مذكرات رئيس فاشل....

 د. محمد مسلم الحسيني- بروكسل

الرؤساء ثلاثة : رئيس يمجّده التأريخ ورئيس يلعنه التأريخ ورئيس لا يذكره التأريخ ... قد عرف العالم نظرة التأريخ عن الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جورج دبليو بوش وكيف تم تصنيفه. الذي لم يعرف ذلك عليه أن يقرأ ما نشره مركز البحوث " بي أي دبليو" الأمريكي حيث إستطلع أراء الأمريكيين عن رئيسهم وعن أدائه وتصرفه خلال عمله كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية. فقد أجاب أكثر من ثلثي من تم إستطلاعهم بأنهم سيبقون يتذكرون إخفاقات رئيسهم على مرّ الزمن، وهذا ما يشير الى درجة التذمر والإمتعاض التي وصل اليها الأمريكيون جراء سوء إدارة حاكمهم!

 غادر بوش البيت الأبيض في يوم 20 كانون ثاني( يناير) وفي جعبته صفحات من المذكرات التي تشير الى أنه أسوأ رئيس أمريكي منذ أن تأسست هذه الدولة، لما حصل بعهده من قضايا عويصة قوبلت بفشل إداري وتخبط معرفي وإضطراب رؤى وإبتعاد عن صلب الواقع وتهوّر في إتخاذ القرارات الصعبة. التصرفات الإرتجالية المتطرفة غير المدروسة للرئيس السابق بوش أدت الى نقصان كبير في الوزن الكمي والنوعي للولايات المتحدة والى تراجع مضطرد في سمعتها وهيبتها أمام دول العالم. لقد ظهرت بوادر الكبر والشيخوخة على ملامح الحضارة الأمريكية وكأنها في طريقها الى التحلل والإندثار، بعدما كانت تخيف العالم في سطوتها وشدة مراسها.

ثمان سنوات عجاف وأمريكا تعاني الأمريين....تترنح من شدة الأزمات ومن المحن المتوالية... تتألم من أمراض مزمنة مستشرية أقضت مضجعها وغيرت طابعها وفتت قواها، حتى بدت للداني والقاصي وكأنها أمبراطورية في طور الضمور...فقد أضحت مقعدة منكسرة أمام محن صعاب لا حول ولا قوة لها في التملص منها أو السيطرة عليها.

أجج بوش حربا شعواء في كل من إفغانستان والعراق بعد إنهيار برجي التجارة العالمية عام 2001م سميت بإسم " الحرب على الإرهاب"، لقد بدأ بوش هذه الحرب ولكنه لم يعرف كيف ينهيها !. لم تفلح أمريكا بما توهمت به.... فهذه الحرب لم تكن نزهة ، بل إستمر النزف البشري والمادي طوال ما ينيف على الست سنوات عرف العالم خلالها بأن أمريكا قد تورطت في مأزق صعب لا تدرك كيف تخرج منه، فقد أضحت محصورة بين كفي كماشة ذراعيها إفغانستان والعراق. خروج أمريكا من هذين البلدين وإنسحاب قواتها منهما يعني إيقاف هذا النزف المستمر في الدم والمال، لكن هذا يعني في نفس الوقت فشلها في مشروعها ومهمتها وإنتصار لأعدائها وهو حل لا يمكن تصوره أو تحمله. الحل الآخر هو أن تبقى قواتها طامسة بالوحل التي هي فيه وهذا يعني إستمرار الخسائر والموت البطيء والى مدى غير منظور!. لا يوجد حل سحري آخر وكلا الحلين مرّ كالعلقم لا يمكن تجرعه!

 الحرب على الإرهاب كانت تحمل في طياتها مشروعا جبارا إسمه " مشروع الشرق الأوسط الكبير" . هذا المشروع تتأبطه أجندة ضخمة يتم من خلالها تنظيف منطقة الشرق الأوسط من الأنظمة المعادية للنهج الأمريكي وبإستخدام شتى الأساليب وبضمنها التدخل العسكري المباشر وتحت يافطة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

إلاّ أن الرياح جرت بما لا تشتهيه السفن الحربية الأمريكية، فقد فشلت المرحلة الأولى من هذه الحملة على أبواب العراق وأفغانستان وتوقف المشروع برمته ومات قبل أن يولد.

تورط الأمريكيين في هذه الحروب فوّت على الإدارة الأمريكية فرصة الإلتفاف على إيران أو ضربها أو إسقاط نظامها. الإيرانيون مصدر قلق وتهديد قادم من بعيد للمصالح الأمريكية ولمصالح أصدقائها في المنطقة ،خصوصا مصالح إسرائيل ومستقبلها. تعامل الإيرانيين مع الذرة هو خط أحمر لا تقبل به أمريكا على الإطلاق، لما يشكله ذلك من إمكانية الحصول على السلاح النووي والذي يعني إختلال واضح في ميزان القوى في المنطقة وتهديد مباشر لأمن إسرائيل. التخلص الأكيد من هذا الخطر يتم بضرب المنشآت النووية الإيرانية وإزالتها عن بكرة أبيها.

إلاّ أن وجود القوات الأمريكية في العراق وبكثافة مما قد يعرضها لعمليات عسكرية واسعة ضدها من قبل الموالين لإيران، والإرتفاع المضطرد في أسعار البترول العالمية التي قد تصل الى مستويات خيالية إذا ما حصل نقص حاد في مصادر التمويل، إضافة الى الرفض الأوربي المتكرر لإستعمال القوة كانت أسباب قوية لمنع أو تأجيل الهجوم العسكري على إيران خلال الفترة الماضية. خصوصا أن الأمريكيين كانوا يخشون التصدي للمضاعفات الخطيرة التي قد تنتج جراء هذا الهجوم وهم في ظروف إستثنائية صعبة وحالة ضعف مادي ومعنوي بسبب عدم نجاحهم في حربهم على العراق وأفغانستان. هذا التباطؤ كان كفيلا بأن يجعل إيران تفلت من عنق الزجاجة وتطور نفسها عسكريا وماديا في ظل إرتفاع أسعار البترول وحرية الحركة!        

نتيجة للحروب الإستنزافية الطويلة التي تخوضها أمريكا في أفغانستان والعراق تدهور الإقتصاد الأمريكي ووصل الى مرحلة الكساد والركود. أكثر من 11 مليون أمريكي عاطل عن العمل، والبطالة وصلت الى أكثر معدلاتها منذ 16 عاما . واحد من مجموع عشرة أشخاص يملكون عقارا أصبح مهددا بفقدان بيته لعدم قدرته على تسديد الديون المتعلقة بذمته. أسواق البورصات تشهد إنحدارات في الأسعار لم يشهد لها التأريخ مثيلا إلاّ في عام 1931م حيث فقد مؤشر "داو جونز الصناعي" على سبيل المثال أكثر من 33 في المائة من قيمه خلال عام 2008م . ملايين الأمريكيين فقدوا مساكنهم وأموالهم وأحلامهم....الحكومة تصرف ما لا تملك والعجز في الميزانية يصل الى 455 مليار دولار.

إنهارت أسواق العقارات الأمريكية وتهدد الكثير من المؤسسات المالية والإقتصادية حتى أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس والسقوط لولا الإسعافات الأولية المضنية والجرعات المنشطة التي وهبتها الحكومة. إلاّ أن تأثيرات هذه الإسعافات ستبقى مؤقتة وربما تعود الأزمة من جديد طالما بقيت أسبابها. معالجة الأعراض لا تنفع لأنها ستبقى حلول سطحية لا تعالج خفايا العلة ومسبباتها ، معالجة الجذور هو الطريق الأنجع للوصول الى مكامن الخلل.

هذا الإنهيار الإقتصادي الحاد في مظهره والمزمن في أسبابه أدى الى خسائر مالية كبيرة ليس فقط في المؤسسات المالية الأمريكية فحسب بل راح ضحيته الكثير من المؤسسات المالية العالمية وخسر الكثيرون رؤوس أموالهم! وقد صاحب هذه الأزمة المالية كساد إقتصادي عالمي لم ولن يسلم من تأثيراته أحد! أما على صعيد العلاقات الخارجية فقد تأزمت العلاقات الأمريكية الروسية إبان فترة حكم بوش الى درجة أن شبهها البعض بأيام الحرب الباردة.

فقد شجعت أمريكا إنضمام أوكرانيا وجورجيا الى حلف شمال الأطلسي " الناتو" خلال القمة الأخيرة لهذا الحلف في بوخارست في شهر نيسان " أبريل" من العام المنصرم، مما أغاض روسيا وجعلها تهدد بإتخاذ إجراءات إنتقامية. كما دعمت الجورجيين إبان الحرب الروسية الجورجية التي إندلعت في شهر آب "أغسطس" في العام الماضي وأنتقدت بشدة التوغل العسكري الروسي في الأراضي الجورجية.

ثم وقعت أمريكا مباشرة مع بولندا معاهدة ستراتيجية تتضمن نشر منظومة صواريخ إعتراضية في قاعدة قرب السواحل البولونية على بحر البلطيك وهذا ما أعتبرته روسيا تهديدا صريحا لأمنها ولإستقرارها مما شنج علاقاتها مع أمريكا وأنهى مرحلة المرح والغزل بينهما.

لم تكن العلاقات الأمريكية جيدة مع الكثير من دول العالم إبان حكم بوش بل حصل برود وإمتعاض حتى مع بعض حلفاء أمريكا الستراتيجيين وأصدقائها. فقد توترت العلاقات مع فرنسا إبان حكم الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، نتيجة للهجوم العسكري الأمريكي على العراق الذي أدى الى فقدان فرنسا لمصالحها الستراتيجية في هذا البلد وبقيت هذه العلاقات متشنجة حتى إنتخاب ساركوزي رئيسا لفرنسا.

 التذمر من السياسات الأمريكية لم يقتصر على فرنسا فقط وإنما شمل دولا أوربية أخرى ودولا غير أوربية تعتبر صديقة حميمة لأمريكا وعلى طول الخط .

كانت القضية الفلسطينية نسيا منسيا إبان فترة حكم بوش ، فإنه لم يحرك ساكنا في هذا الملف الذي ظهر وكأنه غير معني فيه بإستثناء مبادرته المتعلقة بمؤتمر " أنابوليس" للسلام والذي لم يثمر شيئا. لكنه كان حاضرا أثناء الهجوم العسكري الإسرائيلي الشرس على قطاع غزة المعزول ليصفه بأنه دفاع عن النفس! فإسرائيل، في نظره، تدافع عن نفسها من بطش الفلسطينيين.....!!!

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 29/كانون الثاني/2009 - 2/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م