دراسات ومقالات |
رحل الشيرازي وأبقى للأمة تراثاً فقهياً متألقاً |
كريم المحروس |
مرّ عام 2001م في سرعة من أمره على عالمنا الإسلامي، وهو محتضن للعديد من الحوادث المتفاوتة في حجم خطورتها وانعكاساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وقد تميز دور الإنسان المسلم في هذا العام أكثر إشراقاً ووضوحاً إزاء حوادث العام الماضي الكبيرة التي تصدرتها حوادث نيويورك وواشنطن وكابول، وهذه ظاهرة حرية بالثقة والاعتزاز والفخر. فمع نهاية كل عام ميلادي، يتجه المحللون والصحافيون إلى إبراز أعظم الحوادث التي مرت في عام منصرم، وذلك لأسباب ربما تفرضها انعكاسات الحوادث على جميع الصعد الإنسانية، أو لعوامل تتطلبها وقائع مهنية مطلقة أو ممزوجة بأغراض معرفية ثقافية أو ما أشبه ذلك. إلا أن العام المنصرم بالنسبة لرواد الفكر الإسلامي، هو العام الذي تميز فيه الإنسان في عالمنا الإسلامي، حيث ظهر بشعور يقظ تجاه مخاطر الحوادث المتعلقة به، وإيمان بضرورة البحث عن النظم الكفيلة برفع تلك المخاطر والتصدي لها وفق منهج حضاري. فقبل عام 2001م كانت المخاطر التي ولّدها نظام القطب السياسي والاقتصادي المهيمن على العالم، تجرى بشكل متدرج وبطيء ومستور جداً، وتحت عناوين محسنة بألوان رمادية أكثر منها صارخة وواضحة المعالم. وكانت آفاق التطور العلمي والتكنولوجي قد تهيأت لصنع فكرة المستحيل في أذهاننا كأفراد ومجتمع، ولإضافتنا إلى ما خلصت إليه من عولمة بشكل قسري مجحف وعنيف جداً، لضمان موازين المصالح على حساب ما توفر في هذه العولمة من خيارات ربما كانت متساوية بيننا وبين عالم الغرب وقطبه المهيمن. لقد نجحت تلك الآفاق العلمية والتكنولوجية الموجهة قطبياً، في تنظيم فوضى عالم ما قبل 2000م، في هيئة مصالح دعت عالمنا الإسلامي إلى النظام المستقر، وفق ديمقراطية شكلية غير منتجة وغير مرنة سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، هي أكثر قرباً لمفهوم (الاستبداد المنظم). ولكن هذه الهيئة استطاعت أن تشغل أولي الألباب في جدل عاطفي يرضى بالقليل مقابل الحق الخاص الكثير، تحت مظلة بأس شديد لنظام الاستبداد، ودرجة خطيرة من الاستنزاف الأمني والاجتماعي والاقتصادي والتي أوصلت مجتمعاتنا على حافة هاوية سحيقة. وكانت تلك الهيئة الخطرة قد رمت في أصل مسارها السياسي حتى العام الميلادي المنصرم، إلى أمرين في غاية الخطورة بالنسبة لعالمنا الإسلامي: الأمر الأول: توجيه وعي وطاقات عالمنا الإسلامي إلى الاهتمام المركز بأساليب الخلاص من شرر الاستبداد في إطار مباني ثقافية غربية وافدة، وكان الغرض من هذا التوجيه، التغلب على مستوى التضخم التجريبي الموروث إثر مجموعة من الحوادث الكبيرة التي طالت عنق القرن المنصرم، وجرّته عنوة إلى حيث الرغبة الحرام في التعايش معه النكبات بشكل رثائي سلبي نزع إلى لطم القلوب والرؤوس عوضاً عن إعمال العقل والفكر. فبدلاً من استحالة تلك النكبات إلى مثير لما اختزنه العقل المسلم من تجارب متراكمة دافعة باتجاه البحث عن الجذور والأصالة، أضحت تلك النكبات المصطنعة مثيراً فاعلاً للبحث عن الواقعية المفرطة المتمردة على قيم التشريع، فالديمقراطية - على سبيل المثال - كمفهوم وافد، استنزفت خبراتنا المتضخمة الناتجة عن مسارات أحداث القرن الماضي، وما خلصت إليه من عبر في وجوب العودة إلى الجذور والأصالة والوجدان. أدركنا لاحقاً أن تلك الديمقراطية الغربية عطاء إنساني صنعته تجارب الغرب وحدها، فملنا به كل الميل إلى الواقعية المفرطة للتنفيس عن تضخم تجاربنا، وتبنينا إثر ذلك تجارب أجنبية عن تقاليدنا وأعرافنا وأصالتنا، مآلها هدر طاقاتنا وثرواتنا وضياع تراثنا الزاهر، الأمر الذي ساهم إلى حد كبير في تقهقرنا وتراجعنا عن النهضة وتراجع في حركة الإصلاح. الأمر الآخر: حتى نهاية العام المنصرم ظلّ عالمنا الإسلامي يتفاعل مع الفكر الحضاري الذي راود أجيال النهضة منذ منتصف القرن الثامن عشر، وأفرز إيماناً بالسعي لبناء نظام إسلامي لضرورة تتطلبها حاجات ذاتية وموضوعية في نفس الوقت. فإلى عهد قريب، كان الإنسان المسلم يميل إلى حاكمية نظام إسلامي فرضتها معطيات موضوعية فحسب، ولّدتها المسيرة التاريخية للخلافة المنتهية على عهد السلطنة العثمانية. فأوجدت هذه المعطيات فروضاً سياسية عنيفة على الذات المسلمة لم تول أي اعتبار للقناعة والقبول والرضى الذاتي المتصل بالجذور والأصالة، وذلك للجدل الديني والسياسي الكبير الذي رافق مفهوم الخلافة وطبيعة أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وما تركته من تراث مشوب بالكثير من المغالطات الفكرية الأجنبية عن الإسلام. فالإسلام يقرر الكثير في فلسفة الحياة بما تشتمل من ذات مفردة ومجتمعة، ويسن القوانين كافة لتنظيم تلك الحياة على صعيد الفرد وعلى صعيد المجتمع وعلى صعيد الدولة. والإسلام فلسفة ومبدأ شامل يسع كل المجالات العقلية والجسدية والروحية، ويؤسس لنظام العلاقات بين هذه المجالات وغيرها بكل كمال وشجاعة ويقين وثقة، والإسلام يمتلك نماذج في فن صناعة القيادات الحكيمة الممزوجة عقلاً وروحاً وجسداً بهذا المبدأ الإسلامي الشامل، وللإسلام من المؤهلات الكثيرة القادرة على إعداد وتنصيب العالم المرجع القائد الحق لتوجيه الأمة وتنظيم شؤونها وتوظيف طاقاتها وفق شروط عادلة ومنصفة. وقد ظلّ هذا الدين على مر هذه القرون محصناً منيعاً، لا تنال منه إرادة التحريف والتزييف، برغم ما عرفناه من تلاقٍ بين بعض الأمم وتضافرها على خلق البديل أو التعدي على أصالته وجذوره، وكان حصن المواجهة إرادة الباري عز وجل في قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). وحينما انتهت الخلافة إلى السلطنة العثمانية نتيجة خلل في المسار السياسي التاريخي على صعيد الزعامة، وفدت مع هذه السلطنة نظم سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مغايرة لمبدأ الإسلام وفلسفته الأصيلة. وفرضت هذه المغايرة ذاتها بقوة وعنف شديدين على ذات الإنسان المسلم وعلاقاته بالأحياء والأشياء، وقد تغلب المجون والفساد الإداري على الهيكل العام للسلطنة، وبلغت زعامتها مبلغ العجز والتقهقر والانحراف. وحلت معالم الإسلام في آفاق دون أخرى، وتحول أكثرها إلى مجموعة من التقاليد البالية الباعثة على الجمود والكسل والركون والقعود، ولكن تضخم الحوادث في العالم الإسلامي عقب توافد الاستعمار وبزوغ فجر النهضة الإسلامية، ساهم إلى حد كبير في تعميق شعور ذاتي عند المسلم بوجوب الإصلاح خارج إطار الفرض والضغط السياسي الذي مارسته الخلافة والتزاماتها الفكرية الخاوية والمشوبة بالكثير من التعسف الفكري والعصبية والطائفية. وقد تميز النصف الأول من العام 2001م، بأجل صور تحرر الذات المسلمة من قيد التوجيه القسري نحو تراث الغرب ومفاهيم الغرب الوافدة التي ظهرت كبديل أممي سحر العقول وهيمن على لبابها في جو من الذهول، كما تحرر المسلمون من قيد الرثاء للذات إثر رد الفعل السلبي تجاه الدولة العثمانية وفروضها العنيفة غير الأصيلة، وبقيت عوامل النهضة في حركة تكاملية في كل الجهات، معاكسة لحركة التيار الرمادي الذي كان الغرب يتعاطى به مع عالمنا الإسلامي تحت مسمى البناء والتنمية بروية وهدوء. إلا أن حوادث الصدام المباشر في الحادي عشر من سبتمبر من العام الماضي، قد أماطت اللثام عن موقف القطب الواحد المهيمن، وأبرزت ما كان يضمره من خلال سلوكه السياسي الرمادي في شكل مواقف صريحة ومعادية للنهضة الإسلامية، مما أثار لدى الذات المسلمة وولد فيها شعوراً حقيقياً بالخطر من جهة، وزيادة في الإيمان بتحقيق النهضة السلمية وحتمية وصولها إلى مراميها من جهة أخرى، بالرغم من عدم إيمان هذه الذات الأصيلة بالاجتهادات التي بنى عليها منفّذو أحداث أمريكا قواعد سلوكهم السياسي العنيف، فضلاً عن رد الفعل الأمريكي وحلفائه تجاههم وما أفضى إليه من حرب أزهقت أرواح الألوف من الأبرياء في أفغانستان. هذا التوازن بين الشعور بالخطر المحدق في ظل كشف الغرب وتحالفاته القطبية عن كل أوراق اللعبة، وبهذه العجلة على غير العادة، وبين قوة إيمانية راسخة بمجاوزة ذلك الخطر لتحقيق التغيير الإسلامي السلمي وإشاعة نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لم يكن ليتحقق لولا الجهود الجبارة التي بذلها المفكرون الرساليون والقيادات والرموز المرجعية الكبيرة خلال القرن الماضي. وبمثل ما ودّعنا عام 2001م، لنتدارس في منتهاه تجاربه وأحداثه الكبيرة، فإننا أيضاً قد ودعنا في نهايته أحد أبرز روّاد الفكر الكبار، ومرجعية إسلامية عظيمة، ساهمت بجهود قلّ نظيرها في بناء النهضة الإسلامية وخلق التوازن بين الشعور بالأخطار المحدقة وبين زيادة الإيمان بالتغيير السلمي، فكراً وعملاً، حتى آخر لحظة من لحظات حياته في الشهر الأخير من ذلك العام. وعايشت أحداث القرن الماضي بكل تطوراته السلبية والإيجابية، وتفاعلت مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر المثيرة. ذلكم هو المرجع الأعلى فقيد الإسلام والمسلمين آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده) الذي رحل في الخامس عشر من ديسمبر 2001م، فنعته الملايين وشيعته الألوف من أبناء أمتنا الإسلامية إلى مثواه الأخير. هذه الجهود العظيمة التي بذلها الفقيد المرجع العظيم السيد الشيرازي في إطار هذا التحول النوعي الكبير في عالمنا الإسلامي، لم تأت عبثاً أو مصادفة، إنما كانت في إطار مشروع إسلامي حضاري كبير متكامل الأبعاد والجهات، انطلق من بين أزقة مدينة كربلاء المقدسة، ليعطي دلالة على مسيرة كانت بدأت منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، متغلبة على مفهوم ردّ الفعل السياسي العنيف المحدود تجاه مجموعة من الحوادث التي اختلقتها الأنظمة السياسية المتعاقبة على العراق. من هنا لم يعرف مشروع هذا الإنسان المرجع العظيم حدوداً إقليمية أو مناطقية ضيقة، بل تجاوزها بمثل مجاوزة عطاءات حوادث يوم عاشوراء لأفق أرض العراق. وهذه إحدى المعطيات التي ميزت هذا المشروع بالمتانة والصلابة والفاعلية والامتداد غير المحدود أرضاً وزمناً. وقبل انطلاقة هذا المشروع الحضاري الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، كان واقع الأمة قد جمع بين التخلف الفكري المطبق من جهة، والحيرة السياسية من جهة أخرى، مع إيمان غير راسخ بضرورة إخراج عالمنا الإسلامي من فوضى النظام السياسي العثماني. مما تسبّب عن كل ذلك ردّ فعل عنيف تجاه الفكر والثقافة السائدة والنظام السياسي ومؤسساته الإلتقاطية التي جمعت بين مفهوم الهيمنة القومية والطائفية على أسس الحق الإلهي للسلطنة العثمانية المتهالكة، وبين مفهوم الإصلاح الإداري الغربي المتبنى من قبل السلطنة بشكل تعسفي إثر ضغوط بريطانية ودول أوروبية أخرى. وكانت نتائج ردّ الفعل وخيمة، حيث أسس لتحول ثقافي وسياسي باتجاه فكر الغرب ونظمه دون ضوابط وحدود، فشاعت الانقلابات والانتفاضات والثورات على السلطنة العثمانية المريضة. واعتلت سدّة الحكم أنظمة سياسية غريبة الأطوار في نظمها وأفكارها. جرّت الأمة نحو نفق مظلم من الحياة لا بصيص نور فيه، فتعلقت ذاكرة الإنسان المسلم آنذاك بحوادث سلبية باعثة على اليأس والقنوط والتخاذل والقعود. فلا فكر إسلامي موجه اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً، ولا ثقة في الذات لتخرج الأمة من الحيرة بين مفهوم النظام السياسي على طريقة السلطنة العثمانية، ومفهوم النظام السياسي على الطريقة الحديثة الوافدة غير المستقرة. من هنا أخذ المشروع الحضاري للمرجع الكبير الراحل آية الله السيد الشيرازي كل هذه الظروف في الحسبان. فأرسى بعد الانطلاقة الأولى في مدينة كربلاء المقدسة لفكر إسلامي خالص يغطي جميع أبعاد الحياة؛ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. ولم يكن ذلك الفكر الأصيل مقيداً بالأطر المعمول بها في بعض مناطق شمال أفريقيا مثلاً، والتي راحت تغطي ذلك الفكر على شكل مؤلفات إسلامية معرفية تناقش نظريات الطرف الآخر وتنقضها عقلياً وتجريبياً، بل إن الراحل الفقيد المرجع وفق لمعالجة مختلف أبعاد الحياة فقهياً، وهذه ميزة لم تتوفر في الكثير من مفكري وفلاسفة عالمنا الإسلامي الذين عالجوا فكر النهضة، حيث أدخل الفقيد الشيرازي السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في موسوعة فقهية عظيمة وليس معرفية فحسب؛ وألّف في ذلك أكثر من ألف مؤلف، وغطّى جوانب الحياة فقهياً في أكثر من 150 مؤلفاً بموسوعته المشهورة. وعلى ذلك يعد الراحل آية الله العظمى السيد الشيرازي صاحب أكبر موسوعة فقهية مؤسسة ومعالجة في عالمنا الإسلامي. وإلى جانب تغطيته للأبعاد الفكرية التي كانت الأمة إزاءها قبل أكثر من 50 عاماً حبيسة الحيرة والتخبط والضياع وعدم ثقة، أقام المرجع الفقيد منهجاً ومؤسسة تختص بإعداد الكادر العلمي والقيادي الفاعل والقادر على إشاعة هذا الفكر الغزير بين الأمة، واُخرج المشروع الحضاري الجديد إلى الواقع الفعلي على هيئة جماهيرية حسنة، واثقة، عزيزة، قوية، رفيعة في معانيها، خبيرة في دراسة الواقع والتعاطي معه، قادرة على وضع أسس المعالجة الملائمة لثغرات منهج ووسيلة التغيير الحضاري. ولذلك استطاع الفقيد المرجع الراحل أن يشق طريقه بهذه الجماهيرية الحسنة، وبهذا الكادر القيادي والعلمي برغم الكثير من العقبات المختلقة من قبل بعض الأنظمة السياسية وبعض المنافسين. وسطّر هذا المشروع الحضاري ملحمة الفوز بجدارة منقطعة النظير، أعجبت مناصريه ومقلديه ومحبيه فضلاً عن مناوئيه وأعدائه، وشهد كل ذي عقل منصف على أن فاعلية الراحل الفقيد التي تميز بها بعد أول انطلاقة له، كانت ملتزمة بنص الآية الشريفة: (ولا يخافون في الله لومة لائم)، حيث كانت من أهم مختصاته في مواجهة ملمات الدهر. وبما ترك هذا المرجع الفقيد من فكر وعطاء غزير، ورجال مراجع وفقهاء وعلماء ومثقفين وتيار جماهيري كبير غادرهم، ستظل ماهية الظروف المعقدة والمحيطة بأمتنا جلية في معالمها، وذاكرة الأمة ستظل في اتجاهها الصحيح، نابذة لأي شكل من أشكال النظام الاستبدادي، متبنية للشكل الإسلامي الأصيل في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي التربوي، ملتزمة بإيمانها المطلق بخالقها وإرادته التكوينية والتشريعية على هذه الأرض. برغم محاولات التوجيه القسري والتشويه والمغالطات التي تقودها سياسات القطب الواحد في عالم اليوم. وتأسيساً على ذلك، سيظل الحدث المميز في عامنا المنصرم، ذلك الإنسان الملتزم المتميز بالشعور اليقظ تجاه الوقائع التي أفرزتها حوادث عام 2001 م، والإيمان بالنظم الكفيلة بمواجهة تلك المخاطر سلمياً ورفع المخاوف الناجمة عنها، ونبذ فكرة المستحيل التي زرعت لقرون من الزمن في أذهاننا، وهذا ما كان بعض مشروع الفقيد المرجع السيد الشيرازي يهدف إلى تعزيزه والرفع من شأنه. ولذلك لم تكن أحداث 11 سبتمبر من العام الماضي – التي اعتبرت أهم وأكبر حوادث عام 2001م على الإطلاق - بالنسبة للمشروع الحضاري للسيد المرجع الراحل أمراً غامضاً ومحيراً في الرأي والموقف، لا في مسبباته ولا في معطياته ونتائجه وردود الفعل عليه. فنظريات الفقيد المرجع الراحل قد عالجت هذا الأمر قبل حدوثه بأربعة عقود تقريباً، حينما طرح في مؤلفاته مفاهيم الشورى والحرية والتعددية والسلام والرفاهية والقانون وسبل التغيير ووسائله السلمية المنظمة، وبحث في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في جوانبها السلبية والإيجابية، وأرسى دعائم البدائل والمناهج السليمة، وأكد على الإنسان الملتزم رأس مال التغيير ووسيلته وهدفه. وقد ركز الفقيد الراحل مع تصاعد وتيرة المفاهيم المغلوطة للإرهاب الدولي على مبدأ السلام ومفاهيمه، وشدد على أن مرتكب العنف لن يكون بمقدوره التمييز بين أعدائه وأصحابه وإخوانه وأصدقائه وحتى حلفائه، ولن يجد وسيلة أخرى للتعاطي الإيجابي مع من حوله، لأن العنف سبيل إغراء فعّال لمن يمتلك إمكانات البطش. وقال المرجع الراحل في ذلك: «إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين،مهما كان لهم من أعداء. وحتى إذا عثر بهم الزمان وسقطوا، فإن سقوطهم يكون وقتياً؛ فالمسلمون إذا أحاطوا أنفسهم بجو السلام، كفوا أعداءهم..». من هنا جاءت تلك الحوادث رد فعل على بطش وهيمنة سياسة القطب الدولي الواحد غير الآبه بغير المصالح، ورد الفعل العنيف ليس من شأنه إلاّ توليد رد فعل عنيف آخر أعمى غير مدرك للعوامل والمسببات. أو أنه مدرك لكل ذلك، لكنك لا تجد في العلاج ثأراً. وفكرة الثأر هي إحدى مختصات فكر الغرب القائم على ركائز لا تعرف إلا العنف والإرهاب وسيلة وطريقة لتحقيق المصالح على حساب أي مبدأ إنساني أخلاقي. إذن، بقي عام 2001 م المنصرم متميزاً بما تميز به الإنسان الملتزم باليقظة والشعور الحي تجاه ما لف عالمنا المعاصر من مخاطر تستهدف كيان أمتنا المسلمة. وإن هذا التميز لم يكن إلا وليداً بكراً للمشروع الإسلامي الحضاري الذي ترك فيه الفقيد المرجع الأعلى آية الله العظمى السيد الشيرازي بصمات فكره وعمله واضحة وضوح الشمس ليس دونها سحاب، وإن ما يميز هذا الإنسان الملتزم اليقظ الشعور، زيادة في الإيمان بخالقه مشرعاً وموفقاً، وبذاته رصيداً متيناً لتحقيق ما كان واقعاً على عهد الرسول(ص). |