمانة والعدالة والوفاء فليست من أخلاق الرجال الأبطال، وإنما من أخلاق العبيد.

وإن القوة هي الفضيلة الأساسية، والضعف هو النقيصة الوحيدة، وإن الحكم الفصل في جميع الخلافات ومصائر الأمور هو القوة لا العدالة.

إن غياب البوصلة الاخلاقية عن المجتمعات اليوم، حكاما ومحكومين، لا تبالي بملايين الناس الذين يموتون في سبيل تحقيق العظمة، وفي سبيل نشوة القوة، والشعور بالمجد. وإن أخلاق المنفعة والقوة والعنصرية هي التي دفعت الاستعمار في القرون الماضية إلى شتى البلدان لنهب خيراتها وثرواتها، وجعلته يبنى أمجاده وثراءه ورفاهيته وحضارته على حساب فقرها وامتصاص دمائها.

مشاكل المجتمعات اليوم بسبب غياب الرادع الاخلاقي الذي تمثله قيم السماء التي اتت بها الاديان التوحيدية الكبرى، ومن ضمنها الدين الاسلامي.

المسلمون وجميع المجتمعات البشرية يمكن لها ان تحل معظم مشاكلها لو انها استلهمت في حياتها قول الله عز وجل {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً}[الأحزاب: 21].

وقد كان رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) اسوة حسنة للمسلمين في حياته المباركة.. وهو ايضا اسوة وقدوة حسنة في حاضرنا ومستقبلنا.

فهو (صلى الله عليه واله وسلم) قد رعى وصان وعزز حقوق الانسان نبيا وحاكما، انسانا ورسولا، بين كافة طبقات المجتمع دون تمييز على أساس الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق أو الجنس وكان شعاره (صلى الله عليه واله وسلم) دائماً قوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات (13). ودافع عن تلك الحقوق بكافة الوسائل المشروعة والمتاحة قبل النبوة وبعدها في مجتمع كانت تسوده مظاهر الظلم والعصبية والجاهلية والاتهام لتلك الحقوق ابتدءا من حق الحياة لقوله تعالى (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) التكوير آية (8) و(9). وانتهاء بحق العيش سواسية مع أخيه الإنسان لذا فان جهود النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) تركزت على الدفاع عن تلك الحقوق من عدة محاور منها:

1- (حلف الفضول): فكان الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) أول المشاركين في تأسيس هذا الحلف الذي كان بمثابة منظمات المجتمع المدني في الوقت الحاضر، وكان من أهدافه (نصرة المظلومين وعلى أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معهم، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وقد جاءت هذه المبادرة من الرسول(صلى الله عليه واله وسلم) في مجتمع انتهكت فيه الحقوق المشروعة على أساس (البقاء للأقوى) محاولاً تغيير ذلك الواقع نحو الأحسن وإشاعة ثقافة احترام حقوق الآخر وعدم الاعتداء عليه والدفاع عن حقوق المظلومين.

2- من خلال الوثائق والمعاهدات والاتفاقيات التي ابرمها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) مع المشركين واليهود:

وذلك بتعزيز ونشر ثقافة التعايش والتسامح بين كافة أطياف المجتمع بعيدا عن الطائفية والعنصرية وبالتالي احترام حقوق الآخرين والحد من الحروب وإراقة الدماء لان حق الحياة من أهم حقوق الإنسان وتبنى عليه كافة الحقوق الأخرى.

فوثيقة المدينة المنورة التي ابرمها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) تعتبر أول وثيقة مدنية (دستور حضاري) في تلك الفترة دعا بموجبها إلى تأسيس دولة تقوم على أساس التعايش والعدل والمساواة بين الجميع دون تمييز.

3- صلح الحديبية: فقد وقعها الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) مع المشركين، استطاع بموجب بنودها تجنيب الطرفين الحرب وإراقة الدماء الذي كان ضحيتها الرئيسية الأبرياء والمدنيين وبالتالي توفير الأمن والهدوء ونشر الوعي الإسلامي في تلك الفترة.

4-إقامة دولة على أساس مبدأ المساواة بين الجميع:

لقد قام الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ببناء دولة على أساس المساواة في الحقوق والالتزامات بين أفراد المجتمع وأساس هذه المساواة هو إن الناس كلهم متساوون في أصل الخلق والتكوين فكلهم مخلوقون من معدن واحد وهو التراب لقوله تعالى ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) الروم آية (20)..

تتزامن ولادة النبي الاكرم مع هذا الكم الهائل من المشاكل والظواهر التي تحدث في المجتمعات، وهي في اغلبها بسبب من غياب الحس او الرادع الاخلاقي على مستوى السياسة او الاقتصاد او التفاعل الاجتماعي بين الناس على سطح المعمورة.

أنّ ولادة الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم) مناسبة علينا أن نجدّد فيها التزامنا بإسلامنا ونبيّنا الّذي أعطى كلّ حياته حتى يستقيم الإسلام الحنيف، وليعيد للإنسانية صوابها الذي فقدته تحت وطأة الرغبات والحاجات الانانية، وهو الذي كان قد ارسى خلال حياته الكريمة جميع ما تحتاج اليه البشرية حلولا جاهزة وعبقرية لجميع مشاكلها.

ولأن السيرة النبوية الذاتية والأخلاقية والعامة قد احتلت المَقام الثاني بعد القرآن الكريم، فإن من الضروري وعي سيرة النبي (ص) والتعرفَ عليها لأن وعيها إنما هو وعي للإسلام وللرسالة بوجهها الحقيقي.

ما الذي يمكن تقديمه من توصيات تندرج ضمن هذا الوعي المطلوب؟

محاربة التطرف: من خلال الاسترشاد بالسيرة النبوية والتموقع ضمن الوسطية الخاتمة.. فلا افراط ولا تفريط.

مقاومة العنف: من خلال الاسوة الحسنة في لين التعامل مع المختلف والحسنى في الجدال بين المختلفين.

تحقيق العدالة: من خلال الاسترشاد بظواهرها في سيرة النبي – الحاكم، فلا فرق بين عربي واعجمي الا بالتقوى.

الانصاف: من خلال الحياد الايجابي بين المتنازعين في مختلف القضايا، والوقوف بينهم ضمن مسافة واحدة.

الاخوة: فقد كانت أحد المبادئ التي حقق فيها الرسول الاكرم التماسك الاجتماعي والتعايش الإنساني.

الامة الواحدة: حيث لا وجود للحدود الجغرافية التي تكرس العنصرية وتعتبر الآخر الإنساني اجنبيا، وتفصل بين الفقراء والاغنياء والفرز اللوني، وتخلق عزلة انانية تستفرد بالذات.

التكافل: حيث يشترك الجميع بما أنعمه الله على البشر بعيدا عن الاستئثار والاحتكار.

الحرية: وهي جوهر الرسالة النبوية حيث قال تعالى: (ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم)، فلا استبداد ولا طغيان ولا استبعاد، بل الجميع يتنعم بالمشاركة الشوروية، وحرية التعبير.

الاحترام: من خلال الالتزام بحماية حقوق الانسان، والحفاظ على الكرامة الإنسانية، وعدم الاسراف والتبذير والهدر، واحترام نعم الطبيعة وحماية البيئة.

نختم بما قاله أمير المؤمنين الامام علي (ع) وهو يصوّر أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله):

"كان أجود الناس كفَّاً.. وأجرأ الناس صدراً.. وأصدق الناس لهجة.. وأوفاهم ذمَّة.. وألينهم عريكة.. وأكرمهم عشرة.. من راه بديهة هابه.. ومن خالطه فعرفه أحبَّه.. لم أرَ مثله قبله ولا بعده..".

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/1439/2002–2017Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق