شبكة النبأ: عند تصفح النصوص البصرية
لمحمد رسول البستاني تتولد في الرأس اسئلة تترى عن الفن غرضا ووظيفة
وجدوى فالفنان تاخذه سنة الدأب والعمل المتواصل بغية تحقيق اعلى مستوى
من تفكره وشعوره اثناء مناجاته لسطح اللوحة الابيض مطلقا غزلان روحه في
فلوات ابداعه المتناهي, متصفحا سفره الذي غدا مثل طبقات متراكمة وحين
يفتش في مستوى معين من تلك الطبقات يجد امامه خزائن اللقى محفوظة في
ذاكرته المتوقدة, وحين يتوه في عالم التخيل مستجلبا المعنى الكامن في
سره فانه كمن يقبض على طريدته. لقد وجدنا الفنان متوزعا في عدة
اتجاهات, واقعية وتعبرية ورمزية وتجريدية. فكيف يكون ذلك؟
ان التجربة الطويلة المسوغة للخبرات المتنوعة في مجالات الرسم
تنطوي على الفهم المسبق للشكل وسبل الاداء اللوني والخطي وابتكار
المضامين العصرية المتمتعة باثاراتها وتغايرها. يبدو لي ان مهمة اقتفاء
اثر الفنان سهلة علي لانني وفي وضع متماه استطعت محاورة الفنان لاشفاها
ولاكتابة ولكن نصوصه البصرية افشت لي باسرارها وتحدثت لي عن الذي سكت
عنه الفنان او ذلك الذي لم يخطر بباله. اننا نتشابه لاننا تخرجنا من
رحى الحياة العراقية بكل تاريخ الاسى وبكل الصراحة الخجولة والضحكات
التي تخفي الما مرا وحزنا عميقا.
اعتقد ان الفنان حين يرسم فانه لايمني نفسه بالتمتع وانما يعمل على
ابتكار همومه وسنواته المغادرة وذاكرته عن الاماكن الغافية على طنين
البعوض وعن الحب الاول، انها رجع للصدى فكلما حفر في طبقة مخيلته
استنفرت طبقة اخرى تعلن عن الوضوح, انها تتنامى وتقفز الى حيز وجودها
بمجرد دغدغة في مفاتن الذاكرة.. لقد اشرنا ان الفنان يلج في عوالم
الواقعية والتعبيرية والرمزية والتجريدية فماذا نقصد؟
ان الميولات التجريبة في الفن تهب الفنان حق المغامرة وتخطي
السياقات السائدة فنا وتنظيرا وصولا الى الحلول الجوهرية المعنية
بالكينونة وتجسيد الفردانية الا ان الماخذ على ذلك يكمن في النظرة
الشمولية والموسوعية المنفتحة على كل الاشياء دون حصر فالحداثة
ومابعدها افرزت الجوانب الشخصانية بمنائ عن التزع في شواغل لاحدود لها
فالمسارات العصرية في الثقافة والاداب والفنون تؤول الى الموقف الحصري
المؤيد بالمعرفة المتجددة.
ساضع نفسي امام امتحان لعلني استطيع النجاح فاقول ان اغلب مرسومات
محمد رسول البستاني وعلى الرغم من تباينها ومستوياتها المختلفة فانها
مرسومات صغيرة الحجم لايزيد اكبرها عن المتر مربع وان اغلبها رسومات
ورقية لاتزيد عن 30 في 30 سنتمتر وان اغلب الرسومات منفذة بالوان مائية
على ورق قليل الامتصاص للماء ربما تقدم السطوح الورقية اغراءات تدفع
بالفنان لكي يسكب عليها مشاعره الانية بالالوان الاحادية او المقتصدة
ولانه فنان مؤهل يعرف مايريد فان ألة التنفيذ فرشاة او قلما تتحرك
بسرعة مبقية على خصائص الالوان المذابة بالماء لتعطي ذالك الدفق الموحي
بالسيولة والنداوة في اشارة الى اللحظة الحاذقة التي الهمت الفنان
وبصرف النظر عن ابعاد اللوحة فالخلاصة تؤدي حتما الى قيمة الموضوع
المجترح من قصوده وغاياته، رسم الفنان كائنات بشرية متوحدة , متقرفصة
تستكين على مدرجات متقمصة شخصية التمثال وفي هذا النص البصري انفعال
داخلي ورغبة جامحة للامساك بالصور المعبرة عن الوحدة والعزلة والوحشة
وفي الجانب الاخر جسد الفنان موضوعات تروي عن لغة الجسدحيث الاثارة
والشبق ,افخاذ تنطبق على الافخاذ وافواه تلتصق على الافواه وعيون
تتخاطر نظراتها اعتقد بان محمد رسول البستاني مغرم بالفنون المسرحية اذ
اننا نتلمس في مركزية اغلب اللوحات قيمة الموضوع المؤيد بتسليط الاضاءة
المركزة بحيث تبدو وكانها لقطة مسرحية ناهيك عن ادراكه لقيمة الاقنعة
المسرحية وحين يظهر وجه الضرف والابتسامة وسرعة البديهية والسرور
المعلن عنه بابتسامة ودودة فانه يخفي قناعا اخر عن الالم المر الذي
يعتصر القلب ويقبض المشاعر.
اجد ان الفنان يستطيع رسم اي شئ بيد ان ذلك لايكون عبر نظام بصري
محكم فاذا تحركت انامله واذا رسم رمزا او تجريدا مطلقا فانه ينسلخ عن
عالمه متناسيا مايحف به فلحظة الابداع تاتي حين يشعر بصداع خفيف في
رأسه يعرف عندئذ بانه قد اتصل بنجمته رسم اجسادا متشظية, ولحظات
لالتحام فجوانب الرسم التعبيري تفضح اهواءه كما ان رسوماته الرمزية
والتجريدية تسمح له مزاولة اللعب والاكتشاف.
ومما يشد الانتباه اليه رسوماته الواقعية, صور الاشخاص ومناظر
الطبيعية فتلك الرسومات تزدهي بالمهارات وتحقيق الضبط والمشابهة
والنظام المحكم في الية الرسم فالفنان يمازج الالوان على سطح اللوحة
بشكل سريع وللسرعة دوال احترافية ولكن نصوع الالوان وبريقها يدل على ان
الفنان يعمل بحرية حريصة لانه يرسم كل مايريد برغبته الذاتية بعيدا عن
وصايا الاخرين وطلباتهم ومفهوم الرسم هنا يعني تمثل لآضاءات داخلية
تبرق في وجدانه وعاطفته وعقله وكانها اتية اليه من الانجم البعيدة.
ان حقائق الرسم لدى محمد البستاني لاتشبه حقائق الحياة من الخارج
ولكنها تشبه الهواجس الشعرية بكل مخاوفها وخجلها وصراحتها والقها من
الداخل لقد رأيت فنا متنوعا على الرغم من التيابن، ذلك الفن المشيد على
اسلوب فردي مميز لان الاسلوب لايعني انتقاء تجربة ناجحة وترديدها
باستمرار بل يعني شخصية الفنان بذاتها ولذاتها بحسب الناقد والمفكر
(بلينسكي) حيث قال: الاسلوب هو الرجل بذاته.
* ناقد ورئيس تحرير مجلة تشكيل
tashkeelart@yahoo.com |