عودة إلى صفحة رأي وآخر

إتصلوا بنا

أنت تسأل ونحن نجيب

الأعداد السابقة

الصفحة الرئيسية

 
 

فلسفة التظاهر

لماذا لا تتحرك المظاهرات في العواصم العربية عند اللحظات المصيرية؟ ولماذا إذا تحركت دمرت المرافق العامة لمجتمع مدمر بالأصل؟  هل لأن الأمة ميتة وما لجرح بميت إيلام؟ أم أن المشكلة ليست في (الحرية) بل (الرأي) فليس هناك بالأصل (رأي) يتظاهر الناس من أجله سوى السب والتدمير ؟ أم أنه لا يوجد حرية للرأي والتعبير في ظل أنظمة وصلت إلى الحكم بالسيف وعليه تتكئ إلى يوم القيامة كما جاء في قصة أبي ليث الصفار. فهذا الشقي تجمع حوله الحرافيش والعيارون واستولى على خراسان ثم استعد للزحف على بغداد للجلوس على عرش الخلافة. هنا حذره البعض من (عهد الخليفة) فأمر أحد أتباعه بإحضار العهد ليقرأ على الناس فرجع بسيف ملفوف بخرقة فامتشق أبو ليث الحسام ثم صاح بالأشقياء من حوله: هذا هو عهد الخليفة. وما أجلسه على العرش في بغداد هو هذا السيف. ومن ملكني خراسان هذا السيف. فعهدي وعهد الخليفة واحد هو هذا السيف.

يخيل للبعض أن هناك (مظاهرات) في بعض العواصم العربية وهي لا تزيد عن (مسيرات) منظمة من الباب للمحراب تحت أعين رجال المخابرات. في ضربة ذكية لتفريغ شارع حاقد لحساب النظام، فيظهر من الخارج يلبس كرافيتة النظام الغربي الديمقراطي، ومن الداخل يتلفع بعباءة السلطان المقتدر بالله الذي يخافه الناس قياما وقعودا وعلى جنوبهم.

كما أن بعض الأنظمة ترى أن المظاهرات لا تزيد عن صراخ في الهواء، وأن العبرة في العمل وليس الكلام، والأحرى بالناس أن تلزم حدود الأدب فتتكلم كلاما لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا، وأن تحافظ على سيمفونية الشخير الجماهيري، وأما مقلقي النوم العام فلا مرحباً بهم إنهم صالوا أقبية المخابرات.

لكن الجماهير والمنظمات في الغرب اعتادت هذا التقليد المزعج للحكومات فهي تحرص في نهاية كل أسبوع أن تخرج بمظاهرات (سلمية) تعبر عن رأيها بدءا من رفع الصوت بالفرنسية والإنجليزية في مونتريال  أيها السفاح شارون. ومرورا بمظاهرات النساء لإعادة تشكيل المجتمع الأعور بعين ذكورية. وانتهاء بمسيرات الشواذ.

ومشكلة الحرية أنها عندما تفتح الباب فلا يمكن أن تجعل الناس صنفين كما تنادي السياسة العربية: "كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب". وهي جملة ملغومة تعني أن كل الشعب قد يتحول في لحظة إلى عدو مبين. وباسم الشعب قضي على الشعب.

وفي العالم العربي يعلموننا أن لا غبار على حرية التفكير. ولكن كل الغبار على حرية التعبير. ويجب أن يفصل طول اللسان بالمسطرة. وفي بعض العواصم العربية تطالعك أشكال المظاهرات المزيفة وهي تهتف بحياة القائد أكثر من القضية التي دفعت إليها جماهير غضباء عمياء.

ولو رأى الناس مظاهرة احتشد فيها الناس في فرانكفورت أو مونتريال وهم يهتفون بالدم بالروح نفديك يا شرويدر أو كريستيان لظنهم الناس مجموعة ضالة هائمة على وجهها فرت من مصح أمراض عقلية يجب الاتصال بالبوليس لردها من حيث جاءت خلف القضبان.

إن هناك جدلية بين (حرية التفكير) و(حرية التعبير). وعندما نغتال حرية التعبير نفعل مثل فرعون بيبي الثاني الذي كان يقص ألسنة كهنة المعبد حرصا على الأسرار. أو أن نتصور شركة الكترونية عملاقة وهي تنتج كمبيوترات بدون شاشات.

وعندما يحرم الإنسان من التعبير تتموت عنده مع الوقت (ملكة التفكير) تحت قانون بيولوجي: العضو الذي لا يستخدم يضمر.

إنه لا يمكن فهم التظاهر خارج المنظومة الديمقراطية.وأنها نوع من تصور العالم كما يقول بيير بوردو في كتابه (العقلانية العلمية). ومنذ أن حطم الغرب الجبت والطاغوت أي الإقطاع والكنيسة واستبدلهما بساقين يمشي عليهما من رأس المال والعمال، في وسط تسهر عليه عينين من الصحافة والبرلمان، وتتناوب عليه قوتان من الحكومة والمعارضة، شكلت المظاهرات آلية الصدع بالحق حسب الرؤية الإسلامية. أو حرية الرأي حسب مصطلحات الديمقراطية الغربية. والمسألة تدور هنا حول حرية الاختيار أكثر من صواب الاختيار. وعندما بنيت الديمقراطية (سلميا) فلا يمكن للمظاهرات أن تكون عنيفة مدمرة مثل الطوفان. وهو يفسر بصورة أخرى أن الكتلة البشرية عندما تجتمع في الشارع تشعر بقوتها السيكولوجية. وفي جو جمعي من هذا النوع يتبخر العقل ويعمل اللاوعي الجماهيري. وهو عند العرب حاقد مسحوق منذ أيام يزيد والحجاج. فإذا تمكن دمر واجتاح كالسيل العرم. وأمام جو من جنون العنف وعنف الجنون يبقى الشارع العربي فارغا والناس في بيوتها تلعن والحاكم يحرس الممرات بجنود غلاظ شداد لا يعصون ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وفي عاصمة عربية أراد الناس التظاهر فنصحهم الحاكم أن يصعدوا في باصات مغلقة فيطوفوا ما شاء لهم الطواف ويزعقوا ما تبح به حناجرهم ضمن صندوق معدني مغلق متحرك.

إنه أسلوب يجب أن يتدرب عليه الشيطان الرجيم في المؤسسات الأمنية للعالم العربي.

د. خالص جلبي