ما من كلمة قيل فيها وعنها وكتب
حولها مثل كلمة الحرية، تلك الكلمة التي تشعر الإنسان عند سماعه بها
أو قراءته عنها، بلظى يحرق جوانبه ونار تشتعل في داخله لظمأ لها وعطش
إليها.
و ليس هناك من قائد أو مفكر أو رجل
دولة لم يتحدث عن الحرية ويبحث فيها، وليس هناك من شاعر ألا وله أكثر
من قصيدة عنها، متغزلاً فيها أو داعية إليها.
ولم يقتصر ذلك على دعاة الحرية
الحقيقيين ولا على عشاقها الأمينين أو طلابها المخلصين بل تعداه حتى
إلى الطغاة والمستبدين، فهم أيضا قد غازلوها وادعوا الوصل بها،
والتعلق بمعانيها والسعي والعمل على تحقيقها على ارض الواقع.
وفي هذا الزمن الذي أطلقوا عليه
تسمية زمن العولمة، وفي هذا العالم الذي اتسم بالشركات المتعددة
الجنسية، حيث يسود قانون السوق بمفاهيم الليبرالية اللا ليبرالية
والتي تدعو وتعمل على تشيء كل شيء وتحويله إلى سلعة تباع وتشترى،
وحيث يكون فيه كل شيء في هذا الوجود له ثمنه الذي يقدر بالدولار الذي
أضحى السيد الذي لا ينافسه في سيادته على العالم أي احد.
في هذا الزمن ألقسري وفي عالم
الإذعان هذا، الذي يفرض عليك وبالرغم منك كل شيء له علاقة بحياتك
ومصيرك ومستقبلك ومستقبل أطفالك، اعتباراً من رئيس الدولة وحتى
ملابسك الداخلية وصبغ حذائك ومحتويات وشكل ولون غرفة نومك، مروراً
بأفكارك ورغباتك ومعتقداتك وصولاً إلى مفرداتك اللغوية، عير وسائل
القسر والإذعان المختلفة: التي تتوزع مابين القوة العسكرية الغاشمة
إلى الإعلان التلفزيوني، غير ناسين السينما ومسلسلات التلفزيون
والصحافة اليومية والمجلات الأسبوعية والدورية.
في هذا العالم الذي أضحت فيه الحرية
بكل معانيها أو صورها شيء من التاريخ وأمر من عالم انتهى وانقضى ولم
يبقى منها سوى تمثالها الذي يطل على سواحل نيويورك.
نقول في هذا العالم وهذا الزمن، يأتي
صوت يحمل صدى نداء السماء لأهل الأرض، الذي كان الأنبياء والرسل(ص)
قد أوصلوه للناس منذ بدأ الخليقة، وحتى جاء الرسول الصادق الأمين
محمد(ص) ودعى بذلك النداء، وحيث كانت رسالته هي خلاصة كل تلك
الرسالات والدعوات، في الرسالة الإسلامية السمحاء، التي كانت أولى
دعوتها هي دعوة الإنسان للأنعتاق والحرية، وان لا عبودية بعد اليوم
إلا لله سبحانه وان الله ألعلي العظيم الذي جعل الإنسان خليفته على
هذه الأرض وكرمه على بقية خلقه لا يرضى أن يكون ذلك " الخليفة المكرم"
عبداً لأحد آخر سواه.
ذلك الصوت كان صوت الإمام الراحل
السيد محمد الحسيني الشيرازي، كان مفهوم الإمام الراحل يتسم بالبساطة
والشفافية والوعي العالي وايضاً و(هنا) عقدة المسالة وجوهر المعرفة،
كان مفهومه ممتلأً ويفيض إنسانية، معبراً بذلك وعاكسا ً عن شخصية
الإمام الراحل نفسه، تلك الشخصية التي كانت ينبوعا يتدفق منه الحب
والرحمة والإنسانية، لم تكن تحد عطائه حدود الدين أو القومية أو
اللون، بل كان من شدة ذلك التدفق يفيض ليغمر الإنسانية كلها والعالم
بأجمعه، مقتحماً وكاسراً كل الحدود الجغرافية المصطنعة منها (
السياسة)، وحتى الطبيعية !.
ومفهوم الحرية لدى الإمام الراحل "
رحمه الله" ليس عبارات لغوية منمقة ولا هو خطاب معقد في النطق
والفلسفة والأبستمولوجي، بل كان بسيط كبساطته لأنه لم يكن موجهاً
للنخبة من الناس، لكنه كان يهدف إيصال ذلك الصوت إلى العامة من الناس،
والى المستضعفين منهم والمحرومين من الحرية على وجه الدقة والتحديد.
" لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً"
بهذا القول البليغ والبسيط في نفس الوقت، يبدأ الإمام الراحل كلامه
عن الحرية، وعلى ضوء هذه القاعدة العامة يبني أسس مفهومه.
كون العامة ولما قلنا وليس الأسياد
هم الغاية وهم الهدف وهم أصحاب القضية والمصلحة في فهم الحرية ووعيها..
ثم العمل والكفاح في سبيلها،
فالإنسان، والإنسان العادي والبسيط هو من يوجه له الإمام خطابه، وهو
من يكتب له بيانه، ويخط له واجبه الشرعي، ويوضح له طريقه ومساره. فهو
يقول في كتابه – الفقه- كتاب السياسة"ج2-ص213مايلي: " الأصل في
الإنسان الحرية، في قبال الإنسان الآخر، بجميع أقسام الحرية إذ لا
وجه لتسلط إنسان على إنسان آخر وهو مثله، كما إن الأصل في الإنسان
العبودية لله سبحانه"... ثم يضيف مؤكداً كلامه:" وكيف كان، فيدل على
أصالة حربة الإنسان قول " علي أمير المؤمنين"(ع)المشار إليه أعلاه.
وحيث ان الحرية والإنسان والإسلام هي
كلمات ذات مدلول واحد، ويرتبط احدهم بالآخر، ارتباطاً لا انفصام فيه،
ولا يبتعد عنه حتى لقيد أنملة، بل ولا يمكن ان يكون أو يوجد احدهم من
دون وجود الآخر، وكما يقول الإمام الراحل في كتابه- كتاب الفقه- كتاب
السياسة(ج1)ص271مايلي:
( فالأصل في الإسلام " الحرية "
فأنها المستفاد من " الناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم، ولذا فلكل
إنسان أن ينضم إلى الآخرين لبناء الحياة وتقدمها ولا يحد هذه الحرية،
إلا ما يوجب الضرر على الآخرين أو على النفس).
والحرية ايضاً كما يرها الامام
الراحل:( الحرية.. منحة آلهية، وحق طبيعي للأنسان في ابداء رأيه،
وممارسة اعماله، ومعارضة حكامه).
غير ان الحرية التي يبحث عنها الإمام
الراحل ويدعو لها هي ( الحرية المسؤولة) حيث يقول في كتابه ( الحرية
الإسلامية)، ص36ما نصه:
" ليس معنى الحرية الفوضى في النظام
او في القائمين بالنظام، كما وجدناها في اول الانقلابات التي حدثت في
مصر و العراق وباقي البلدان، فأن الناس اخذوا يعملون ما يشاؤون من
الامور الفوضوية،... بل الحرية معناها اطلاق تصرف الناس في اطار
المعقول فاللازم جعل اطار للحريات، وليس ذلك بمعنى الكبت بل بمعنى ان
لا يضر الانسان نفسه وغيره ".
هذا القول للامام الراحل لم يأت من
فراغ بل جاء مستنداً ومتطابقاً الى القاعدة الفقهية في الاسلام،
والمبنية على الحديث الرسول الكريم محمد(ص):
"لاضرر ولا ضرار في الاسلام " وهي
القاعد التي اسماها فقهاء القانون في زماننا هذا بقاعدة " منع التعسف
باستعمال الحق".
ولذلك وبناء على كل ما ذكرناه..، فأن
الحرية كانت وظلت هي الركيزة الاساسية التي بنا وأشاد وأسس عليها
الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي ( رحمه الله) بناءه ورؤاه
الفكرية كلها، وهو ما اكده بنفسه حيث قال وفي الصفحة"10" من كتابه
الرائع ( العراق.. ماضيه ومستقبله)، ما يأتي:
( ان من اهم العوامل التي ساعدت
الغربيين في السيطرة على العراق المسلم هي إزالة الركائز الاساسية
للحرية، وذلك عن طريق استخدام كل وسيلة ممكنة للسيطرة على بلادنا، كي
نتحول الى امة لا وزن لها، تدور في فلكهم بلا إرادة ولا اختيار).
موسى جعفر محمد
مركز الإمام الشيرازي للبحوث
والدراسات
مؤسسة الإمام الشيرازي
العالمية
|