المنفيّون في التاريخ ينفون إما إلى نقطة بعيدة لكي لا يراهم أحد
ويتعرّضون للنسيان فيمارس الحكّام بحقهم ما يشاءون، وإما يوضعون تحت
مراقبة الخليفة أو الأمير بقرب مركز حكومي، فيراقبون كل تصرفاتهم
وحركاتهم وسكناتهم، ولا أحد يتجرأ بالتقرّب إليهم.
والأمر الثاني عادة يجري بحق من يخاف نظام الحكم من وجوده وفي نفس
الوقت لا يتجرّأ بالإهانة والتجاسر السافر والصريح عليه. فحسب الظاهر
يعيش كما يعيش سائر الناس إلا أن جميع أنفاسه تحت المراقبة الحكومية
الشديد ناهيك عن أقواله ومعاشراته ومجالسه، ومتى ما استشعرت الحكومة
الخطر منه تقتله بصورة أو بأخرى، ومباشرة أو غير مباشر، بالسيف أوبدسِّ
السم.
والأمرين قد حصل للإمامين العسكريين علي بن محمد والحسن بن علي
عليهم السلام. فقد تعرّضا للنفي مبعدين عن مدينة جدهم وفي نفس الوقت
كانا عليهما السلام قرب الجهاز الحكومي تحت المراقبة الشديدة.
وكان الإمام العسكري عليه السلام قد نال الأشد فضيّقوا عليه غاية
التضييق، وفرضوا عليه الإقامة الجبرية، وأحاطوه بقوى مكثفة من المباحث
والأمن تُحصي عليه أنفاسه، وتسجّل كل من يتصل به. فحين قدومه قام عدد
كبير بالتجمهر لاستقباله وهو أشد الناس معارضة للحكومة، لقد جاء الناس
من كل حدب وصوب ليستقبلوا إمامهم وتحولت منطقة "عسكر" إلى محط للزوار
إلا انها لم تدم طويلاً فكل من كان يأتي إليها كان ينتهي طريقه إلى دار
الخلافة فخرج توقيع من الإمام عليه السلام يقول لشيعته: "ألا لا
يسلِّمنّ عليَّ أحد، ولا يشير إليَّ بيده، ولا يومئ، فإنكم لا تأمنون
على أنفسكم"(1)، والشيعة دون أن يحصلوا مجالاً للتعبير كانوا يخفون
غصتهم في حلقهم لتخرج بخروج جثمان الإمام، فقامت قيامة الناس وتعالت
الصراخ ولم تتوقف الدموع من الأعين لتودِّع الإمام بآخر وداع في اليوم
الثامن ربيع الأول سنة ستين ومائتين من الهجرة.
وفي صبيحة يوم الثالث والعشرين من محرم الحرام سنة 1427 تكرر
المشهد بشكل آخر، فبعد سنوات من الحكم البعثي كانت سامراء كحال سائر
المدن المقدسة في العراق غريبة تجلس على أروقتها الغبار، وبعد أن ذهب
الحكم البعثي ليلتحق بالحكم الأموي توافد الزوّار من كل حدب وصوب
ليحتضنوا تلك الأضرحة المقدسة، لكن بقيت سامراء غريبة رغم الإفراج
عنها، وكأن الحكم الأموي ذهب ليحل محله الحكم العباسي ليغتال الإمامين
العاشر والحادي عشر مرة أخرى، ولكن التوقيع لم يكن ليأمر على أن " لا
يسلِّمنّ عليَّ أحد، ولا يشير إليَّ بيده .."، بل الوارد أن يُزار كل
أسبوع من يوم الخميس ويخص له التحية والسلام: " السلام عليك يا ولي
الله، السلام عليك يا حجة الله وخالصته، السلام عليك يا إمام المؤمنين،
ووارث المرسلين وحجة رب العالمين، صلى الله عليك وعلى آل بيتك الطيبين
الطاهرين.
يا مولاي؛ يا أبا محمد الحسن بن علي، أنا مولى لك ولآل بيتك، وهذا
يومك وهويوم الخميس، وأنا ضيفك فيه، ومستجير بك، فأحسن ضيافتي وإجارتي،
بحق آل بيتك الطيبين الطاهرين" (2).
فلم بقيت سامراء غريبة ولم تحتضن كسائر الأضرحة ليتسنى للخط الأموي
العباسي أن يستهدفه مرتين؟، إنه قصور من الشيعة، فأحقاد بني أمية وبني
العباس ليس بالأمر الجديد، ولكن لماذا ترك المحبين مرقد إمامهم في زمن
لم تكن دار الخلافة قائمة لينتهي أمر من كان يذهب إلى "عسكر" إليها،
وحتى قبل هذا العهد كانت سامراء إلى درجة غريبة ليقول أحد العلماء: "
أتى ذكر أن المرحوم آية الله السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) كان
مواظبا على أن يرسل في ليالي الجمعة أعداداً إلى زيارة سامراء" (3)،
ليخرجها من الغربة، وكان الميرزا حسن الشيرازي صاحب ثورة التنباك يقوم
بإسكان عشائر الشيعة من جنوب العراق فيها لإخراجها من كونها من الناحية
الطائفية ذات صبغة واحدة.
فهل للشيعة عذر اليوم على أن يتركوها ليس للزيارة فحسب وإنما
للإقامة؟، إنه واجب ملقاة عليهم، فإن لم يحمي الشيعة أئمتهم فمن
يحميهم؟.
..............................
(1) بحارالأنوار، ج50، ص269
(2) مفاتيح الجنان، باب زيارات أيام الأسبوع، زيارة
يوم الخميس
(3) بيان للشيخ المنتظري بمناسبة تفجير سامراء |