أوباما والدرب الطويل...

د. محمد مسلم الحسيني- بروكسل

حينما حصلت أحداث الحادي عشر من أيلول(سيبتمبر) عام 2001م، إنبرى أهل الحكمة وبعض السياسيين في أمريكا وخارجها الى تقديم النصيحة والحكمة للمسؤولين السياسيين في أمريكا وطلبوا منهم أن يهتموا بمعالجة جذور المصيبة التي حلّت بهم ولا يكتفوا بمعالجة الظواهر فقط. لأن معالجة الظاهرة أو العارض لا يصل تأثيره لجذور المشكلة وإنما هو تسكين وقتي سرعان ما يزول وتعود المشكلة الى الساحة من جديد وربما معها مضاعفاتها.

لكن ومع شديد الأسف، لم يستمع أصحاب الشأن في أمريكا آنذاك لهذه النصيحة الذهبية بل ركبوا رؤوسهم وهبوا هبة الرجل الواحد رافعين شعارات الإنتقام والتهديد والوعيد وبثوا إشارات الحقد والكراهية ووضعوا برنامجا عسكريا بحتا لحل مشكلاتهم وكأن إستعمال القوة هو السبيل الوحيد والأمثل والذي لا مناص منه!

صرخت القيادة الأمريكية في حينها كما صرخ " أرخميدس" في حمّامه وقال "وجدتها" حينما أكتشف القاعدة الفيزياوية التي تحدد وزن السائل المزاح ومقدار ما تفقده الأجسام من أوزانها حينما تغمر في الماء! إلاّ أن هذه القيادة لم تكتشف قانونا فيزياويا أو كيمياويا حينما صرخت وجدناها، إنها في الحقيقة وجدت الأعذار والشعارات التي بواسطتها سوف تمرر مشاريعها التي تنتظر ساعة التنفيذ.... كان "مشروع الشرق الأوسط الكبير" من أهم المشاريع في جعبتها وكانت فكرة تنظيف منطقة الشرق الأوسط من أعداء أمريكا وإسرائيل هي أبرز الأفكار التي تشع في أجندتها. لم تتردد إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جورج دبليو بوش في إعلان الحرب التي سميت بـ " الحرب على الإرهاب" وكانت حربا مفتوحة، قد يدرك المراقب للأحداث من أين ستبدأ هذه الحرب لكنه يعجز أن يعرف كيف وأين ستنتهي!.

 اعتقدت الإدارة الأمريكية بقيادة بوش بأن القوة العسكرية الأمريكية الهائلة التي تمتلكها ستكون كفيلة في القضاء على كل من يقف بوجهها أو يتحداها. لم تدرك بأن دخولها في حرب في كل من إفغانستان والعراق كفيل بأن يدخلها في مأزق لا تعرف كيف تخرج منه!؟ فقد خسرت الكثير من المال والسلاح والأرواح نتيجة لهذه الحرب الإستنزافية الطويلة التي أضعفت مناعتها وبددت قواها وجعلتها هشة أمام المصائب والمحن. فقد تردى إقتصادها وتهاوت مؤسساتها المالية وازدادت البطالة وعم الفقر وفقد الناس مصادر رزقهم وأموالهم وتشرد الملايين خارج بيوتهم.... حتى أضحى الأمريكيون كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى!. لقد خسرت أمريكا المال والرجال لكنها لم تفلح بشيء! قواتها طامسة في وحل العراق وإفغانستان، وأعداؤها يسرحون ويمرحون في أرجاء إفغانستان والعراق، ومشروع الشرق الأوسط الكبير مات قبل ان يولد.

 إيران تفلت من عنق الزجاجة وتسلح نفسها وتبيع البترول بأغلى الأثمان، بينما تبدو الإمبراطورية الأكبر في العالم ضعيفة واهية منكسرة مقعدة أمام الأزمات المحيطة بها وشعبها يبقى ينتظر رحمة من ينقذه من ورطته ومعاناته....

لا سبيل للأمريكيين إلاّ طريق الخلاص، الخلاص ممّن ورطّهم في محن طويلة ومن دوامة ثقيلة أقضت مضاجعهم ونغصت عليهم عيشهم. فقد حق التغيير وحقت الإنتفاضة، الإنتفاضة على إدارة شرسة متعجرفة لا تؤمن بالحكمة والعقلانية بل تتعامل مع القرارات الصعبة والخطيرة بارتجالية وتهور.

إنتفض الأمريكيون على أنفسهم وتمخضت إنتفاضتهم عن ولادة جديدة، لحقبة جديدة، لخبرة جديدة، لوجه جديد إسمه باراك أوباما.... هذا الوجه الأسمر الجديد الذي يحمل في طياته جينات أفريقية واسلامية لابد أن يعني شيئا... فماذا يعني إذن أوباما؟.

أوباما دون شك يعني التغيير.. تغيير الستراتيجية الأمريكية....تغيير السياسات الأمريكية....تغييرالرؤى والأفكار....تغيير المسالك والوسائل....كما يعني أيضا الإصلاح... إصلاح الأخطاء الأمريكية.... إصلاح السلوك الأمريكي....إصلاح المبادىء والقيم..... أوباما يعني لون جديد لأمريكا ويعني هوية مختلفة لأمريكا. أوباما يحمل على كتفه اليوم مسؤولية كبرى أمام شعبه وأمام شعوب العالم، يحمل أجندة من المهام والواجبات إن أفلح في تطبيقها وأحسن في تأديتها فسيجلب الخير والصلاح لشعبه بل لشعوب العالم أجمع.على أوباما أن يدرك معنى إنتخاب الأمريكيين له ومعنى فرحة العالم فيه، أن يحسن التصرف ويسلك الطريق السوي كي لا يخيب أمل شعبه وأمل شعوب العالم التي تنتظر منه التغيير وتتطلع الى وجه جديد لأمريكا، وجه يواكب الحضارة ولا يتناقض مع المدنية والعدالة وحقوق الإنسان.

قد أدرك أوباما قطعا ذلك والدليل هو قوله في خطابه يوم التنصيب أمام الأمريكيين والعالم " إعلموا أن أمريكا صديقة لكل امّة، ولكل رجل وإمرأة وطفل يبحث عن مستقبل فيه الأمن والكرامة".

الكرامة والأمن اللذان نادى بهما أوباما في خطابه مسلوبتان عند الكثير من الشعوب والأمم وقد شاركت أمريكا وبعض أصدقائها، خصوصا إسرائيل، بهدر الكرامة وتبديد الأمن عند هذه الشعوب، فهل يدرك أوباما ما يقول، وهل يعني حقا ما يقول... ؟. هل هو رسول القسط والعدالة والإنصاف في عالم لا يعرف إلاّ القسوة والسطوة والقوة؟ وهل يقدر، وهو رجل قانون متمرس، أن يقف مدافعا عن حقوق المظلومين في هذا العالم كما دافع عن حقوق المظلومين من أبناء شعبه أمام المحاكم الأمريكية؟. هل سيبدي إنسانيته والطيبه المعروفة عنه إزاء المغضوب عليهم من شعوب هذا العالم خصوصا أبناء شعبنا العربي الفلسطيني الذين يئنون تحت وطاة ظلم الإسرائيليين وشراستهم؟. امتحان قاس وعسير ينتظر هذا الرجل الذي يجب أن يجيب عن أسئلة خارقة الحساسية والدقة والخطورة... أسئلة تتناسب مع ما وعد به وتتضارب مع لوازم التطبيق، فهل سيفلح أوباما بتطبيق ما وعد فيه رغم وعورة الطريق وصعوبة الرحلة؟. أسئلة كثيرة تراود فكر المراقب للأحداث تتطلب تدخل الوقت والزمن لمعرفة الإجابة عليها.

جذور مصائب العرب والمسلمين بل مصائب كافة شعوب العالم تمتد بشكل أو بآخر الى أرض فلسطين. فمن يريد أن يصلح الدمار عليه أن يتفحص أسبابه ومن يريد أن يعالج العلل عليه أن يفهم دواعيها. أوباما رجل أكاديمي يحترف السياسة، ولكي يكون ناجحا في عمله عليه الإستفادة من المعرفة الأكاديمية وإستخدامها في ساحته السياسية. الأكاديميون عادة لا يؤمنون بمعالجة الأعراض دون الغور في معرفة المسببات، لأن علاج الأعراض لا ينفع دون معالجة الأسباب. أوباما يدرك بأن أمراض العرب والمسلمين سببها جسم غريب شاءت الأقدار أن ينغرز فيهم ويقض مضاجعهم، كما أنه يدرك أيضا بأن إخراج هذا الجسم الغريب من جسد العرب والمسلمين يحتاج الى تداخل جراحي عظيم لا يستطيع أي جراح في هذا العالم أن يجريه أو يجرأ على إجرائه ! لكنه يدرك أيضا بأن إحتواء هذا الجسم الغريب وتطبيع الجسد عليه وتقبله رغم آلامه ووخزاته القاسية أمر ممكن على شرط أن يعرف هذا الجسم حجمه ويبقى في مكانه ولا يتطاول على الأعضاء السليمة الأخرى ويخدشها ويدمرها.

على أوباما أن يجعل إسرائيل تعرف حدودها وتعرف حجمها وترجع لكل ذي حق حقه طبقا للنواميس الدولية ولقرارات الشرعية. فهل سيشرع أوباما في الدفاع عن المظلومين الفلسطينيين كما دافع عن مظلومية أبناء شعبه وكما وعد في خطابه؟.

ورطة الأمريكيين في إفغانستان والعراق سوف تخف في وطأتها وشدتها إذا ما سعى أوباما الى إيجاد أسس جدية وعادلة لحل النزاع العربي - الإسرائيلي وتسوية القضية الفلسطينية. المأزق الأمريكي مرتبط بأسبابه مع الصراع العربي - الإسرائيلي بشكل مباشر وغير مباشر، تسوية النزاعات العربية - الإسرائيلية سوف تسهل عملية تخلص الأمريكيين من مأزق الحرب التي تورطوا فيها من جهة وسوف تخفف من الإضطرابات المالية والإقتصادية التي تعصف في البنية المالية والإقتصادية الأمريكية.

أوباما يفهم ميكانيكية سلسلة الحوادث ويدرك أن كل الطرق تخرج من أرض فلسطين، لكنه أمام جدار مانع إسمه إسرائيل، فهل هو قادر على إجتيازه وعبوره كي يبقى الطريق سالكا أمامه...كي يستطيع أن يخلّص ويتخلص، أن ينقذ نفسه وينقذ غيره، أن ينتشل شعبه وشعوب العالم معه من الإنحدار الحاد نحو الهاوية التي أن سقطوا فيها لا يعلم إلاّ الله كيفية الخروج منها والخلاص منها !؟.

دون شك الإرث الثقيل الذي تسلمه أوباما من سلفه بوش سينهك كتفه ويتعب قلبه، فالمصائب كبيرة والأزمات حادة والطريق وعر منذ البدايه! سيجد أوباما إقتصادا منخورا وشعبا مألوما وميزانية خاوية وأفواه آكلة وعيون شاخصة ودموع تنتظر من يمسحها ونفوس تتشوق الى من يواسيها... سيستمع الى نداءات تنطلق نحوه من شعبه ومن شعوب العالم.

 شعبه يطلب الرفاهية والعيش الكريم، يطلب الأمان والعمل والشعور بالطمأنينة بكل معانيها....وشعوب أوربا تريد منه أن ينظر الى مشكلات البيئة ومتطلباتها.... الى إيجاد حلول جذرية لأمراض الإقتصاد والمال التي أثرت تأثيرا حادا على مؤسسات أوربا المالية والإقتصادية. أوربا تتطلع الى تفاهم سياسي وتطابق في الرؤى أمام أمور ومشاكل معلقة منها:

 إيجاد حل سلمي ودائم في منطقة الشرق الأوسط، كيفية التعامل مع الملف النووي الإيراني، الإنسحاب المدروس من العراق، كيفية التعامل بنضوج مع ملف الحرب على الإرهاب، الموقف إزاء روسيا وتسوية الخلافات بينهم برؤى متطابقة دون الرجوع الى عهد الحرب الباردة، إنشاء أسس الدفاع الأوربي المشترك برؤى متبادلة دون إثارة حساسية الأمريكيين وغيرها من الأمور التي تهم المصالح المشتركة والتي تتطلب رؤى متطابقة وسياسة موحدة.

وعود أوباما بالإشارات للعالم العربي والإسلامي من خلال خطاب التنصيب والذي قال فيه: "إننا نتطلع الى علاقات طيبة مع العالم الإسلامي تستند على مبادىء المصالح المشتركة والإحترام المتبادل"، " سنترك العراق لأهله"، " أمننا يعتمد على عدالة قضيتنا"،" أمريكا صديقة لكل الأمم"، " العالم قد تغير وعلينا أن نتغير معه"....الى آخر ذلك من الإشارات التي تبشر بالخير واليقظة والتي تتطابق مع متطلبات المنطق ودواعي الحاجة. ما علينا إلاّ ان ننتظر بعيون شاخصة الى ما سيحصل، فعسى أن تترجم الأقوال الى أفعال....

كي تنجح أمريكا في الخلاص من مشكلاتها وتبعث الرخاء والأمن والإستقرار في أرجاء المعمورة، عليها إذن أن تقوي علاقاتها مع محيطها الخارجي، تعالج القضايا الساخنة بطرق الدبلوماسية الذكية وليس بطرق التهديد والعنجهية والتلويح بالقوة. تفطم إسرائيل "البنت المدللة" وتبعدها قليلا عن صدرها وتخفف دعمها لها كي ترعوي وتحترم المواثيق والقيم طبقا لما تتطلبه المرحلة وما يتطلبه العالم الجديد عالم التغيير الموعود! تترك أسلوب الكيل بمكيالين وتتخذ العدالة نبراسا لها فتكسب قلوب العرب والمسلمين وكل أرباب الحق والإنسانية في العالم، تخفف من تشنجاتها تجاه روسيا والصين وتتعامل معهما بالحسنى.... بهذه الأمور سيثبت أوباما للعالم بأنه رجل التغيير الموعود وأنه حقا وجها جديدا لأمريكا، بل هو صفحة جديدة من تأريخ العالم... دون شك أن قابل الأحداث سيخبرنا عن وجه الحقيقة وهل صحيح أن باراك حسين أوباما سيغيّر أمريكا وينتشل العالم من محنه أم انه هو الذي سيتغيّر عبر مسيرة الأيام والزمن...!؟.

شبكة النبأ المعلوماتية- االسبت 21/شباط/2009 - 25/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م