لقد تعوّدت المجتمعات الراكدة
والميتة أن تودّع العظماء الذين عاشوا بين يديها من دون أن تكتشفهم
ومن دون أن تأخذ منهم المدد الفكري لإصلاح ما فسد من أوضاعها وما مال
من أحوالها، فتارة تكون النزعة الأبوية والانجذاب للمألوف سبباً في
ذلك، على قاعدة (إنا وجدنا آباءنا على أمة)، وتارة أخرى يكون عدم
الوعي بما هو جديد عند أولئك العظماء وعدم معرفة قيمة ما يبشّر
به للإنسانية سببا في ذلك، على قاعدة (لا نفقه كثيراً مما تقول)، وقد
تكتشفهم بعدما يغيّب الموت أجسادهم، وكأن هنالك علاقة تضاد بين
وجود الجسد ووجود الفكر واتحادهم الزمني.
والإمام الشيرازي الذي رحل عنا قبل
عام واحد بصفته أحد العظماء النوادر والنوابغ في تاريخنا المعاصر بما
قدّم من إنتاج علمي، وما قدّم من حركة ثقافية و جهادية على مستوى
العالم الإسلامي، بل تعدّته إلى البلاد غير الإسلامية، عندما نضعه
أمام تلك المعادلة وهي وأد العظماء وعدم اكتشافهم والاستفادة منهم
إلا بعد اختفاء أجسادهم، فما هو المشهد الذي يرتسم أمامنا؟
لا نستطيع أن نغض الطرف عن مدى
التأثير الذي سببه الإمام الشيرازي في الساحة الإسلامية وغيرها بخصوص
تنامي الصحوة الإسلامية والمساهمة في خلق جيل عريض من العلماء
والمفكرين والمبلغين، ونشر العديد من المؤسسات في شتى بقاع العالم،
إضافة إلى ذلك الكم الهائل من الإنتاج الفكري، مما خلق موجة من الوعي
في الوسط الإسلامي وسبب نقلة نوعية لوعي المجتمعات..
وقد حقق أكثر من واحد من الكتاب الأثر الذي تسبّب فيه الإمام
الشيرازي لمنطقة الخليج والعالم الإسلامي، وتم رصد الكثير من
المشاريع التي نمت في بلاد الغرب، بل وقد قام مجموعة من الباحثين
بتأليف مجموعة من الكتب والدراسات في فكره السياسي والإقتصادي
والإجتماعي والتجديدي، وقد تم التعريف بشخصيته الفذّة في عدّة كتب
مقالات ومحاضرات.
فبملاحظة هذه التأثيرات لسماحة
الإمام الشيرازي حال حياته وبملاحظة مدى التعريف الذي وفق له بعض
محبيه ومعجبيه، قد يعتقد أنه كان استثناء من القاعدة التي ذكرناها من
عدم اكتشاف وعدم اغتنام مجهود العظماء حال حياتهم، إلا أننا نرى
المسألة نسبية لسماحته، فما حدث من فعل لا يقاس بما أنتج من فكر، بل
أن إنتاجه وبعد عام واحد من وفاته لم ينتهي إلى الآن، فهل وجدنا أحداً
يستمر إنتاجه الفكري حتى بعد وفاته، ذلك هو الإمام الشيرازي الذي
تخطى حاجز الزمن وسبقه في العطاء، فلازالت مؤسسة الرسول الأعظم
للتحقيق والنشر، تحقق وتطبع كتبه المخطوطة بمعدل كل عام أربعين كتاباً..
وقد فاجئنا الإمام الشيرازي بعد وفاته بإصدار كتاب ضخم بعنوان (الفقه
العولمة) الذي ناقش فيه آخر جدليات الساحة الفكرية وآخر التحولات
العالمية المعاصرة، فما أنتج من كتب حول التعريف بفكره (أعلى الله
درجاته) وما حصل من تأثير لمشروعه الإسلامي، لايقاس بمدى الطموح الذي
كان يصبوا إليه، ولا يقاس بمدى العطاء الزاخر الذي أنتجه، فالحال هو
الحال مع الإمام الشيرازي كعظيم من العظماء وعلاقته بذهنياتنا
الوائدة.. فلن نكتشفه حق اكتشاف إلا بعد فترة من الزمن، فهذه الحال
الذي نأمل في التخلص منها والتحرر من ربقتها، لنستفيد من العظماء حال
حياتهم.
ولكي نمعن في اكتشاف فكر الإمام
الشيرازي، لتستفيد منه الأمة الإسلامية، فإن مراسيم إحياء الذكرى
السنوية لا ينبغي أن تقتصر على مجالس العزاء والبعد التأبيناتي وإن
كان هذا البعد ذا أهمية لأن ثوابها العظيم ينتقل إلى روحه قدس سره
كما أكدت أحاديث أهل البيت عليهم السلام أن إهداء أعمال الخير
للأموات تصل إليهم، ولكن ينبغي الحرص على إثراء البعد الفكري و
الدراساتي لتظهير فكر الإمام الشيرازي رحمة الله عليه لنرمم ما تزعزع
من حال الأمة بهذا الفكر الخلاق، وذلك بإعداد الدراسات الجادة، وعقد
المؤتمرات والندوات وإنشاء مراكز البحوث لتأخذ مهمة الاشتغال الفكري،
لتظهير الإرث العلمي والفكري الذي ورّثنا إياه، والإمام علي (عليه
السلام) يقول: (العلم وراثة كريمة)، فبذلك تتكامل علاقتنا بالإمام
الشيرازي القدوة والخلق الرفيع، والإمام الشيرازي الفكر الخلاق
والمعالجات الناضجة، وليتوازن تعاطينا في كلا جانبيه.
|