السياسة الامريكية وإشكالية البقاء:
واجهت السياسة الامريكية قضية النشوء وإشكالية الاستمرار منذ حروب
التحرير(1775 – 1783) ضد الامبراطورية البريطانية فالصراع كان في
الاغلب صراعا انكلوسكسونيا تطور وفقا لموجات الهجرة المتلاحقة بعد وصول
المهاجرين إلى الارض البعيدة، غير أن حرب التحرير التي قادها جورج
واشنطن (ت 1799) ضد جيش الحكومة البريطانية قد وضعت الشكل النهائي
للولايات المتحدة الامريكية، ومنذ ذلك الحين والسياسة الامريكية تشعر
أن عملية الاستمرار والبقاء لا تتحقق إلا عبر الانتصار على الاعداء في
حين أن حرب الاستقلال تفترض بداية التاسيس لدولة تستقر سياسيا
واقتصاديا لتحقق استمراريتها، فالى الحرب الامريكية الاخيرة في العراق
تكون الولايات المتحد قد استعملت جيشها أكثر من ثلاثمائة مرة خلال
المأتي سنة الماضية مما يعكس الاتجاه العسكري في العقيدة السياسية
الامريكية باعتباره الاتجاه الاول لحل المشاكل السياسية والصراعات
الخارجية، فالادارة الامريكية التي فرضت نفسها على العالم الخارجي
ارادت أن لاتبقى امريكا مجرد جزيرة بعيدة يحكمها المهاجرون.
فلسفة البحث عن عدو:
بعد حرب التحرير ظهرت نزعة في السياسة الامريكية تتبنى القوة
العسكرية باعتبار ان النصر الذي حققه جورج واشنطن كان نصرا عسكريا قبل
أن يكون سياسيا، ومن هنا كان هناك أكثر من عدو في السياسة الامريكية في
الداخل والخارج، وقد تكرست هذه الفكرة خلال وبعد الحرب العالمية
الثانية، فبعد أن كانت اليابان العدو الامريكي الذي تم تدميره بقصف
مدينتي (هيروشيما وناغازاكي) بالقنابل الذرية سنة (1945) معلنة نهاية
الحرب العالمية الثانية وجدت الولايات المتحدة انها ستواجه فراغا
سياسيا خلقته القوة الفارطة فانقلبت على الاتحاد السوفياتي حليف الامس
ليصبح هو العدو تحت شعار محاربة الشيوعية، وحتى بعد قيام الثورة
الايرانية وانتصارها سنة (1979)، بعد عودة الامام الخميني لم تعلن
الولايات المتحدة أن إيران عدوتها صراحة حتى بعد ازدياد نشاط الفكر
الاسلامي في العالم عبر الثورة الاسلامية في أيران، فالعدو من وجهة نظر
الادارة الامريكية كان الاتحاد السوفياتي فقط مما أدى إلى استغلال
التطرف الاسلامي (حركة طالبان) لضرب السوفيات في افغانستان على الحدود
الايرانية.
وبعد نهاية الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينات من القرن الماضي حدث
فراغا في السياسة الامريكية فاعتبرت الادارة الامريكية أن إيران
الاسلامية هي العدو الاول للولايات المتحدة، وارادت ان تقنع شركائها في
حربي العراق وافغانستان بالاستعداد لمواجهة أيران، غير أن تطورات
الصراع والخسارة الامريكية في العراق واخفاقاتها في أفغانستان ثم هزيمة
اسرائيل على يد المقاومة الاسلامية (حزب الله ) في صيف سنة (2006)
وخسارتها الان في حربها الظالمة على غزة أفقد الادارة الامريكية
مصداقيتها امام المجتمع الدولي، من هنا فقد سعت إدارة الرئيس الامريكي
السابق (جورج بوش) إلى تحويل أنظار العالمين العربي والاسلامي بل
والمجتمع الدولي تجاه إيران في محاولة منه لتقديم إسرائيل باعتبارها
دولة ديمقراطية متحضرة ( من مفهوم أمريكي صهيوني صرف) مقابل إيران
الاسلامية التي تحاول الادارة الامريكية تقديمها للعرب وللغرب على
السواء كدولة راعية للارهاب متجاهلة أن أكثر من 85% من أرهابيي العالم
هم سعوديين والباقي هم صناعة سعودية بموافقة مصرية أردنية على أقل
تقدير فابن لادن سعودي والظواهري مصري والزرقاوي أردني.
من هو العدو؟
لعل خطاب الرئيس الامريكي السابق (بوش) بعد أحداث 11/ سبتمبر/2001
كشف عن ما يمكن أن نسميه (مبدء بوش في تفسير العدو) فهو يعتبر أي دولة
أو منظمة أو حكومة أو حتى فرد عدوا للولايات المتحدة الامريكية ما لم
ينصاع للقرار الامريكي، بإعتبار قوله : ( إن لم تكن معي فانت ضدي ) إن
كان بوش يسمح لنفسه بتفسير العلاقات الدولية من خلال هذا المنظور الضيق
ذو الاتجاه الواحد، فهو عليه أن يقبل تفسير الاخرين الذي يتبع نفس
المنهج، وبذلك تصبح الولايات المتحدة الامريكية عدول محتملا لكل من يقف
على الجانب الاخر من المعادلة، فالولايات المتحدة عدوي لانها لاتقف مع
العرب، الولايات المتحدة عدوي لانها تعادي مفاهيمي الفكرية في أصالة
الخلق والوجود، الولايات المتحدة عدوي، لانها تقف بقوة وتساند من
يذبحني.. وهكذا، فلايمكن تفسير أية قضية أعتمادا على رأي واحد وبالتالي
يمكن لنا تفسير مفهوم ( من هو العدو ) وفق إتجاهات غير إتجاه الادارة
الامريكية، فان كان البيت الابيض ومنظمة ( إيباك ) تستند إلى تفسيراتها
الخاصة من منطلقات تحدد مصلحتها الذاتية، فان الطرف الاخر يمتلك نفس
الحق في التفسير أنطلاقا من مصلحته الذاتية باعتبار أن (قيمة الحق)
عامة، اما تقييدها وفق التفسير الامريكي فهو غير منطقي ولا يمثل إلزاما
للاخرين، ووفق هذه الطروحات تصبح الولايات المتحدة هي (العدو رقم واحد
لكل المجتمعات الدولية).
لماذا إيران وليست إسرائيل؟
كان ظهور اسرائيل فكرة توراتية وليست رؤية سياسية، ووفق المنظور
الديني فان بقاء اسرائيل واستمرارها خاضع هو الاخر لتفسير توراتي، وما
ذلك إلا نتيجة للنزعة الدينية التوراتية التي شكلت تاريخ الصراع
اليهودي مع الامم، فالمؤرخون اليهود أعتبروا: " أن الحروب أهم الوقائع
التاريخية الجديرة بالتوثيق"، وقد تبنى الكثير من مؤرخي الولايات
المتحدة هذا الاتجاه أو هذه النزعة (التاريخانية) حتى صار لكل رئيس
أمريكي حربه الخاصة، لكن الموقف الاسرائيلي من الحرب لم يخرج عن النظرة
التوراتية في تحقيق حكم العالم، ولما كان المجتمع الاسرائيلي يفتقر إلى
القدرة في بناء أطر تاريخية واجتماعية خارج المنظور التوراتي، وهو
مجتمع غير مترابط وجبان بطبيعته (نتيجة لتاريخ الشتات) إلا أنه يتصف
بالوحشية في التعامل مع الاخر، وقد أعترف الفلاسفة بهذه الميزة
والخصوصية التي شكلت منهج السلوك الفردي والاجتماعي للمجتمع الاسرائيلي
حتى قال فولتير: " هل إختار الله بعنايته هذا الشعب الوضيع ليكون شعبه
المختار، إذا انتصروا قتلوا النساء والاطفال في نشوة جنونية، وإذا
هزموا تجدهم في الدرك الاسفل من الذل والهوان " / راجع الرسائل
الفلسفية.
لاشك أن اليمين المتطرف الذي ساد في الاتجاهات الفكرية الاوربية منذ
أواخر الخمسينات قد إنساق تماما وراء النزعة التوراتية للاسرائيليين
فأخذ يبرر السلوك الاسرائيلي ضد التوجهات العربية والاسلامية، لكنه في
تلك المرحلة حول الصراع من صراع ديني إلى صراع قومي، فتم تحديد
المواجهة بين العرب واليهود باعتبارها مواجه قومية، ولم يكن معظم
الساسة في اسرائيل راضين عن هذا التفسير للصراع لانه يقف على النقيض من
التطلعات التوراتية ببناء (الهيكل) المزعوم وعودة دولة داود، ومن هنا
كان الاتجاه السائد في إسرائيل هو العودة بالصراع إلى كونه صراعا دينيا
بحتا بين اليهودية والاسلام، ولم تتحقق هذه الرغبة إلا بعد نهاية
الاتحاد السوفياتي الذي مثل الشيوعية واليسار، والتحول نحو إيران
الاسلامية التي مثلت في التاريخ المعاصر نهضة إسلامية واقعية رسمت
الملامح النهائية للمستقبل الاسلامي وصراعه ضد الطغيان، وفي هذه
المرحلة نجد أن الموقف الامريكي والاسرائيلي من الصراع كشف عن تحولا
كبيرا في مفهوم الصراع مع الشرق، فتم الخروج من المأزق القومي إلى
الموقف الديني من جديد لصالح الاتجاه التوراتي، ففرضية إنتصار إسرائيل
على المجتمع المسلم كانت ستعني الكثير في تحديد مستقبل إسرائيل ككيان
وقوة عسكرية.
من هنا قادت الولايات المتحدة ومعها المجتمع الغربي حملة لدك
الاسفين في الجسد الاسلامي، مرة عبر تفسير الارهاب الامريكي إسلاميا،
وأخرى لفك العلاقات الاسلامية - الاسلامية عبر إذكاء الصراع الشيعي –
السني، وإيهام المجتمع الاسلامي السني بأن العدو ليس أسرائيل بل الشيعة
بقيادة إيران، ثم لتصبح إيران هي العدو الاول من المنظور الامريكي
الاسرائيلي وهو ما انساقت إليه ما تسمى حاليا بدول الاعتدال (السعودية
مصر والاردن) أضافة إلى دول الخليج ودول شمال افريقيا، وهو ما ظهر جليا
في الحرب الاسرائيلية على غزة.
قلنا سابقا أن أوباما لايختلف عن بوش في السياسة الخارجية مادمت
تعتمد على تحقيق مصلحة أسرائيل من وجهة نظر أمريكية، وهاهو النائب
الجديد (بايدن) يكشف منهجية السياسة الامريكية الخارجية في عهد الرئيس
الامريكي أوباما حيث قال فيما يخص أيران كما جاء في البي بي سي:
" واشنطن مستعدة للتحدث الى الايرانيين والى ان تعرض عليهم
"الحوافز الجدية والمشجعة، وفي حال لم تتجاوب ايران فلن يكون امامها
الا خيار "الضغط والعزلة".
هذا التصريح لايختلف عن منهج بوش بل هو أستمرار لسياسة بوش التي
أملاها عليه الرئيس الاسرائيلي ومنظمة (إيباك)، من جانب آخر نرى أن
بريطانيا التي اصبحت تابعا للسياسة الامريكية تقول على لسان وزير
خارجيتها (ديفيد ميليباند) على هامش مؤتمر السياسات الامنية في ميونخ:
" اعتقد أن علينا النظر في تفاصيل الادعاء بان إطلاق القمر الصناعي
هو جزء من برنامج مدني. لكن بالنظر إلى الواقع، فان الرئيس الأميركي
باراك أوباما قال انه سيمد يده إلى إيران إذا أرخت قبضتها أولا، ولكنني
لا اعتقد أن إطلاق هذا القمر الصناعي يصب في خانة إرخاء قبضتها هي أولا
".
وهو رأي آخر يجافي الحقيقة ويصب في محاولة توجيه الانظار نحو إيران
وتصويرها للعالم بانها دولة أرهابية في حين أن أطلاق قمر صناعي مسالة
علمية بحتة فهل تستطيع كل من الولايات المتحدة واسرائيل وبريطانيا
وفرنسا وروسيا والمانيا والصين الادعاء بانها لاتملك أقمار تجسسية تجوب
الفضاء وتلاحق كل صغيرة وكبيرة على سطح الارض؟ أين هي حقوق الانتاج
العلمي؟ ولماذا إذا ارادت أيران أن تحقق شيئا يقف العالم بوجهها؟ هل
وقف العالم بوجه أسرائيل وهي تملك مأتي رأس نووي وعدد من الاقمار
الاصطناعية التجسسية؟ هل حاول البرادعي مجرد محاولة في الضغط على
إسرائيل بشأن صواريخها وبرنامجها النووي ونحن نراه يلهث وراء القرار
الامريكي لادانة أيران ويقول بما تأمره سيدته السابقة (رايز)؟
ألانقلاب:
من الملاحظ في السياسة الامريكية انه لايوجد أصدقاء بل شركاء مصلحة
أو أعداء، وهو نفس المبدأ الذي تتعامل به مافيات تجارة المخدرات وتجارة
الاسلحة، فلا يوجد شيء يمكن اعتباره مفهوما للصداقة، ومن تسميهم
الولايات المتحدة حاليا بالحلفاء في المنطقة أو بدول الاعتدال
(السعودية مصر والاردن) هو في الحقيقة مبدأ يقوم على تجريد هذه الدول
من مقوماتها القومية والدينية ومن علاقاتها بالشعوب ومصالح الشعوب، ومن
ثم تقوم هذه الدول باسم الاعتدال بتقويض كل العمل المشترك لصالح القضية
الامريكية وخاصة فيما يتعلق بعلاقات العرب والمسلمين باسرائيل، لكن في
المقابل تنسى هذه الدول الخاضعة للسياسة الامريكية أن من أهم مبادي هذه
السياسة هو مبدأ (التخلص من الشركاء الضعاف) وهو مبدأ استعملته
الولايات المتحدة مع أخلص واقوى شركائها بعد أن حل بهم الضعف أو أنتهى
عمرهم الافتراضي مثل شاه إيران (محمد رضا بهلوي) سنة (1979) لتقضي على
حكم الاسرة البهلوية، كما تخلصت من اعتى شركائها في المنطقة (صدام
حسين) (2003) لصالح حكم يبقى منشغلا بذاته عقود طويلة، وقبلهما تخلصت
من عميلها في مصر (محمد أنور السادات) سنة (1981) لصالح عميلها الحالي
(مبارك)، ومن هنا لم يكن صعبا عليها في أن تتخلص من عميلها العتيد ملك
الاردن (حسين بن طلال) سنة (1999) بعد أن صارت عمالته عبئا على السياسة
الامريكية في المنطقة في محاولة لتجديد شباب عمالتها وضخ دماء شابة في
عروق الخيانة.
إن سياسة الانقلاب على الشركاء جزء أصيل من السياسية أمريكية
الخارجية وما بقاء بعض الملوك والامراء الحاليين في الخليج وشمال
أفريقيا إلا لان الزمن الافتراضي لحكمهم لم ينقضي بعد ولكن ذلك لايعني
نفي إمكانية التسريع في نهايتهم، فالحكم السعودي أول المرشحين على
قائمة نهاية الزمن الافتراضي وفقا للتقارير الاستراتيجية، فالسعودية
اصبحت عبئا على السياسات الامريكية - العربية بعد أن استنفذت الادارات
الامريكية السابقة كل أمكاناتها، وقد أشار الوزير والسفير السعدوي
(بندر بن سلطان) إلى هذا الموضوع محذرا البلاط السعودي ودول الخليج من
قرب نهاية حكم أسرة آل سعود، ودخول الامارت الخليجية المرحلة الاخيرة
من عمرها الافتراضي، وبالتالي فان الانقلاب متوقع وقريب وهو لايحتاج
إلى الكثير من المبررات في السياسة الامريكية التي تعتمد التغيرات
اللامتناهية مقابل عدد محدود من الثوابت وعلى رأس هذه الثوابت أسرائيل.
في النهاية لابد من الاشارة إلى قضية أوباما، فالطروحات التي أدت
إلى وصول أوباما للسلطة ليست نتاجا لقوة أو ديمقراطية الولايات
المتحدة، بل هي أحد أكبر المؤشرات على بداية الضعف والنخر في جسد هذه
الدولة، ففي السياسة الامريكية ليست المشكلة في لون البشرة ولو أن
الاتجاه الغربي كان يقول بضرورة أنتصار ما يعرف باسم (الوحش الاشقر)
غير أن هذه النظرة ليست من الثوابت القاهرة فالمهم في شخصية الرئيس
الامريكي وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية أن يكون منفذا لرغبات
اللوبي الصهيوني وما عرضة أوباما حتى هذه اللحظة لايخرج عن هذا الاطار
وهو ما صرحت به وزيرة خارجيته ونائبه في قضية ملامح الادارة الجديدة
فعلى اللاهثين وراء أمريكا ان يدركوا هذه الحقيقة.
* المملكة المتحدة – لندن
[email protected] |