السيد جعفر الشيرازي في المهرجان التأبيني للحوزة العلمية الزينبية: دفع الإمام الشيرازي ضريبة كبيرة جراء طرحه الجريء..

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين

(إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه انيب) قرآن كريم

الإصلاح: هو الركيزة الأساسية في عمل الأنبياء ورسالات السماء.

فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد تتأثر بعوامل الزمان والمكان وتأثير الآباء والبيئة الاجتماعية التي تحيط بالإنسان، فتتراكم غشاوات على عقل الإنسان ونظرته، فبعث الله الأنبياء ليثيروا للناس دفائن عقولهم ويصلحوا شأنهم.

ومن هذا المنطلق نرى القرآن الكريم وفي آيات متعددة ينقل عن الأنبياء العظام (عليهم السلام) قولهم أنهم ما بعثوا إلا لإصلاح الأوضاع، اجتماعية وغيرها.

كما أنه قد يكون شيئاً يناسب زماناً أو مكاناً وإذا نقل إلى مكان أو زمان آخر لم يكن مناسباً، نتيجة للتطور، أو للعوامل، فتأتي عملية الإصلاح لتجعل من الشيء مناسباً لظرفه الجديد. وعليه فإن عملية الإصلاح قد تكون لتغيير واقع فاسد، وقد تكون لتطوير شيء كان صحيحاً في وقته لكنه انتهى مفعوله واحتاج إلى تغيير كما حدث في الشرائع السابقة التي نسختها الشريعة الإسلامية.

والإصلاح يتقارن مع التجديد في كثير من مفرداته.

والإسلام بما أنه خاتمة الأديان والشرائع الذي خصه الله تعالى بالدوام وعدم النسخ لأنه يبتني على قواعد عقلية وسنن كونية غير قابلة للتغيير والتبديل، فلذا كان هذا الدين العظيم ملائماً لجميع الظروف والأزمنة والأمكنة، لكن في نفس الوقت يحتاج المسلمون إلى من يحيي تلك القواعد والأصول كلما عرض عارض أو حدث انحراف في المسير أو غفل المسلمون عنها.

وتنحصر مهمة المصلحين والمجددين في إحياء تلك المفاهيم المبثوثة في القرآن الكريم وأقوال وسيرة الرسول وأهل البيت (عليه وعليهم السلام).

ومن لطف الله تعالى على المسلمين أن حباهم بهؤلاء المصلحين والمجددين بين فترة وأخرى وخاصة في الأزمات والنكبات.

ومن هؤلاء المصلحين والمجددين المرجع الديني الأعلى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله درجاته) الذي أفنى حياته الشريفة طلباً للإصلاح والتجديد في الأمة الإسلامية.

فكان مصلحاً مجدداً في الفكر والعمل، فهو نظرّ للإصلاح وبث نظرته الإصلاحية في كتبه المتعددة خطاباته، ورسائله، كما كان يباشر عملية الإصلاح بنفسه بمنتهى طاقاته وقدارته.

ويمكن أن نرسم جانباً من نظريته في الإصلاح والتجديد في نقاط:

1- الإصلاح في القمة.

2- الإصلاح في القاعدة.

3- الإصلاح في المنهج الفكري.

(1) الإصلاح في القمة:

أي قادة المجتمع الإسلامي وهم العلماء والساسة.

فكانت نظريته في شورى المراجع، حيث إن المراجع هم القادة الذين ترجع إليهم الأمة في مختلف شؤونها، وحيث إن عالم اليوم قد تجاوز الحالة الفردية بما لا يمكن للأمة أن تواكب وتتفوق على سائر الأمم إلا عبر تجمع القوى وانصهارها في بوتقة واحدة فإن شورى المراجع تفرز وحدة الأمة وتجنبها الصراعات الهامشية، كما أنها تتمكن من تجميع طاقات الأمة وصبها في المصلحة العامة للمسلمين، هذا مع قطع النظر عن وجوبها الشرعي المستفاد من الأدلة الشرعية.

وأما الساسة فإن من أهم مشاكل الأمة الإسلامية هو أنها ترزخ تحت ظل الاستبداد الذي هو مفتاح كل شر ومخرب لكل خير وقاتل لطاقات المجتمع، وإصلاح الأمر يكون عبر تشكيل المؤسسات الدستورية والحركات الصحيحة الحرة النزيهة، وكل ذلك يمكن استفادته من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والقواعد الفقهية كآيات الشورى والحرية وقاعدة السلطنة فإن القيادة هي تسلط على الناس وعلى أموالهم ومصيرهم، والأدلة الشرعية تدل على أن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم.

وقد دفع الإمام الشيرازي ضريبة كبيرة جراء طرحه الجريء لهذه المسألة حتى أنه في بعض الأحيان كان يعرض عليه تخفيف الضغوط عليه مقابل السكوت عن طرح نظريته هذه، لكنه أصر على ذلك قائلاً أن الإصلاح له ضريبة يجب أن ندفعها لنصل إلى الهدف المنشود.

(2) الإصلاح في القاعدة:

ويكون ذلك عبر التوعية: فإن الجهل أساس كل المشاكل، وتكون التوعية عبر جميع الوسائل المتاحة، وقد نظرّ المرجع الراحل لذلك كما أنه مارس ذلك عملاً.

فالكتاب أخذ حيزاً كبيراً في فكر وطاقات المرجع الراحل، فقد أخذ القلم بيده وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف ولم يضعه إلا في الليلة التي توفي فيها مخلفاً إنجازاً عظيماً وتراثاً ضخماً يربو على الألف كتاب.

فلم يفكر في المصاعب والإنشغالات ولا القيل والقال، فكان يقول يجب أن نوجه الجميع بمختلف مستوياتهم، فكتب للعلماء وكتب للطلبة وكتب للشباب وللمثقفين وحتى للأطفال.

كما اهتم بتأسيس دور النشر ونشر المجلات والجرائد وغيرها، وكلما تقدمت التقنية واخترعت وسيلة جديدة إلا وبادر للإستفادة المشروعة من تلك الوسيلة لنشر الأفكار الإسلامية ولبث الوعي في الأمة.

ومن ركائز الإصلاح في القاعدة هو تأسيس المؤسسات المختلفة لتستوعب طاقات المجتمع وتنميها وتربيها.

فكان المرجع الراحل أن بادر لتأسيس المئات من المؤسسات المختلفة في أي بقعة تمكن من الوصول إليها، وكان يشجع جميع من يلتقي بهم لذلك.

(3) الإصلاح في المنهج الفكري:

فمن نعم الله تعالى على البشرية أن أودع كل ما تحتاجه في القرآن والسنة المطهرة وسيرة الرسول وآله (عليه وعليهم السلام) فلا بد من الغور في بحارها واكتشاف الثروات الفكرية الهائلة فيها، كما أن الله عز وجل أودع الطبيعة ثروات هائلة تحتاج إلى من يستخرجها ليستفيد منها.

فمن هذا المنطلق جاء المنهج الإصلاحي للمرجع الراحل بالسير في أغوار بحار القرآن والعترة اللذين خلّفها الرسول (صلى الله عليه وآله) في أمته.

فجاء تركيزه على آيات من القرآن نسي أكثر المسلمين العمل بها.

منها: آيات الشورى، وإنها ليست مجرد آيات أخلاقية وإنما هي آيات تدل على الوجوب والإلزام وهي منهج عام للمجتمع قال الله تعالى: (والذين استجابو لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) يقول المرجع الراحل في تفسير الآية: (إذ للمجتمع ثلاثة أبعاد: بُعدٌ روحي يتحقق من خلال العبادة، وبعد سياسي يتحقق من خلال الشورى، وبعد اجتماعي يتحقق من خلال الإنفاق).

ومنها: أصالة الحرية المستفادة من قوله تعالى: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).

ومنها: الأمة الواحدة كما قال تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة) إن هذا القانون الإلهي من أهم الأمور التي تحقق التطور للأمة الإسلامية، ونشاهد في عالم اليوم أهمية الاتحاد، فمع أن دول أوربا الغربية تعتبر من الدول المتقدمة في العالم إلا أنها أحست بأنه لا يمكن أن يكون لها دور في عالم اليوم إلا عبر الاتحاد فقاموا بتأسيس الاتحاد الأوروبي مع أن دينهم لا يأمر بذلك ولا تأريخهم كان تاريخاً وحدوياً، فما بال المسلمين دينهم يأمر بذلك وتاريخهم يشهد له.

ومنها: آية الأخوة الإسلامية حيث يقول الله تعالى: (إنما المؤمنون أخوة) وقال تعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على اسود إلا بالتقوى).

هذه الآيات وآيات أخرى يتلوها المسلمون آناء الليل وأطراف النهار، لكن أكثرهم غافل عن دلالاتها فكرياً وعملياً، فجاء المرجع الراحل وفي نهجه الإصلاحي ليركز على هذه الآيات في أكثر كتبه وخطاباته ولقاءاته.

كما أن المرجع الراحل كان يرى أن الإصلاح لا يكون عبر الشعارات الجوفاء ولا عبر القوة.

بل ما احلى الشعار إذا كان مقترناً بالفكر والعمل.

وما أحلى الإصلاح إذا كان مقترناً بالإقناع والتغيير الجذري.

فجاء طرحه لفكرة اللاعنف لتجذير عملية الإصلاح عبر الكلمة الطيبة، فيعتبر المرجع الراحل أن الأصل في الطرح هو أن يكون بالحكمة والموعظة كما قال تعالى (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة).

كما جاء طرح المرجع الراحل للحوار البناء البعيد عن الغوغائية، فكان هو يمارس الحوار سواءً الحوار الديني مع أصحاب الديانات الأخرى أو الأفكار الإلتقاطية، أو الحوار الاجتماعي أو غير ذلك، وقد كتب عدة كتب في حواراته، ومن هذا المنطلق جاءت دعوته المتواصلة لإقامة المؤتمرات وقد كتب كتاباً تحت عنوان (مؤتمرات الإنقاذ).

ذلك أن الحوار يقرب وجهات النظر ويظهر الحقائق ويصب الجهود المختلفة في إطار واحد ويقرب الوصول إلى مختلف الأهداف ولو على المدى البعيد.

عقبات في وجه الإصلاح

من المعلوم أن الإصلاح ليس عملية سهلة بل هو عادة يواجه بمقاومة من المجتمع ويعاني من قلة الاتباع وبمشاكل جمة في الطريق.

وقد أكثر القرآن الكريم من نقل قصص سادة المصلحين وهم أنبياء، ومقاومة المجتمع لهم وبمختلف الأساليب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها.

فمن التشكيك في عقلهم قال تعالى: (ويقولون أنه لمجنون)، إلى التشكيك بأنهم التقاطيون (أساطير الأولين اكتتبها)، إلى المنع عن الاستماع إليهم (جعلوا أصابعهم في آذانهم) إلى الاستهزاء بهم (ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون).

ثم محاصرتهم اقتصادياً قال تعالى: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند الله رسول الله حتى ينفضوا) ثم محاولة تصفيتهم جسدياً قال تعالى: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك) وهكذا واجه المرجع الراحل هذه العقبات.

ولكن الأمر المشترك بين المصلحين أجمع هو الصمود والاستقامة ومواصلة المسير رغم الصعوبات وعدم اليأس.

ولأنهم مصلحون فإنهم لا يريدون شراً بمن آذاهم بل يريدون إصلاحهم مع غمض العين عن كل من أساء إليهم فلذا العفو من صفات المصلحين البارزة.

وتجد هذا الأمر بوضوح في حياة المرجع الراحل فقد عفا عن كل من آذاه وجاءه معتذراً بل لم يكن يسمح له للإعتذار حتى لا يرى في وجهه ذل الاعتذار فكان يقطع اعتذاره ويقول لا شيء عليك ثم يبدأ بتوجيهه واعطاءه الفكر والوعي.

ونحن حينما نؤبنه لا نريد الافتخار به – وإن كان هو فخر لكل من ارتبط به بل هو فخر لكل الأمة الإسلامية – بل نريد الاعتبار لمواصلة مسيرة الإصلاح، كما أشار إلى ذلك أخوه وخلفه الصالح آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (أدام الله ظله).

وإني باسمي وباسم أسرة الشيرازي وباسم الحوزة العلمية الزينبية أشكركم جميعاً لتحملكم عناء الحضور والمواساة وأشكر جميع من ساهم بطريقة أو بأخرى في برنامج العزاء والفاتحة.

نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعمل الصالح ولمواصلة مسيرة الإصلاح وأن يعجل فرج المصلح الأكبر الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.