ليس كلُّ شيءٍ يحدث في حياتنا يمكن تفسيره، أحيانًا تحدث للإنسان حالاتٌ غامضة يعجز عن اكتشاف أسبابها، سواء أكانت هذه الحالات مريحة أو مزعجة. الحُبّ عصيّ على التفسير، منطق ‏الحُبّ الأصيل هو اللامنطق، قانونه خارج القانون، لغته خارج اللغات. الإيمان والحُبّ والسكينة والسلام الباطني حالات وجودية يعيشها الإنسان...

إن صار ‏الحبّ نمطا لوجود الإنسان يغيّره، ويمنحه قدراتٍ إضافية لتذوق أجمل ما في الوجود، وينعكس ذلك التغييرُ على مَن يحبّه، مادام أحد المحبّين يتغيّر أيضا من يحبّه. ‏الحبّ الذي يحميه ضميرٌ أخلاقي حالة وجودية، لها تأثيرٌ سحري متبادل في السلامة النفسية وتكريس الأمن العاطفي. يغدو العيش مريرًا من دون تذوق هذا النمط للحياة. كل إنسان يحتاج ‏الحبّ، لو اكتشف الإنسان طريق ‏الحبّ في الوصول إلى الله لتشبّعت حياته بالسكينة، وتوطن السلامُ حياتَه وحياةَ من حوله.

مَن يتذوق ‏الحُبّ بوصفه نمطَ وجود يكتشفُ أقربَ الطرق إلى الله. يكتشفُ الطريقَ إلى حُبّ الله مَن يكتشفُ الطريقَ إلى حُبّ الإنسان. حُبّ الله ليس كلمة نكرّرها، الحُبّ سلوك ومواقف وأفعال وعطاء، الحُبّ لا يتحقّق إلا برعايةِ حقوق الإنسان واحترامِ حرياته، وإسعافِ جروح قلبه، وتدريبِ النفس على العطاء المعنوي والعطاء المادي. 

هناك سرٌّ يختبئ في ‏الحُبّ والرحمة والإيمان والجمال. يتحدث محيي الدين بن عربي عن الجمال فيقول: "فأوجد الله العالم في غاية الجمال والكمال خلقًا وإبداعًا، فإنه تعالى يحُبّ الجمال، وما ثم جميل إلا هو، فأحبّ نفسه، ثم أحبّ أن يرى نفسه في غيره، فخلق العالم على صورة جماله، ونظر إليه فأحبّه حُبّ من قيده النظر، فما خلق الله العالم إلا على صورته، فالعالم كله جميل، وهو سبحانه يحُبّ الجمال"، ويقول أيضًا: "فمن أحبّ العالم لجماله فإنه أحبّ الله، فإنه ليس للحق منزه ولا مجلى إلا العالم، فإنه أوجده على صورته، فالعالم كله جماله ذاتي، وحسنه عين نفسه، إذ صنعه صانعه عليه". 

لا ينكشف من الله إلا تجلياتُ جماله وجلاله في الوجود، وإشراقاتُه في قلب المؤمن، لا يتجلى كلُّ ما هو مودَع في الجميل من أسرار الجمال، تأسر الرحمةُ القلبَ مهما كان قاسيًا، ويظلّ ‏الحُبّ عصيًا على أن يستحوذ على سرّه الإنسانُ مهما كان. 

يتمنّع كلٌّ من الإيمان و‏الحُبّ والجمال من البوح بكلِّ أسراره، كلٌّ منها يتلفّع بسرّ، وكلُّ ما هو متلفّع بسرّ لا حدودَ لشغف الإنسان باستكناه حقيقته، لذلك يلبث الإنسانُ في ظمأ أبدي إليه، لا يرتوي منه ما دام حيًا. في الإيمان يشعر المؤمنُ أن اللهَ يتحدثُ إليه شخصيًا، في ‏الحُبّ يشعر المحُبّ أن المحبّوبَ يتحدث إليه بلغةٍ لا يتذوقها إلا قلبُه، مثلما يشعر متذوقُ الجمال وكأن الجميلَ يبوح إليه بسرِّه. 

الرؤية لله في الكلام القديم قلما تراه بوصفه نورًا. الرؤية لله في علم الكلام الجديد تتمحور حول صورة الله بوصفها نورًا، كما صوّرها الله في القرآن الكريم. تراه نورًا بذاته: "نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ" (النور 40، وتراه نورَ السموات والأرض: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (النور 40)، وترى نورَه يتجلى بكل شيء في الأرض: "وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا" (الزمر 69). 

وردت كلمة النور في القرآن 49 مرة، بوصفها إشارة للهداية: "يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ" (النور 35)، أو توصيفًا للكتاب: "قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ" (المائدة 15)، "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا" (النساء 174)، أو توصيفًا للإنجيل: "وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (٤٦ المائدة)، أو بوصفها حالةَ لانشراح الصدر بالإسلام: "فَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ" (الزمر 22)، ووردة الكلمة دلالة على النور بوصفه ظاهرة فيزيائية، كضوء القمر: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا" (يونس 5). وغير ذلك من الآيات الواردة فيها كلمةُ النور.

 تتحدثُ الآيةُ 54 من سورة المائدة عن بناءِ صلةٍ بالله تتأسّس على المحبّة المُتبادلَة: "يُحُبّهُمْ وَيُحُبّونَهُ". ترسمُ الآيةُ صورةً تفاعلية للصلة بالله، ثنائيةُ الاتجاه لا أُحادية، من الله إلى الإنسان ومن الإنسان إلى الله. يبدأ اللهُ الإنسانَ بالحُبّ، فيتفاعل معه ويبادله الإنسانُ ‏الحُبّ. الصلةُ في الآية ليست عموديةً تسلُّطية استعبادية باتجاهٍ واحد. ‏الحُبّ فيها مُتبادَل، لا تتحدثُ الآيةُ عن الله بوصفه فاعلاً، وعن الإنسان بوصفه منفعلًا سلبيًّا في ‏الحُبّ. عندما يفيض اللهُ ‏الحُبّ على عباده يتَّخذ ‏الحُبّ قلوبَهم موطنًا له، يهدأ قلقُهم الوجوديُّ، ويعيشون سلامًا باطنيًّا، وتنشـرح صدورُهم بالاستنارة الروحية. الاستنارةُ الروحية أجملُ ما منحته الأديانُ لحياة الإنسان، في الإسلام كانت الاستنارةُ الروحيَّة منبعًا مُلِهمًا لتحويل الصلة بالله من علاقةٍ مسكونة بالخوف والرعب إلى صلةٍ مشبَعة بسكينة الروح وطمأنينة القلب.

 الحُبّ ضد الإستعباد، حتى حُبّ الله إن تحوّلَ إلى استعبادٍ تام فإنه يمسخ شخصية الإنسان. منطق الحُبّ الحرية، ومنطق الاستعباد الاسترقاق، وهما متضادان. الاسترقاق هوانٌ وذلّ وشقاء وهتك للكرامة، الحُبّ ارتواء وحرية وتكريم. الله لا يحتاج رقيقًا، الله لا يريد إهانةَ الإنسان، بل يريد تكريمَه وإرواءَ ظمئه الأنطولوجي.

 الإنسان بطبيعته كائن يصعب أن يحُبّه الإنسانُ الخبير بأعماق النفس البشرية، وحده حُبّ الله يجعلنا نرى الإنسانَ بنور الله. حُبّ الله نحتاجه لتوجيه نمط الصلة بالله ولحياتنا الإيمانية ولبناء علاقات اجتماعية راسخة. يبدأ الإنسان الحُبَّ لله بحُبّ الذات وقبولها، وحُبّ الإنسان الآخر، من دون حُبّ الله وتذوق بؤر الضوء في الإنسان تنضب الطاقةُ على حُبّه. ‏الحُبّ لا يطيقه قلبُ كلِّ إنسان، من أعذب تجليات الجمال الإلهي على قلب الإنسان أن يفيض عليه القدرةَ على حُبّ الإنسان. 

‏الإنسان الذي يمنح ‏الحُبّ لغيره من الكائنات يصبح قلبُه كمرآةٍ ساطعة تشهد تجلياتِ الأنوار الإلهية. المحبّة من أثرى وأجمل النعم الإلهية. الله يفيض محبّتَه على خلقه بلا حدود وشروط وقيود،كالضوء يضيء كلَّ شيء بنوره. حُبّ الله لا يمكن أن يصل إليه إلا إنسان يبرع بترويض نفسه على حُبّ الإنسان، حُبّ الله لن نصل إليه إلا من خلال تدريب النفس على تحمل الإنسان المختلِف في معتقداته وأفكاره ورؤيته للعالم. وإكرم الإنسان جريح القلب، الذي يتطلع إلى أن نسعفه ولو بكلمة محبّة صادقة. لو أحبّ الإنسانُ اللهَ ينزله منازلَ خاصته المقربين، ويجعل الحُبّ حالةً وجودية يتحقّق بها الإنسان، وتصير مكوّنًا للكينونته الذاتية، بنحوٍ يغتسل فيه قلبُ الإنسان فيه بالحُبّ كلَّ يوم، متطهّرًا من الكراهيات والضغائن والأحقاد. القلوبُ المضيئة بحُبّ الله يهتدي بنورها ذوو البصائر إلى منبع النور الأبدي.

لا تنخفض وتيرةُ الألم وصراع الأقطاب المتضادّة داخل الإنسان إلا أن يتذوق الإنسانُ الحُبَّ والإيمانَ والجمال، ويعيشها بوصفها نمطًا لوجوده، وقتئذٍ يكتشف مفتاحَ الأسرار الإلهية المودَعة في الروح. الحُبّ الإلهي يفيض علينا نورًا نرى فيه مكامنَ النور الذي يمكن أن ينبثق من داخلنا وداخل كلّ إنسان. 

الحُبّ ليس حاجةً ثانوية، الحُبّ إن كان صادقًا محميًا بضمير أخلاقي يقظ؛ يعني الاعتراف، والثقةَ بالذات، وتذوقَ جماليات العالم، والقدرةَ على مقاومة ما يفرضه علينا الواقعُ من قسوة وإنهاك نعجز عن تحمله. ‏الحُبّ يجدّد حياةَ الإنسان ويوقد كلَّ طاقاته الخلّاقة. الحُبّ كنز الحياة، وأثمن الممتلكات، لا يضيّع الحكيمُ كنزًا أفاضه الله على قلبه، يعيش فيه أبهجَ حالاته وأعذبها. التفريط بالحُبّ الأصيل سفاهة، مهما كانت الأسبابُ ينبغي ألا يفعل الحكيمُ ذلك. الحُبّ أنفس كنوز الحياة، العبث بالحُبّ يقود الإنسانَ إلى ضربٍ من الانتحارِ العاطفي والروحي، وتمزيقِ القلب، وتعاسةِ العيش.

 ليس كلُّ شيءٍ يحدث في حياتنا يمكن تفسيره، أحيانًا تحدث للإنسان حالاتٌ غامضة يعجز عن اكتشاف أسبابها، سواء أكانت هذه الحالات مريحة أو مزعجة. الحُبّ عصيّ على التفسير، منطق ‏الحُبّ الأصيل هو اللامنطق، قانونه خارج القانون، لغته خارج اللغات. الإيمان والحُبّ والسكينة والسلام الباطني حالات وجودية يعيشها الإنسان، ويعرفها جيدًا بتذوقها، ويتعذّر عليه تعريفُها بوضوح ٍكما يعيشها ويتذوقها غيره. الحالات الوجودية لا يمكن الحديثُ عنها بلغةٍ مباشرة، إلا بالكنايات والمجازات والتشبيهات والإشارات. 

 عندما أكتب عن الحُبّ أو الإيمان، لا أدعي بناء رؤية علمية أو فلسفية تفسّر مضمون هذه الحالات الوجودية وتكتشف أسرارها. أحاول أكتب عن الخبرة الذاتية بتذوقها وعيشها والتحقّق لها، تذوق الحالات الوجودية غير معرفتها فلسفيًا أو علميًا. عشت مغتربُا عن وطني سنوات طويلة، بعد عودتي وجدتُ نفسي مغتربًا في وطني. أعيش مشاعرًا متضادّة في الوطن، أشعر أحيانًا كأني انتقلتُ من منفىً إلى منفى، وأشعر أحيانًا ألا سماءَ كسماء وطني في كلّ سماوات العالم. في المنفى والوطن أعيش الإيمانَ والحُبَّ بوصفهما وطنًا حيث لا يجد الإنسانُ وطنًا يأويه. بالحُبّ المؤطر بضميرٍ أخلاقي ينتصر الإنسانُ على الأنانية والقلق والخوف واليأس والضجر. الحُبّ الذي يكرّسه الإيمانُ يثري الروحَ بالسكينة والقلبَ بالطمأنينة.

اضف تعليق