أربعون يوماً والشمسُ لازالت
تُرسِلُ شُعاعَها من كُوَّةِ الدارِ الى جنَبَاتِها تبحثُ عنك، أربعون ليلةً
والنجومُ ترتَقِبُ حلولَ الليلِ لتتألق في بريقِ عينيك، أربعون فجراً
والنسيمُ يتسنصِتُ نفْسَهُ ليسمع صَوتَك. أربعون والمحرابُ يبكيكَ، أربعونَ
والقلمُ يرتَقِبُك، أربعونَ وقد جف دمعُ الدَواةِ، أربعون ودارُكَ تحِنُّ
اليكَ، أربعون وصغارُ الدارِ ينتظرونَكَ لتمسَح الدمعَة من مآقيهم ولِتقُولَ
لهم أن رحليلَك كان حُلُماً عابراً وانقضى، أربعون والأفئدةُ تطرِقُ بابَكَ
علّكَ تفتَحُها أنتَ وليس الثَكالى، أربعون وأَلَمُ فقدِكَ يتعاظَمُ في قلوبِ
فاقديكَ. أربعونَ والعيونُ تشخَصُ الى مرقدِكَ الجاثِمِ في أعماقِ الضمائر.
أربعون إكتَمَلَتْ وأحلامُ القلمِ الباكي لم تكتمل...أربعون مرّت وكُلُّ مافي
الجوارِح ينِزُّ دمعاً سخيناً على فقدِكَ يا أبا محمد رضا.
أتذكُرين ياتُربَةَ قُمٍ المقّدسَةِ عندما كان يُعانِقُ صَعِيْدَكِ الطاهِرِ
بخُطُواتِهِ الوقورةِ وهو يترددُ بين حرَمِكِ الآمِنِ و دارِه البسيطةِ؟
أتذكُرين ياجُدرانَ الدارِ يومَ كان يتكِّأُ عليكِ لينهَضَ مُصافِحاً
ضُيُوفَه؟ أتذكُرينَ يانواصيَ الصِغارِ كفَّهُ الحنونَ وهي تتخللُ جدائِلَكِ
لتبُثَّ فيها حنان الأبِ العطوفِ؟ أتذكُرينَ ياصُحُفَ المجدِ يدَه وهي ترسِمُ
على وجهِكِ روائِعَ العطاءِ؟... أين غابَ عنكِ رفيقُكِ يا جُدرانَ الدار؟ أين
ثوى حليفُكِ يا صفَحاتِ المجد؟ أين توارى حبيبُكِ يا يتامى الشيرازي الفقيد؟
أين رحل؟...أين رحل؟...حضنتهُ عنكم جميعاً تُربةُ قٌمٍ، ورضي بأن ينامَ قريرَ
العينِ ويترُكَ الدارَ والكتابَ واليتامى والعاشِقينَ لِحُزنِهُمُ السرمديِّ
الطويل.
يالَها من رِحلةٍ تلك التي بدأت بالميلاد الميمونِ في دارِ السلامِ بجوارِ
أميرِ المؤمنين (ع)، يالها من أيامٍ صِباً وشبابٍ وكُهُولَةٍ أشرَقَ فيها
أصيلُ العطاءِ الخالِدِ في سنى نورِ الحسينِ (ع)، يالها من رحلةِ غُربَةٍ
تشرّبَت فيها بحبِّك بيروتُ والكويتُ، يالَها من سيرَةٍ من النورِ كتَبْتَ
سطوُرَها بأحرُفٍ من النورِ على صفَحات تاريخِ حاضرةِ العلمِ- قُمٍ
المقَدّسة...قُمٍ التي كانت شاهداً على حياتِكَ الواهِبِةِ ورحيلِكَ المرير.
أغفيتَ يا أبا محمد رضا لتنضمَ الى رَكْبِ الراحِلِينَ من عُلَماءِ آلِ
مُحمَدٍ (ع). رَحَلْتُمْ لتترُكوا في الصُدورِ لوعَةً وفي القلوبِ أسىً وفي
المحاجِرِ دمعة. رحلتم وتركتُم لنا من هَدْيِكُمْ نِبْراساً ظَلَلْنا نعيشُ
في سناه دُنياً هي أقربُ ماتكونُ لِعظمَة آلِ محمدٍ (ع). عَلّمْتُمُونَا أنّ
الألقابَ لاتصنَعُ للعُظَماءِ مَجْداً وأن العظَماءُ هم من يصنعون للألقابِ
مَجْدَها، عَلّمْتُمُونَا أنّ نحْلُمَ حتى نكون مثلَ شجرةِ الصندَلِ تُعطِّرُ
الفأسَ التي تقطَعُها، عَلّمْتُمُونَا أنّ نتواضَعَ وننحني مثلَ السنابِلِ
الملأى ولانتكبّرَ ونتعالى مثلَ السنابلِ الجوفاء، عَلّمْتُمُونَا أنّ نسقيَ
وعورة الدربِ من نجيعِ الجُرحِ وعرَقِ الجبين، عَلّمْتُمُونَا أنّ نكون عطاءً
محضاً كالغيثِ الهامي يسقي الربوةَ والسَبِخَةَ، عَلّمْتُمُونَا أنّ نكون
سَفْحاً يحتضِنُ الزهرَة والشوكةَ وألا نكونَ قِمَّةَ جبلٍ ترى الناسَ
صِغاراً ويَرَوْنَها صغيرةً، عَلّمْتُمُونَا أنّ نغرِسَ لكي يجني سِوانا
وظللتُمْ تعَلِّمُونا حتى حَشرَجَةِ الأنفاسِ ... ثم رَحلتُم وترَكتُم
سيرَتُكم لنا نبراساً ونهجَكُم لنا درباً ورِواءَكم لنا نميراً. كُنتُم بيننا
كفاً تُعطي ولساناً يهدي وجوارِح تهَبُ كُلَّ ماتَمْلِكُ حتى تُعْجِزَ
العطاءَ، فَذَبُلَتِ الكفُ، وسَكَتَ اللسانُ، وهَدَأَتِ الجوارِحُ وبقي نهرُ
العطاء يتفجَّرُ سيَالاً من بين السكونِ والذبُولِ.
أيها الراحل للخُلدِ خذ منا سلاماً الى روحك الطاهِرَةِ، خذ منا قُبْلَةً الى
أنامِلِكَ الواهِبةِ، خذ معك منا سلاماً الى محمدٍ (ص) وعليٍ وفاطِمَةَ
والحسنِ والحُسينِ وبَنِيْهِ (ع). خذ معك منا سلاماً الى جدِّك المُرتضى،
وإذا لقِيتَه وهو في لباس ظُلامَتِهِ فقَبِّل كفيهِ الموثوقَتينِ وقدَميهِ
الحافيتينِ وعُنُقهِ المربوقِ ورأسِهِ المشقوقِ وصدرِه المألوم. خذ منا
سلاماً الى عيِن جدّتِكَ المُحْمَرّةِ وصَدرِها النازِفِ وضِلْعِها المكْسورِ
وجنينِها المعفورِ ومَتنِها المُسْوَدِّ. خذ منا سلاماً الى صاحب الكبِد
المُقَطّعَةِ والفَخِدِ المطعونِ والقلبِ المجروح. خذ منا –أيها الكربلائيُ
الجليلُ- سلاماً الى صريعِ الطفوفِ الذي لم تفتُر عن بكائِه...قبِّلهُ يا أبا
محمد رضا في نحرِهِ الشاخِبِ وجبينِه المشجوجِ وقلبِهِ المفطورِ وصدرِه
المطحونِ وزنديهِ الراعِفَينِ. عانِقْهُ لتتزملَ بدم شهادَتِه الزاكي، عانِق
رضيعَه المذبوحَ، مُدَّ يدَكَ لتُعَزيِهِ في فلذةِ كبِدِه الموَّزَعِ بين
يديهِ، والتَفِت الى حيثُ عمَّتِك الكبرى وخاطبها بدموعِ عينيكَ فهي لاتقوى
على النُدبةِ والنحيبِ. وقبل أن تستقرِ في جنانِ الخُلدِ !
أجِبنا من عالمك النورانيِ عن مسألَتِنا الأخيرةِ: هل مَررتَ يا أبا محمد رضا
في طريقك الى مَسْناةِ الفِرْدَوسِ على قِرْبَةٍ ممزوقَة مبللةٍ بدموعِ
الفراتِ؟ هل رأيتَ رايةً مطروحةً تُرفرِفُ حولَها أرواحُ الصِغارِ العطاشى؟
هل رأيت مِنديلاً يقطر منه نجيعُ كفينِ محزوزتينِ بين يدي البتولِ؟. هل رأيتَ
القمَرَ المشقوقَ؟ هل رأيتَ بريقَ عينيه أم لما يزل دمُهُ جامِدٌ عليهِما؟
... إذا رأيت ساقي العطاشى فقل له أن يمُدَّ كفّيهِ -أو زنديهِ- على صدورٍ
أحرقَتها زفَراتُ ألَمِ مُصابِكَ، ويمسحَ على أفئِدةً كَلَّمَها فقدُكَ
فَظَلَّ نبضُها رجْعَ صدىً لألم العالَمِ في أربَعينِك الحزينِ ياراحِلاً الى
جنة المأوى... ثم توسَّل اليه أن يُطِّلَ بوجهِهِ القمريِ على مأتَمِكَ
لينشُر من سنى محيَّاهُ وميضاً من النورِ في ظُلْمَةِ ليالي مأساتِك ...
وليكن ذاك... وميضاً في سديمِ الأربعين. |