تطور العملية السياسية في العراق وقلق أنظمة الحكم الشمولية

 

شبكة النبأ: أثارت التجربة الديمقراطية الجديدة في العراق مخاوف عربية واقليمية ذات ابعاد متعددة، فالمعروف ان الطابع العام للانظمة السياسية في هذه البلدان ينحو الى التفرد ومصادرة رأي المواطن، أضف الى ذلك تعمير الرؤساء العرب عقودا وعقود وهم يتمسكون بكراسي الحكم برغم المصاعب الجمة التي يعيشها الشعب العربي.

أما الاعلام العربي الذي تقوده المؤسسات الرسمية في الغالب علنا او في الخفاء، فقد ظل كما يُقال ينظر الى التجربة العراقية بعين واحدة، هي العين التي لا ترصد سوى الاخطاء وتتغاضى عن الحسنات او الجانب الايجابي.

ومن هذا المنطلق كانت مخاوف الساسة العرب (وما يتبعهم من افراد وجماعات ومؤسسات) على مصالحهم امرا ورادا بل يتصدر جميع المؤشرات الاخرى التي تتعلق بالواقع السياسي العربي والاقليمي، وفي هذا الصددن، إتفق عدد من الأكاديميين والباحثين العراقيين أن الخشية العربية من الوضع العراقي ستستمر على الرغم من “المؤشرات الايجابية” التي بثتها انتخابات المجالس المحلية، فيما تباينت آراءهم بشان تعامل الإعلام العربي مع هذه الانتخابات.

 فقد قال أستاذ فلسفة الإعلام في كلية الإعلام بجامعة بغداد د.هاشم حسن لوكالة أصوات العراق، أن هذه الانتخابات “انتزعت الكثير من  المخاوف الإقليمية والعربية خاصة، وأعطت مؤشرا على الإجماع العراقي لكل المكونات بقبول المشروع الديمقراطي، والدليل على ذلك مشاركة القوى المعارضة سابقا،وهذا الايجابية ناتجة ومستمدة من ثقة المحيط العربي والمحلي إلى سلامة توجه حكومة المالكي وخروجها من إطار حزب الدعوة إلى إطار ائتلاف دولة القانون، فضلا عن  أن الحكومة العراقية نجحت بتسويق المضمون الايجابي للاتفاقية الأمنية محليا ودوليا”.

وبشأن الإعلام العربي وتعامله مع حدث الانتخابات في العراق أوضح حسن أن الرأي العام العربي كان “ضحية للدعاية المضادة، لذا لا يمكن أن تغير حتى التغطيات الموضوعية قناعات الشعوب العربية بخصوص الوضع العراقي”. مستدركا  “صحيح أن بعض القيادات العربية صارت على قناعة بالتغيير في العراق وخصوصا بعد الانتخابات الأخيرة”. مبينا أن الرأي العام العربي “يحتاج إلى إستراتيجية عراقية شاملة تتحرك المحيط إلى الخليج ،لأن الجاليات العربية في أميركا وأوربا وكل بقاع العالم،تعتمد على خبراء في الإستراتيجية والدعاية والإعلام”.

 ورأى أن  هناك “شللا كاملا في وزارة الخارجية ومفاصلها ومثلياتها التي عجزت من تأمين التواصل مع العراقيين خارج بلدهم، فكيف بإمكانهم الوصول إلى عقول وضمائر شعوب هذه البلدان، بعدما تعرضهم لحملات تضليل كبيرة من جمعيات ووسائل إعلام مختلفة”.

وخلص حسن إلى أن هناك “جملة من المؤشرات التي أوضحتها ممارسة الانتخابات قبل أيام،ومنها أن العراقيين أثبتوا تمسكهم بالخيار الديمقراطي، وارتفاع نسبي في الوعي فضلا عن ظهور بوادر تشير إلى اختيار العراقيين للمشروع الوطني العراقي ونبذ المشروعين الطائفي أو القومي، والدليل تنامي نفوذ الكيانات ذات البعد الوطني ، مقابل ذلك حدوث تراجع للكتل التي تستخدم الشعارات الدينية السنية والشيعية على حد سواء”.

إن هذه النظرة التحليلية تكاد تقترب كثيرا من واقع العرب ونظرتهم للتجربة العراقية حيث يتطلب الامر جهدا اعلاميا مرسوما وفق خطة اعلامية استراتيجية تعمل على اضهار الصورة الحقيقية للعراق وشعبه وما يتأسس في من واقع سياسي وحياتي شامل في الوقت الراهن.

وفي هذا الصدد رأى سعد سلوم وهو أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية أن “الخشية العربية مما يحدث في العراق ستستمر، بسبب هشاشة الوضع العراقي حتى الآن”.

وأوضح قائلا: لاشك أن “الخشية مستمرة مع وجود احتمالات للنكوص وظهور صيرورات للعنف بأشكال جديدة على الرغم من ملامح الاستقرار التي تحققت في الآونة الأخيرة، ومنها توقيع الاتفاقية الامنية مع الولايات المتحدة ونجاح الانتخابات، فالخشية تتحدد في انتقال الفوضى إلى دول الجوار العربي، أو أن تصبح أرض العراق منطلقا لتصدير الإرهاب، أو حتى في عودة من رجعوا خائبين على غرار عودة الأفغان العرب وتهديدهم للاستقرار في بلدانهم”.

ويضيف سلوم  كما أن “الخشية تأتي  من خوف الأنظمة العربية الحاكمة من مطالبة شعوبها بحقوقها مثلما حصل في العراق،على الرغم من عدم التصريح بذلك”. مشددا “لكن خشيتها أصبحت واضحة اليوم تماما”.

واعتبر سلوم أن التغطية الإعلامية العربية كانت “كثيفة وممتازة للانتخابات العراقية، فقد رأينا قنوات العربية،دبي،المصرية،الرأي الكويتية،أل بي سي، أبو ظبي،وحتى الجزيرة،في وقت كان فيه الرأي العام العربي منجذبا إلى تداعيات غزة”. لافتا إلى  “أن الظروف الأمنية الجيدة التي جرت في ظلها الانتخابات والنتائج الأولية التي أسفرت عنها والتي ستغير من الخارطة السياسية،سيسهم في تغيير الرأي العام العربي ايجابيا،والذي سيبدأ بملامح تحرك للاستثمارات العربية والخليجية تحديدا،عقب انتخابات ناجحة بمشاركة مراقبين دوليين من الأمم المتحدة بشكل يقطع الطريق أمام المشككين بنزاهتها”.

وأردف أن “أهم إشارة حملتها الممارسة الانتخابية، هو أن  ما يجري الآن في العراق هو المختبر لما يحدث في المنطقة العربية، فالعراق هو البلد الأول الذي يتم تغيير الشرق الأوسط من خلاله، وهو الأول في حكم الأغلبية فيه من خلال صناديق الاقتراع وليس من خلال سلطة السلاح، وهو البلد العربي الأول الذي يحكمه رئيس من أقلية قومية، مع ما يحمله من رمزية بوصفه عاصمة الخلافة الإسلامية”.

وختم سلوم أن “التجربة الانتخابية تدلل أيضا على أنها تظل حدثا فريدا سيحمل رياح التغيير لمنطقة بقت عصية على مثل ذلك خلال عقود طوال”.

إن اشارة سلوم الأخيرة هي مبعث الخوف المتصاعد من التجربة العراقية لدى عموم الانظمة العربية ذات الحكم الرئاسي المتفرد او غيرها ممن يضع الشعب وآرائه جانبا ويتمسك بالسلطة تحت شتى الذرائع والتبريرات. في حين يرى البعض ان رياح التغيير ستعود على العرب بالخير حيث ينتظر كثيرون أن تنعكس ايجابيات التجربة العراقية على بلدانهم.

وفي هذا الصدد قال الباحث والكاتب جمعة عبدالله مطلك “لا توجد لدى الأنظمة العربية مما يجري في العراق خشية فقط، وإنما هناك أمال تعتني بها النخبة الليبرالية العربية التي تنتظر نتائج معادلة المختبر العراقي، إذ أن السلطات التقليدية المتحكمة سياسيا ومعرفيا لن تعدم أسلحة تواجه بها نتائج تجربة الانتخابات العراقية هذه، لسبب بسيط أن هذه النتائج سوف تؤثر على بنياتها التقليدي وتقلل من قدرتها على البقاء”.

واضاف أن “العفوية التي رافقت أداء الليبرالية العربية والإسلامية سوف تجد في نتائج الانتخابات العراقية دافعا وحافزا ايجابيا نحو تنسيق الجهود للوصول إلى إستراتيجية إنقاذ وطني تشارك فيه القوى الإسلامية المدنية واليسار الوطني وحتى القوميين الليبراليين،الذين ينطبق على حركتهم بامتياز مفهوم الكتلة التاريخية”.

وعن الإعلام العربي ذكر مطلك  “كنا نسمع خبرا يتكرر مئات المرات مثل انفجار سيارة مفخخة أو ناسفة في بغداد، فيما لا يحظى حدث محوري بمستوى نجاح الانتخابات بالاهتمام المطلوب، بمعنى أن هناك قناعات مسبقة يتعامل معها إعلام مسكون بنفس طائفي وشوفيني لا يمكنه رؤية ما يحدث على حقيقته، لتكون المفارقة أن الاستفتاءات التي أجرتها الفضائيات أوضحت نسبة التعاكس بين آراء العراقيين المتفائلة بحدود 80% بنتائج الانتخابات، وبين آراء الشارع العربي الذي يعبر عن مكنونات الإرث وليس عن حقيقة الواقعة”. مستطردا ” فالإعلام  العربي لديه أفكار مسبقة عن كل ما يحدث في الداخل العراقي حتى إذا جاءت النتائج مفاجئة وبهذا الزخم من الإيجابية والتكامل،فإن أسلحة التشكيك جاهزة وأقلها صرف الاهتمام عن الحدث العراقي وعده ثانويا”.

وتابع أن “أهم الإشارات على الإطلاق، التي تلقاها العرب بإجراء العراق انتخاباته بنجاح، هي أن العراقيين قد خرجوا من عنق الزجاجة وان العملية السياسية قد امتلكت ديناميكيتها الداخلية التي لم تعد رهنا بمساعدة أطراف أخرى، وان كانت هذه الأطراف هي الأصدقاء الاميركان”.

 وذكر أن “فحوى الرسالة التي قدمها الناخب العراقي هي قدرة العقل والضمير العراقيين على رؤية الحق والدفاع عنه، وليس أعظم من دفاع جماعي عن الحق مثل انتخابات تجري في ظروف عسيرة ويرافقها كم من الفرح والسرور ما جاوز الصعوبات.

وخلص المطلك أن “جملة من الرسائل البليغة قد بثتها الممارسة الانتخابية الأخيرة،وهي انه …لا حرب أهلية، لا تنازع، لا شقاق،وان سقف الحرية كاف للعقل كي يبصر طريقه”.

وحين نتفق على ان التجربة العراقية هي عنصر ازعاج وتخوف لدى الكثير من الانظمة السياسية بسبب تأثيرها الديمقراطي الايجابي على مصالحهم، فإن الانظمة العربية على وجه الخصوص لن تكف عن النظر بخشية لما يدور في العراق ونجاحه المتصاعد سياسيا.

إذ يرى الباحث عبد الجبار خضير عباس أن الأنظمة العربية “لن تتوقف عن وضع المعرقلات إزاء ما يجري من تقدم في العراق، فما يجري هو بالضرورة يتقاطع مع سياسات ومصالح هذه الأنظمة التي رضعت الاستبداد من قرون ولم يهزها ما يجري من تحولات وتغيرات في العالم، كونها  أنظمة استفادت من إشاعة هذه الثقافة بوصف شعوب المنطقة غير مؤهلة لبناء الديمقراطية”.

ويضيف عباس لوكالة قائلا: أن الشعوب العربية “تعيش مرحلة الطفولة في السلم الديمقراطي، أو بالاستفادة مما يشاع  في الأدبيات الغربية بأنها شعوب عصية على التقدم كارهة للحضارة إلا إن ما جرى سيجبرها على أن تبحث عن سبل ووسائل أخرى، بالتعامل مع العراق بعد أن كشفت الانتخابات زيف ما كانت تروجه، وستجبر على تقديم بعض التنازلات في جانب حقوق الإنسان والديمقراطية”.

واستدرك “ولكن بشكل مقنن، لكنه سيفتح الباب للقوى المعارضة بالحراك في هذا الاتجاه وكسب المزيد من التنازلات بمرور الزمن، وكل تقدم في مجال تعزيز وترسيخ بناء الديمقراطية في العراق سيأكل من جرف هذه الأنظمة”.

وعلى صعيد الاعلام العربي وطبيعة تعاملاته مع الوضع العراقي قال عباس: إن الانتخابات الأخيرة  “أجبرت القنوات العربية أن تضبط إيقاعها على حراك ما يجري من تنظيم وإقبال وحماسة في القبول بصندوق الاقتراع كفيصل لتحديد الزعامة السياسية وفرض الإرادة، ولو إن ما حدث هو انتخاب مجالس محافظات وليس مجلس نواب، إلا إنها أعطت رسائل عديدة بالصورة أخرست تقولات وأخبار هذه القنوات التي كانت ترسم لبغداد صور مرعبة وتقدمها وكأنها ساحة حرب”.

من هنا يمكننا القول بوجود المخاوف ازاء التجربة السياسية في العراق والنظر اليها كونها عنصر ازعاج لاسيما من لدن الانظمة العربية الشمولية مما يدفعها لاستخدام ادواتها كافة من اجل كبح الخطر القادم نحوها، غير ان جميع الدلائل المستقاة من تجارب التأريخ تقول بأن التغيير قادم وما على الشعوب المعنية سوى الحذو حذو الشعب العراقي الذي دللت خطوته الانتخابية الأخيرة على انه قادر على التحكم في اختيار قادته على عكس مايحدث في دولهم حيث يتحكم الساسة بمقدرات ومصائر تلك الشعوب.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 14/شباط/2009 - 18/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م