أصدرت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات نظام الجرائم والعقوبات
المتعلقة بالانتخابات والاستفتاءات رقم (14) لسنة (2008) وعند قراءة
هذا النظام نجد إن المفوضية لم تكن موفقة عند إصداره، لأنها خالفت أهم
مبدأ دستوري وقانوني يتعلق بإنشاء الجرائم والعقوبات، وهو مبدأ
المشروعية أو ما يسمى (بمبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) الذي ورد
ذكره في نص الفقرة (ثانيا) من المادة (19) من الدستور النافذ (لا جريمة
ولا عقوبة إلا بنص، ولا عقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون وقت
اقترافه جريمة، ولا يجوز تطبيق عقوبة اشد من العقوبة النافذة وقت
ارتكاب الجريمة).
هذا المبدأ يدل على أن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني، أي أن
مصدر الصفة غير المشروعة للفعل هو نص القانون ويقال لهذا النص " نص
التجريم " وهو في نظر القانون الجزائي يشمل قانون العقوبات والقوانين
المكملة له والقوانين الجزائية الخاصة. وبالتالي يحدد في كل نص الشروط
التي يتطلبها في الفعل كي يخضع لهذا النص ويستمد منه الصفة غير
المشروعة ويحدد العقوبة المقررة لهذا الفعل، لذا فان المحاكم لا تستطيع
أن تعدٌُ فعلاً معنياً جريمة إلا إذا وجد نصاً يجرم هذا الفعل، فإذا لم
يجد مثل هذا النص فلا سبيل إلى عد الفعل جريمة.
بمعنى إن الأفعال لا يمكن تجريمها، إلا إذا نص عليها قانون أو قرار
له قوة القانون، أما النظام الذي أصدرته المفوضية العليا المستقلة
للانتخابات لا يرقى إلى مستوى القانون، في تجريم الأفعال وفرض العقوبات
المقررة لها.
ولغرض مناقشة مشروعية هذا النظام لابد من الرجوع إلى قواعد الإسناد
التي استند عليها النظام عند إصداره، ثم مناقشة مدى مطابقته لمبدأ
المشروعية أو ما يسمى (لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص أو بناء على نص)
لذلك سأتناول الموضوع على وفق ما يلي:-
أولا: ورد في صدر النظام رقم 14 لسنة 2008 (نظام الجرائم والعقوبات
المتعلقة بالانتخابات والاستفتاءات) إن هذا النظام صدر من المفوضية
بموجب السلطة الممنوحة لمجلس المفوضين في الفقرة (ثامنا) من المادة
(14) من قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات رقم (11) لسنة
2007، كما أشار أيضا إلى قانون انتخابات مجالس المحافظات والاقضية
والنواحي رقم (36) لسنة 2008 المعدل. وعند الرجوع إلى القوانين المشار
إليها أعلاه، لم نجد أي تفويض، قد منح لمجلس المفوضين، في تجريم
الأفعال وتحديد عقوباتها وسأعرض لها على وفق ما يلي.
أ- قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات رقم 11 لسنة 2007،
إن نص الفقرة (ثامنا) من المادة (14) من القانون المذكور أعلاه جاء فيه
(تضع المفوضية العليا الأنظمة التي تحفظ للعملية الانتخابية نزاهتها)،
وهذا النص لا يشكل أي تفويض لإنشاء جرائم وتحديد العقوبات، وإنما يتعلق
الأمر بوضع الأنظمة التي تحدد كيفية إدارة العملية الانتخابية.وهذا
يتقاطع مع مبدأ المشروعية.
ب- قانون انتخابات مجالس المحافظات والاقضية والنواحي رقم (36)
لسنة 2008 المعدل، وفي هذا القانون ذكر في الفصل السابع الجرائم
الانتخابية والعقوبات المقررة لها، ولم يرد فيه أي تفويض للمفوضية أو
مجلس المفوضين أن يصدروا نظاما لينشئ جرائم.
ثانيا: الجرائم الانتخابية حددها قانون انتخابات مجالس المحافظات
الاقضية والنواحي رقم (36) لسنة 2008 حصرا، لذا لا يمكن تعميم تلك
الجرائم على استفتاءات أو انتخابات أخرى غير هذه الانتخابات ذات الصلة
بقانون انتخابات مجالس المحافظات، مما لا يجوز لمجلس المفوضين تعميم
هذه الجرائم بواسطة نظام يضعه، لان النظام عنوانه (نظام الجرائم
والعقوبات المتعلقة بالانتخابات والاستفتاءات).
ثالثا: إن النظام كان قد نقل نص الجرائم والعقوبات الوارد ذكرها في
الفصل السابع من قانون انتخابات مجالس المحافظات الاقضية والنواحي رقم
(36) لسنة 2008 في المواد (39-46)، مما يجعل النظام المذكور بمثابة لغو
لا مبرر أو مسوغ قانوني له، لان أي شخص يوجه له الاتهام، فان الجهة
القضائية التي تحاكمه سوف لا تعتمد على النظام رقم (14) لسنة 2008،
وإنما تعتمد على ما ورد في قانون انتخابات مجالس المحافظات و الاقضية
والنواحي رقم (36) لسنة 2008.
رابعا: ورد في الفقرة (9) من القسم الأول من النظام رقم 14 لسنة
2008، تعريف بالجريمة الانتخابية، وهذا التعريف كان مرتبكا وغير دقيق،
لأنه عرف الجريمة الانتخابية بأنها (القيام بعمل أو الامتناع عن عمل
بما يخالف الأحكام الواردة في قانوني انتخاب مجالس المحافظات رقم 36
لسنة 2008 المعدل او قانون الاستفتاء أو أنظمة المفوضية)، وأول ملاحظة
تدل على عدم دقته، بان جعل كل عمل يخالف القانون أو الأنظمة هو جريمة
انتخابية، وفي هذه الأنظمة والقوانين أعمال لا تدخل ضمن الجرائم المشار
إليها في الفصل السابع من قانون انتخابات مجالس المحافظات، كذلك هناك
أعمال إدارية تتعلق بموظفي المفوضية، ولا تتصف بطابع انتخابي، وإنما
تخضع للقوانين التي تنظم الأعمال الإدارية للمفوضية أو التعاقدات مع
منتسبيها، لذلك فان هذا التعريف غير دقيق لأنه من السعة التي لا يمكن
قبولها تجاه مبدأ المشروعية في القوانين العقابية.
خامسا: جاء في القسم الثاني من النظام المذكور عقوبة لمن يحمل سلاح
داخل المركز الانتخابي على وفق نص الفقرة (1) من القسم المذكور نصها
(يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل من دخل إلى مركز التسجيل أو مركز
الاقتراع أو مركز الفرز، حاملا سلاحا ناريا أو جارحا، عدا أعضاء الهيئة
الأمنية المتواجدين حسب طلب المفوضية) ونلاحظ انه كان قد نقل نص الفقرة
(خامسا) من المادة (40) من قانون انتخابات مجالس المحافظات التي تنص
على (يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنة كل من دخل إلى المقر المخصص
للانتخابات حاملا سلاحا نارياً أو جارحاً مخالفا لإحكام هذا القانون)
وهذا النص اقتصر على دخول المركز الانتخابي، ولم يرد فيه أي إشارة إلى
محيط المركز الذي ذكره النظام في الفقرة (2) من القسم الثاني، مما يعد
توسيع للمكان الذي يعد فيه حمل السلاح جريمة، دون أن نجد له أي سند في
القانون ويتعارض مع مبدأ المشروعية.
سادساً: ذكر نص النظام توصيف لأفعال تعد جرائم انتخابية بموجب قانون
مجالس المحافظات، لم يذكرها القانون المذكور، وهذا التوصيف عند التطبيق
يغبر من المركز القانوني للمتهم وعلى سبيل المثال ما جاء في نص القسم
الخامس المعنون (بالرشوة) فانه ذكر تفصيل يجعل الأفعال التي تعتبر من
قبيل الرشوة إذا كانت بتأثير غير (لائق) فهذه العبارة قد تستغل عند
المحاكمة في التفسير لأنها عامة تستوعب الكثير من الأفكار والرؤى.
وتوجد عبارات أخرى تحقق ذات الملحظ المشار إليه.
لذلك ومما تقدم أرى إن النظام رقم (14) لسنة 2008 الصادر عن
المفوضية العليا المستقلة للانتخابات فاقد لشرعيته القانونية
والدستورية، وأي أجراء يتخذ بموجبه في الجانب المتعلق بتجريم الأفعال
وفرض العقوبة عليها يعد باطل ولا يرتب أي اثر قانوني، كما إن قانون
المفوضية وقانون انتخابات مجالس المحافظات، لم تفوض مجلس المفوضين،
سلطة فرض الغرامات المشار إليها في الفصل السابع من قانون مجالس
المحافظات والاقضية والنواحي، لان الغرامة عقوبة ولا يجوز فرضها إلا من
قبل محكمة مختصة ومشكلة بموجب القانون، كما إن هذا النظام، في الأحكام
التي تضمنها، يشكل خرق لمبدأ الفصل بين السلطات الذي اقره الدستور
العراقي النافذ في المادة (45) التي تنص على أن (تتكون السلطات
الاتحادية، من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس
اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات).
وفي الختام أدعوا المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، أن تراجع
هذا النظام وتعيد صياغته بما ينسجم والأحكام القانونية النافذة، حتى
تكون أفعالها وأعمالها تملك المشروعية القانونية والدستورية المتعلقة
بالجرائم الانتخابية والعقوبات المقررة لها. |