السياسة بين المفهوم العرفي والمفهوم الشرعي

جميل عودة/مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث

الكثير من الأفراد والجماعات يمارسون السياسة يوميا، سواء بشكل كلي أو جزئي، وسواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولكن تكاد تجمع الشعوب العربية والإسلامية بالتحديد أن العمل السياسي ليس عملا لطيفا ولا محببا للنفوس؛! لان السياسة كذب ودجل ونفاق.. ومن يزاولها فهو يحمل صفة من تلك الصفات السيئة..!

هذه هي رؤية أكثرية الناس للسياسة، وهذا هو الفهم العام لها، فيا ترى هل السياسة هي كذب ونفاق كما تراه الأكثرية؟ أم أن السياسة هي إدارة شؤون الحياة ورعاية مصالح الناس وقضاء حوائجهم، ولكن أنقلب هذا الفهم رأسا على عقب، مرة بالفهم النظري، وثانية بالتطبيق العملي؟

يُجيب الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي المشككين بأن السياسة ليست علما، ولا تتصف بالصدق؛ لأنها محض كذب، وأنها ليست من الإسلام؛ لان الإسلام دين الصدق والإخلاص، والسياسة دين الكذب والغش، بقوله: "قد  يُتوهم أن السياسة ليست علما، وإنما هي إدارة، والإدارة عمل، وذلك يعتمد على ذكاء الإنسان وتجاربه وما يأخذه من المحيط ، وقد يُتوهم أن السياسة ليست إلا إتقان الكذب والدجل والنفاق، وقد يُتوهم أن السياسة ليست من الإسلام، وأن العالم الديني هو العارف بالتفسير والتاريخ الإسلامي والفقه، وكل هذه الأوهام لا أساس لها من الصحة..

ذلك لأن السياسة علم كسائر العلوم، ولعل الذين نشروا أن السياسة ليست بعلم في البلاد الإسلامية كانوا عامدين حتى ينسحب المسلمون عن تعلم السياسة فيخلو لهم الجو في أن يستغلوا جهل الناس، فيفعلون ما يشاءون كما حدث ذلك بالفعل؛ فلقد أدى  انعدام الوعي السياسي لدى العرب والمسلمين إلى زرع إسرائيل واقتطاع جزء من لبنان، وجزء من سوريا، وإلى حكومات انقلابية عسكرية، وتشتت البلاد الإسلامية إلى دويلات، وجاء المستعمرون إلى البلاد بأشكال مختلفة...

أما أن السياسة كذب ونفاق، فان الآخرين هم الذين نشروا تفسير السياسة من حيث المفهوم والمصداق بهذا المعنى المذكور حتى يأباها أصحاب الضمائر والدين، وقد ترجموا ذلك من الناحية العملية حيث عملوا على أن يتصدى إلى سدة الحكم في البلاد الإسلامية المنافقين والدجالين والكذابين، وبالتالي، تجنب الصالحين للسياسة أكثر فأكثر...

وأما أن السياسة ليست من الإسلام حيث حاول أعداء الإسلام أن يعملوا على إبعاد علماء الإسلام عن ميدان السياسة حتى يتسنى للآخرين أن يحكموا البلاد، وجعل القوانين التي تخدم أهدافهم ومصالحهم. وإلا فقد كان رسول الله والأئمة عليهم الصلاة والسلام يزاولون السياسة، وكذلك كان شأن العلماء قبل دخول المستعمر البلاد، وهذه كتبهم الفقهية وصفحات تاريخهم المشرق تنبئ عن بيانهم المسائل السياسة وتدخلهم في الأمور...

 وبالتالي، فأن السياسة في منظور مدرسة الامام الشيرازي تعني "إدارة شؤون الناس في السلم والحرب، والأخذ والعطاء، والشدة والرخاء، شريطة الالتزام بالعدل والإحسان والفضيلة والأخلاق الكريمة واستقامة الفكر والعقيدة في كل الأدوار وفي كل المستويات. والسياسة بهذا التفسير هي من صميم الإسلام ومن أسس الدين التي يجب على كل فرد من المسلمين السعي لتطبيقها على العالم كلها...

وفي الشريعة الإسلامية نصوص كثيرة تدل على أن السياسة جزء لا يتجزأ من الإسلام، فقد ورد في جملة  من الآيات " إني جاعل في الأرض خليفة" و"يا داوود إنا جعلناك خليفة" كما جاء  في الحديث الشريف في وصف الأئمة أنهم" ساسة العباد"، وفي كتاب أمير المؤمنين  إلى مالك الاشتر "فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعلم والسياسية"... وهذا يعني أن كل محاولة لفصل الدين عن السياسة هي من قبيل فصل العبادة عن الإسلام... وقد كان دأب الأنبياء والأئمة والعلماء على أخذ زمام السياسة بأيديهم ما قدروا، فان لم يتمكنوا من ذلك وجهوا الناس إلى وجوب ذلك مما قدروا...

وقد وقع الخصام بين الأئمة والعلماء وبين أصحاب الأهواء من أمويين وعباسيين ومن حذا حذوهم في التصدي لمرجعية الأمة واخذ زمام السياسة منذ وفاة الرسول...وأن ما شاع "أن العالم الديني الخير هو الذي يشتغل بالعبادة والإرشاد ولا يتدخل في شؤون السياسة هو من صنع الاستعمار... وبالتالي ، فان العمل بالسياسة  كـ" الواجب الشرعي على العالم الديني كوجوب الصلاة والصيام  ليتم إبعاد الحكام الظلمة عن الساحة الإسلامية وليقبض زمام  الأمة العلماء الراشدون، فيسيرون بالأمة كما أراد الله.. كما أن الأخذ بالعلم السياسي ليست وظيفة العالم الديني، وحسب، بل، هي وظيفة كل المقلدين على نحو الوجوب الكفائي، وذلك لأنه يتوقف عليه إدارة أمور المسلمين وهداية الناس من الظلمات إلى النور..

لذلك كله، يقسم الأمام السيد محمد الشيرازي"قدس" السياسة إلى أنواع ثلاثة هي:

1- السياسة الشرعية: وهي السياسة التي تخطط لسلامة الدنيا والدين،  كما قال الله تعالى "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وإقنا عذاب النار"  وقال " ليس منا من ترك آخرته لدنياه وليسن منا من ترك دنياه لآخرته".

2- السياسة العقلانية: وهي السياسة التي تُبنى على أساس وجود حياة موزونة، والتخطيط لسلامة الدنيا عن الأخطار والمكارة، والتي يعيش كل إنسان فيها بسلام ورفاه...

3-السياسة المادية:  وهي تلك السياسة التي لا تهتم إلا برغبات الإنسان وشهواته،  وبالتالي، من الطبيعي أن الإنسان سيرتطم تحت ظل هذه السياسة في أواحل المشاكل والأمراض والمنازعات؛ إذ الدنيا محدودة، فإذا أراد الإنسان أن يسير بدون ضوابط وموازين ارتطم بالحدود...

والسياسة التي يريدها الإسلام للناس والشعوب والأمم هي السياسة التي تعنى بالدنيا والآخرة، لان كلاهما حياة بالنسبة للإنسان، وحياته في  الدنيا هي اقصر من حياته في الأخر، إلا أن الكثير من الناس لا يلتفت إلى ما بعد الدنيا.  لان الإسلام يرى الدنيا والآخرة مملكة واحدة، لرب واحد، والكل عبيده وبهذه النظرة وضع الخطط العامة لصلاح العبيد في إرجاء هذه المملكة الواحدة العاجلة منها والآجلة....

ومعرفة السياسة بالمعنى المتقدم الذي فهمناه تتم بحسب الإمام محمد الشيرازي"قدس" من خلال معرفة الدين، والاقتصاد، والحقوق، والاجتماع، والنفس، والتاريخ...

1-معرفة الدين:  أما كون معرفة الدين ضرورة لمعرفة السياسة، فذلك لان الدين داخل في تركيبة الأمم والشعوب، ولان للإنسان جانبا ماديا تملاه المادة وجانبا روحانيا لا يملاه إلا الروحانيات،  وهذه الروحانيات يوفرها الدين. والدين هنا هو الدين الحق الذي له بناء في المجتمع ويعتقد به الناس لا العمل بالدين المزيف وإجرائه في المجتمع، لان مثل هذا الدين لا يسبب علاقة الشعب بالحكام، بل، بالعكس يوجب انفصالهم عن الحكام حيث يصفونهم حينذاك بالدجل والنفاق...

2-معرفة الاقتصاد: وأما معرفة الاقتصاد كمقدمة ضرورية لمعرفة وفهم علم السياسة، فذلك لان الاقتصاد يتفاعل مع السياسة، فكل منهم يرتبط بالأخر، فالمال يأتي بالسياسة كما أن الساسة يضعون ضوابط المال. وإذا لم يكن اقتصاد لم يكن مثقفون صالحون لإدارة البلاد، وإذا صار المثقفون الصالحون تأثر بهم الاقتصاد... 

3- معرفة القانون والحقوق: وذلك لان السياسة تنبع عن الأنظمة الحقوقية والقانونية والأحزاب والمنظمات والصحف. والسياسي غالبا ما يجعل الحقوق إطارا لما يريد تحقيقه من الدولة والأمة، وكذلك على السياسي أن يطلع على القانون الأساسي للبلاد أي الدستور، وهو موجز لكل قوانين البلاد الموضوعة أو التي ستوضع...

4-معرفة الاجتماع: لان السياسة شكل من أشكال الاجتماع، فعلم الاجتماع يدرس كل الروابط الاجتماعية الصغيرة منها والكبيرة كالأسرة والقرية والمدينة حتى الدول، والسياسة وهي علاقة مجموع الشعب بحكامه والعكس من أكبر الروابط الاجتماعية.. وبالتالي، فان بحوث علم الاجتماع مثل السلوك الاجتماعي، وتقسيم المجتمع إلى طبقات، والحرب والسلم، والتقدم والجمود، وغيرها من مسائل علم الاجتماع ترتبط بالسياسة مباشرة...

وهناك نوع من التكامل بين الاجتماع والسياسة فالسياسة تأخذ عينات من علم الاجتماع لتجعلها موضوع الدراسة،  كما أن علم الاجتماع يأخذ جملا من علم السياسة ليطالعها ويفهم على ضوئها بعض الروابط الاجتماعية...

5-معرفة النفس: وذلك لان السياسة تُعنى بالبشر، وبدون أن يتعرف السياسي على نفسيات الأفراد والفئات كيف يتمكن من الإدارة؟ وإصلاح جوهر النفس أهم ومهمات السياسي...

6- معرفة التاريخ: لان السياسي لا يكون سياسيا بمعنى الكلمة إلا إذا عرف التاريخ لان ما يجده الإنسان في الحال الحاضر ليس وليد نفسه، وإنما التاريخ الطويل له مدخلية في تكوينه... والتاريخ الذي يجب أن يعرفه السياسي بعضه أهم من بعض، فالتاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي أهم من غيرها، كما أن التاريخ السياسي بصورة اعم يعني معرفة التاريخ الدبلوماسي وتاريخ الروابط بين الأمم، ومن  المهم أن يقوم السياسي بترجمة التاريخ- الذي يريد أن يجعله أسوة- إلى روح تلائم عصره ليستفيد منه سياسيا، فالزمان ليس متحفا والتاريخ ليس ميتا!.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

http://shrsc.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 28/كانون الثاني/2009 - 1/صفر/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م