الرمز والسلطة في الانتخابات العراقية

جميل عودة

لست وحدي من أبدى استغرابه للنتائج التي حصلت عليها قائمة "ائتلاف دولة القانون" برئاسة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في انتخابات مجالس المحافظات في 31/1/2009 ، فقيادة القائمة نفسها كانت مندهشة أيضا، مع قناعة جميع القوائم الانتخابية أن نسبة التزوير كانت محدودة؛ إن لم تكن معدومة أصلا، وأن التصويت لم يجر على أسس دينية أو طائفية قط.

وبحسب تقارير مراقبين دوليين ومحليين فان نجاح انتخابات مجالس المحافظات وتصويت العراقيين للقوائم الانتخابية بحرية تامة، هي بداية قوية لتغيير خريطة القوى السياسية الحاكمة منذ 2003 ، فهناك تقدم ملحوظ لقوى سياسية وتأخر أخرى، وهناك قوى مستقلة قد شقت طريقها إلى مراكز صنع القرار السياسي المحلي، وهي تجهز نفسها للوصول إلى مراكز القرار في بغداد في الانتخابات البرلمانية المزمع إجرائها نهاية العام الحالي.

المراقبون السياسيون في تحليلاتهم لفوز قائمة "ائتلاف دولة القانون" بغالبية مقاعد المحافظات الجنوبية والوسطى وبغداد، طرحوا أكثر من رأي وتفسير، منها الدعاية الإعلامية الضخمة التي نزلت بها للشارع العراقي أثناء الحملة الانتخابية، ومنها أن قيادة دولة القانون قد سخرت إمكانيات الدولة وأموالها لصالحها بما فيها القنوات الفضائية العراقية، ومنها إصرار رئيس الوزراء العراقي لدعم مجالس الإسناد التي أسندت قائمته، ومنها القضاء على الإرهاب والإرهابيين وتحقيق الاستقرار النسبي في المناطق الساخنة، ومنها قيام رئيس الوزراء بإضعاف القوى السياسية المنافسة له والمؤثرة في الشارع العراقي لاسيما أحداث البصرة ومدينتي الصدر والشعلة في العاصمة بغداد، ومنها موقفه من القوى السياسية الكوردية في ملف كركوك والمناطق والمتنازع عليها والذي وصفه البعض بـ"الموقف الوطني" وآخرون بـ"الموقف القومي" وغيرها.

بحسب أميت بالي في مقالها الموسوم بـ"الانتخابات الإقليمية العراقية... اختبار للمالكي" أن "اللقاءات التي أجريناها في مختلف أنحاء البلاد مع ما لا يقل عن 100 شخص، أظهرت الدعم الواسع الذي يتمتع به المالكي، والذي يرجع في معظمه إلى أساليب القبضة الصارمة التي لجأ إليها لكسر شوكة الخارجين عن القانون، وهي الأساليب التي أقلقت ولا تزال العديد من حلفائه. والشيعة من الأشخاص الذين استطلعنا آراءهم، قالوا إنهم يؤيدون المالكي، وهو ما ينطبق أيضاً على السنة من بين هؤلاء الأشخاص والذين يرون فيه وعلى نحو متزايد قائداً غير طائفي.

وقد تمكن المالكي من بناء هذه الشهرة خلال العام الماضي من خلال شن هجمات عسكرية ضد مليشيا رجل الدين الشيعي ''مقتدى الصدر''، الذي كان حليفاً له -للمالكي - من قبل... وأيضاً من خلال التهديدات الحادة التي وجهها للأكراد الذين يشكلون جزءاً من ائتلافه الحاكم."

قد يكون كل ذلك صحيح ومؤثر في نسبة الأصوات التي حصدتها قائمة رئيس الوزراء العراقي، ولكن أن يتحول أعداء المالكي السياسيون ومبغضوه بالأمس إلى ناخبين لقائمته اليوم، وبهذا العدد الكبير من الأصوات، هو ما لا يمكن تفسيره بأحد تلك التفاسير،  فذهاب أكثرية أصوات مدينة الصدر، أكبر مدن بغداد، والمغلقة حتى وقت قريب لتيار الصدر، أمر مثير  للدهشة والاستغراب، وكذا حصل في البصرة والديوانية وكربلاء ومدن كانت ساخنة.

أظن أن هناك أشياء لم نتنبه لها في الوضع العراقي، كانت مؤثرة في نتائج الانتخابات الماضية وهذه الانتخابات، وأن هناك مؤثرات خفية في ذهن الناخب العراقي تظهر فجأة فتقلب المعادلة السياسية رأسا على عقب،  هذه المؤثرات لا تنحصر في تاريخ الأحزاب السياسية، ولا في دينية أو علمانية الشخصيات المرشحة، ولا في حجم الإنفاق المالي للحملة الانتخابية، ولا في انتماء الناخب لهذه المحافظة أو تلك، ولا في حسبه ولا نسبه..

في عام 2005، في زمن الحكومة المؤقتة التي ترأسها اياد علاوي، استطاع هذا الأخير أن يحصد أكثر من "40" مقعدا للجمعية الوطنية، وكان هذا مثار استغراب العراقيين السياسيين في حيينها، فكيف تمكن رجل علماني المذهب، اعتاد أن يعمل خلف الكواليس دائما، أن يحصد كل هذه المقاعد في ظرف كان الصراع المذهبي والعنصري على أوجه.

هناك موظفة عراقية من أصول كردية، تعيش في بغداد، كانت قد أدلت بصوتها لصالح القائمة العراقية، سألها صديقي، لماذا انتخبت القائمة العراقية؟ فقالت استلمت هدية عيدين من علاوي. وسألت أحد المواطنين، لماذا انتخبت قائمة الدكتور علاوي؟ فأجابني رجل قوي تعجبني شخصيته؟ وقال أحد أقربائي، المنتسب إلى الحرس الوطني، أنه انتخب علاوي، لأنه زيد راتبه ورفع معاناته؛ وهكذا صوت منتسبو الشرطة أيضا. 

الآن تذكرت جيدا، في أيام الحكومة الانتقالية، عندما كان إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء العراقي في وقتها، وعندما كنت مرشحا للبرلمان على إحدى القوائم الانتخابية 2006، قلت لجدي لامي، من تنتخب يا جد؟ أجابني على الفور: الجعفري!، قلت له إن الجعفري مرشح على بغداد، فقال انتخب قائمته.

 والسيد إبراهيم الجعفري نفسه، لو أتاح له حلفائه السابقون فرص البقاء على سدة الحكم في العراق، لتمكن حزب الدعوة الذي كان يقوده حتى وقت قريب، أو تياره السياسي الحالي، والموسوم بـ"تيار الإصلاح" أن يحصد أصوات أكثرية الناخبين العراقيين، ولكن ليس كل ما يتمناه الجعفري يدركه.

في انتخابات مجالس المحافظات في الأسبوع الماضي لم تكن القوائم الانتخابية جميعها تجهل أهمية تصدير رموزها الدينيين والسياسيين، بل كانت الحملات الدعائية تركز على رموزها الحاضرين أو الغائبين، أكثر مما تركز على المرشحين أنفسهم أو على برامجها الانتخابية، وقاد بعض رموزها حملة الانتخابات بنفسه، فقد توافد كبار السياسيين والمسئولون في الدولة العراقية إلى محافظات الجنوب والوسط والغرب في خطوة غير مسبوقة للترويج لقوائمهم. كما فعل عبد العزيز الحكيم، وإبراهيم الجعفري، وإياد علاوي، وطارق الهاشمي، وصالح مطلك، وأيضا نوري المالكي، وهذا الأخير  بحسب مراقبين"حول المنافسات الانتخابية بالفعل إلى استفتاء على دوره" حيث تركزت حملة قائمة "ائتلاف دولة القانون"على شخص المالكي، فبحسب صالح عبد الرزاق، مدير الحملة الوطنية لقائمة ''ائتلاف دولة القانون'' إن لديه إستراتيجية انتخابية بسيطة، وهي: أن يكون التركيز على المالكي في الأساس.."

ولكن السؤال المهم هو لماذا نجح ائتلاف المالكي في حصد أصوات الناخبين العراقيين، مع أن هناك قوائم انتخابية يقودها رموز سياسية ودينية معروفة وتحظى بقبول اجتماعي وسياسي أكثر من "ائتلاف دولة القانون" وأكثر من المالكي نفسه؟

الجواب ببساطه هو أن العراقيين يتطلعون دائما إلى قائد سياسي، يكون فيه شيء من الرمزية، وشيء من القوة،  فإذا تبوء قائد هاتين الصفتين بما يجمعانه من تواضع وهيبة، ومروة وعدالة، فضلوه على غيره. وقد شاءت الأقدار أن يكونا في شخص المالكي.

شبكة النبأ المعلوماتية- االسبت 7/شباط/2009 - 11/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م