عودة إلى صفحة رأي وآخر

إتصلوا بنا

أنت تسأل ونحن نجيب

الأعداد السابقة

الصفحة الرئيسية

 
 

في ظل أزمة (حريق الإرهاب).. الموقف والدور المطلوب

تتعمد بعض الدول والهيئات الخلط بين الأعمال الإرهابية التي ترفضها وتدينها الشرائع السماوية والفطرة الإنسانية، وبين الأعمال الأخرى المشروعة التي تقرها الأعراف والمواثيق الدولية، لا سيما تلك الأعمال الموجهة نحو استحصال أو انتزاع حقوق الإنسان لأي من الجماعات العرقية أو المذهبية أو الشعوب، أو نحو تحرير أرض مغتصبة، وهذا التعمد إنما تتخفى وراءه محاولة إلغاء طابع الشرعية عن الكفاح العادل وحق تقرير المصير، المنصوص عليه في القرار 2980 الصادر عن الدورة السابعة والعشرين للجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة، والمبادئ المتضمنة بقرارات الهيئات الدولية الأخرى التي تؤكد مشروعية كفاح الشعوب الرازحة تحت الاحتلال أو التي تعاني الظلم والاستبداد، بغية نيل حريتها واستقلالها وكرامتها.

ففي قضية الصراع العربي - الإسرائيلي على سبيل المثال، يجد الطرف العربي أو الفلسطيني على وجه التحديد، والذي يعاني من احتلال مزمن لأراضيه، بكل ما يترتب على هذا الاحتلال من تهديم منازل وتدمير مدن واعتقالات وانتهاك حريات وغير ذلك، يجد هذا الطرف نفسه ملزماً بالدفاع والمقاومة من أجل تأمين حقه في الحياة وحماية كيانه، حتى وإن اتهمه الآخرون بالعنف أو الإرهاب، فيما الحق بكفاحه هذا إنما يأتي رداً على إرهاب تمارسه ضده إسرائيل يومياً.

وفي دائرة هذا الخلط والاتهام اللامبرر الآخذة بالاتساع، تبرز كذلك الحملة الجائرة من الاتهامات التي يلجأ لها مناوئو الإسلام كعادتهم من أجل إثارة شبهاتهم الظالمة الرامية إلى تشويه صورة الإسلام النقية، والحط من قدر المسلمين، الذين يمتلكون عقيدة سمحاء أعادت للبشرية صوابها وسعادتها، ومن تلك الشبهات أن الإسلام يدعو إلى العنف والقوة، ويدعم منطق الإرهاب، ويحارب سبل التعايش والسلام مع الآخرين، فيما تؤكد الآيات القرآنية الكريمة عكس ذلك تماماً؛ حيث قال تعالى:  (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) (آل عمران/159) ،  وفي التكليف الإلهي لنبي الإسلام (ص) تشير الآية الكريمة (وما أرسلناك إلا رحمة العالمين)؛ ذلك أن الإسلام ما جاء إلى البشرية إلا ليخرجها من الاستبداد والجور ويأخذ بيدها نحو العدالة والأمان، دون أن يرمي بها في متاهات البطش والعنف التي لا يجنى منها سوى الويل والآهات وعذاب الإنسانية.

ومن الثابت تاريخياً أن الإسلام لم يقم بالسيف، كما يروج الأعداء والمناوئون الذين داسوا على ضمائرهم، وإنما نشرت دعوته بطرق وأساليب سلمية، ووفق قوانين اللين واللاعنف التي أكدت عليها الآيات المباركة والأحاديث الشريفة عن النبي وأئمة أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، والعفو ما هو إلا ضرب من ضروب اللاعنف؛ حيث قال تعالى: (وإن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم) (البقرة/237)، و(يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) (البقرة/208).

ولئن زعم البعض ممن صوّر ثورة الإمام الحسين الشهيد (ع) الخالدة، بأنها حركة عنف اصطبغت بالدم والضحايا، فإن حقائق التاريخ تؤكد عكس ذلك تماماً، فالحسين كان ملتزماً باللاعنف إلى أبعد الحدود، مقولته العظيمة: (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي) دليل حي لدعوته السلمية - الإصلاحية، بل إنه كان شهيد اللاعنف حيث لم يبدأ أو يسبق خصومه إلى العنف والحرب، وإنما القوم المتعصبون الضالون عن جادة الصواب هم الذين بدأوه بالحرب والقتال حتى قتلوه وجميع آل بيته وصحبه، حتى أنهم لم يرحموا الطفل الرضيع.

وإزاء هذا الاستعراض والبيان، فإن الحديث يتصل هنا بما يشهده العالم اليوم من تطورات وأحداث ساخنة، راحت تهدد أمنه واستقراره، وقد برزت كانعكاسات مباشرة لحادثة تفجيرات نيويورك وواشنطن في 11 أيلول/ سبتمبر الماضي، حيث انبرت هنا أطراف دولية كبرى بتوجه ومسعى خطيرين من شأنه أن يربك الأمن العالمي برمته، وينسف كل مقومات التعايش الحضاري ومفاهيم الحوار والتفاوض السلمي المتكافئ الهادف لإحياء وإدامة القيم الأخلاقية والنظم الإنسانية الداعية لإقرار مبادئ الحق والعدل والحرية والسلام.

وفيما ترغب هذه الأطراف، والتي تتصدرها الولايات المتحدة الأمريكية، بتوجهات إدارتها الحاكمة نحو تنفيذ سياساتها المرسومة والمصاغة وفق الاستراتيجية الجديدة المعتمدة والقائمة على بسط النفوذ والهيمنة الكاملة على مصائر شعوب العالم ومستقبل دولها، في إطار ما يسمى بـ(النظام العالمي الجديد) الأحادي القطب، وقد اختارت لذلك عنواناً وغطاءً وجدته مناسباً تماماً، حين اعتمدت ما أسمته واشنطن بـ(حملة مكافحة الإرهاب) في العالم.

ويبدو أن القاعدة التي باتت تحكم السياسة الأمريكية اليوم تتمثل بأن (من يعادي أمريكا.. ومن يضرب مصالحها فهو إرهابي)، وقد بات الفعل الرئيسي (أمريكياً)، حيث جرى الخلط المتعمد من جانب الإدارة الحاكمة بين جماعات التحرير والمقاومة المشروعة، وجماعات الإرهاب والمافيات اللصوصية والعصابات الضالعة بتجارة وتهريب المخدرات وتبييض الأموال؛ فقد أغفل التعريف الأمريكي ما نصت عليه مقررات الأمم المتحدة من حق الشعوب في المقاومة ضد كل أشكال الغزو والاحتلال وممارسات العدوان الخارجي، ومن ثم أدرجت القوى التحررية بفعل سياسة الخلط تلك، ضمن جماعات الإرهاب التي تستحق العقاب الأكيد، فيما الأدبيات الأمريكية ومنها تقارير وزارة الخارجية تتجاهل تماماً إرهاب الدولة، فإذا كان الإرهاب هو العنف خارج نطاق القانون وخارج ساحات الحروب، فإن إرهاب الدولة لا يختلف عن إرهاب الأفراد والجماعات، بل أنه أشد هولاً؛ لأن الدولة تملك وسائل قمع أكبر وأخطر، والمثال واضح في إسرائيل بما تقوم به من قتل وتدمير لمقومات حياة الشعب الفلسطيني.

جملة الاحتمالات المتوقعة والمؤشرات تدل على أن المراحل اللاحقة لحملة الإرهاب بطابعه الرسمي الدولي، تسير باتجاه الإعداد والتنفيذ الوشيك، فبعدما انتهت مرحلتها الأولى باستهداف أفغانستان، جاءت الحملة الإرهابية الإسرائيلية المشفوعة بالقتل والتدمير ضد الشعب المسلم الفلسطيني، فيما تنتظر الدول المصنفة في لائحة الإرهاب الأمريكية دورها لأخذ نصيبها من العقاب المقرر لها.

وقبالة هذا التدهور البالغ والتصعيد الخطير الذي تمارسه القوى السلبية الداعمة لأطروحات القوة والعنف والهيمنة، تبرز ضرورة تحرك الشعوب والقوى الإيجابية الداعية لقيم العدل والحرية والتعايش السلمي والوفاق، ونزولها إلى ساحة الأزمة، لنزع فتيل التفجير وإخماد نار الفتنة وحريق الإرهاب الذي بات يهدد أمن ومصير العالم برمته، ولعل قوى الإسلام الأصيل تتحمل بالأساس مسؤولية أخذ زمام المبادرة وقيادة الدور المطلوب، في رسم وصياغة نظام التعايش والأمن العالمي الجديد، من خلال إطلاق لغة الحوار الحضاري وآفاق التنسيق والتعاون المشترك مع سائر قيادات الأديان السماوية والقوى المحبة للخير والسلام، لا سيما في الظرف الراهن الحرج الذي تجتازه الإنسانية بصعوبة؛ فالإسلام بمبادئه وقيمه وأحكامه الحقة، حرص على السلام حتى مع أعدائه، بدليل قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (فصلت/34)، و(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) (البقرة/208)، والمجتمع الإسلامي مجتمع حي ومسالم وحضاري وشريعته لا تجوّز فعل ما يوجب تشويه سمعة الإسلام أو المسلمين من أعمال العنف والإرهاب، ويعتبر الحرب ضرورة لا يقرها الإسلام، إلا في حالات الدفاع عن النفس والعقيدة، وصد شرور العدوان، وهو دائماً يرفع شعار الكلمة الطيبة والحوار السلمي المتكافئ سبيلاً لحل العقد والأزمات التي تعترض مسيرة الشعوب والأمم وتعيق حركة الوفاق الإنساني الذي بشرت ودعت إليه رسالة الإسلام المحمدي العظيمة.

ولطالما أوضح وأكد مراجع وعلماء الدين الإسلامي ودعاة الإصلاح والقادة الرساليون بفتاواهم وخطاباتهم ومؤلفاتهم على اتباع تعاليم الإسلام السمحاء وقيمه الأخلاقية وتنمية ثقافة الإنسان وصولاً إلى الأهداف والغايات النبيلة، وبالتالي دعم الأفكار والتوجهات السلمية، بعيداً عن نزعات الانغلاق والتعصب الأعمى والتطرف والعنف والتصادم مع الآخرين.

المرجع الديني الراحل الإمام محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) كان يقف في طليعة قادة ودعاة الحوار والإصلاح والخير، إذ تستند كل رؤاه وأفكاره وكتاباته إلى مبادئ وخيارات تدعو إلى انتهاج أفضل السبل الممكنة للوصول إلى الحلول والمعالجات المطلوبة للمشكلات والأزمات التي تعترض سبيل السلام ومسيرة الحياة الإنسانية، ونبذ كل مظاهر التصلب والتشنج والأفكار الضيقة التي يرفضها الإسلام، باعتباره ديناً يدعو للتسامح والإخاء والحرية والسلام.

ويؤكد المرجع الشيرازي الراحل بأن الواجب والمسؤولية التي يقرها الدين والعقل والمنطق يستوجبان التحرك من جانب البشر لتهيئة المقدمات الممكنة لعلاج المآزق التي تواجه البشرية (ثم اتبع سبباً) (الكهف/89)، والتي منها المؤتمرات الثقافية والسياسية والحوارية، لتحقيق الهدف، والخروج من الواقع  المزري المعاش؛ فلمثل تلك المؤتمرات الإنقاذية أثر فعال في الجوانب التربوية وتنمية الحوار البناء، وتعلم الصبر وتحمل النقد الهادف وتطوير الكفاءات وترشيد الأفكار وتفعيل الخطاب العقائدي والسياسي والإعلامي، بما يخدم مصلحة الإسلام العليا ومستقبل أمة المسلمين.

كذلك كان الإمام الشيرازي (قدس سره يؤكد على مبدأ المشورة والتشاور بين مختلف أوساط الأمة، من مراجع دين وقيادات وأحزاب وجماعات وأفراد، بغية صياغة منهج حياتي أفضل، وصنع قرار سليم يجنب الأمة مزالق الانحراف ومهالك التهور التي قد يجرها إليها بعض الأفراد والجماعات السالكة لطرق الشر والتحجر والتطرف، وإشاعة الإرهاب الذي يشوه صورة وسمعة الإسلام لدى الرأي العام العالمي، ويمكّن أعداءه من النيل منه واستهدافه بالسوء والضرر.

علي الشمري