بالطبع إن مفهوم العزة لا يمكن تحديده بما تمتلك من قوة عسكرية أو
ترسانة أسلحة ليس بمقدورك أن تتخذ قرارا إزائها، وليست العزة أن ترتبط
بقوّة بشرية مثلك لها مأآربها الخاصة، فالعزة أن تكون عزيزاً بما تملك
من قرار ينبثق من عمق إيمانك، والعزة أن ترتبط بمصدر العزة كما قال
تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
لقد ضيّع العرب مفهوم العزة من قبل، وابتدعوا لأنفسهم عزة ظاهرة،
متمثلة في بريق الغرب وحضارة من لا يؤمن بالله ورسوله النبي محمد(ص)
وأهل بيته، فساسة العرب من (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ
الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً).
لهذا ضيّع العرب بوصلة العزة فأصبحوا في ذلة دائمة وشعارهم (هيهات
منا العزة)، بخلاف ما مقولة الإيمان التي اتخذها المؤمنون الذين سلكوا
نهج الإمام الحسين شعاراً في العزة (هيهات منا الذلة).
فالعبرة ليست بالترسانة العسكرية ولا بسباق التسلح الذي تخصّص له
الحكومات أعلى النسب في ميزانياتها، فما لم يمتلكون قوّة الزاهدين (الذين
يملكون الأشياء ولا تمتلكم) فهم أذلة خاسئين تقودهم أسلحتهم، أي يقودهم
من صنّعها لهم.
في المشهد العدواني الغاشم الذي تقوم به إسرائيل من انتهاكات ضد
إخواننا الفلسطينيين، وفي غزة تحديداً لم يبق أي نوع من أنواع الإنتهاك
إلا وارتكبته إسرائيل بحق الإنسان، فالطفل قد قتل وأشبع قتلاً، والنساء
قتلوا وشرّدوا، وهدّمت البيوت ونكّل بالآمنين، وكل العناويين المدنية
قد أعتدي عليها، فالمدارس والمستشفيات وحتى المراكز الدولية والإنسانية
نالت نصيبها من قذائف العدوان الصهيوني المتغطرس.
فلم يبق أي حجاب يمكن أن تستتر وراءه إسرائيل بعد ما حصل، ومع أنها
كانت كذلك في السابق إلا أن ماحصل في قصف غزة تجمعت تحته كل العناوين
وجسّد كل الإنتهاكات بأجلى صورة وأبلغ تعبير، لدرجة أن إسرائيل التي
بالغت في الإستحواذ على المنابر الإعلامية في العالم الغربي وسدّت كل
المعابر التي يمكن أن توصل صوت الفلسطينيين للعالم، حيث قامت بتلميع ما
لا يقبل البريق أصلاً.. إلى درجة أن هذا الإستحواذ انكسر طوقه وانفتحت
بعض المعابر للكثير من الشعوب المظللة إعلامياً، بل وقد ارتقى بعض
اليهود المنابر ذاتها ليشجب ويستنكر فعل إسرائيل بحق الفلسطينيين في
غزة، ورفعت اللافتات في إسرائيل نفسها (أنا يهودي ولست صهيونيا)، وهناك
دولتان من غير العرب طردتا سفير إسرائيل فيها احتجاجا على المجازر، كل
ذلك حدث لأن مقدار الطغيان وصل إلى درجة أنه لا يقبل التبرير.
لقد عرفنا أن إسرائيل متغطرسة ولا نحتاج إلى تعداد مثالبها، وقد
عرفنا الذل العربي بعناوين كثيرة، ولكن كيف نفهم هذا النوع من الذل،
الذي يجعل (حماس) المقاومة ضد الإحتلال تستحي من مطالبة التكتل العربي
بالكثير، وتكتفي بأن تنتزع منهم المطالبة بالوقف الفوري للعدوان، وفتح
المعابر وإيصال المعونات وماشابه ذلك؟!
حماس تعلم أن حكام العرب لا يعرفون معنى للعزة، لذا لم تطالبهم
بالكثير، وواضح أن زمن اتخاذ القرارات الشجاعة قد ولّى، فآخر حرب دخلها
العرب كانت في 1973م، ولم يعد الآن بمقدورهم إلا شراء الأسلحة، أما
قرار استخدامها فلا يكون إلا على شعوبهم ورعيتهم المطالبين بحقوقهم .
خيار الحرب صعب وشائك، ولكن إذا توفرت شروطه ومسبباته فهو إضطرار
لرد الظلم ودفع الجرم، وكثير من الساسة العرب يتذرعون بأن الحروب لم
تعد تجدي نفعاً، وهي غير مقبولة في زمن التحالفات الدولية ووجود
المجتمع الدولي، ونحن نرى في ذات الوقت أن قرارات الحرب من طرف واحد لم
يول لدى أمريكا، فقد شنّت حرباً على أفغانستان وعلى العراق، وتهدد
وتتوعد الكثير من الدول التي تدّعي أنها تهدد أمنها، فما بالك بمن
ينتهك أمنك علناً ويقتل كل ما يتنفس في أرضك جهاراً ليلاً ونهارا؟!
تبرير الحرب موجود ولكن حامل رايتها مفقود، لقد طالب نائب أمين عام
حزب الله اللبناني، الشيخ نعيم قاسم بأن يتخذ قرار من الدول العربية
بتزويد المقاومة في غزة بالسلاح بشكل علني وواضح، نعم هذا الأمر من
نفَس العزة ومن مساراتها.
يدّعون بأنهم في لحمة عربية، فما فائدة تلك اللحمة إن لم يوجد تعاون
فيما بينها في السلم والحرب والسرّاء والضراء، فإن كانت إسرائيل تتفوّق
على الدول العربية في القوة العسكرية والتسلح، فإنها لا تتفوق عليهم في
حالة التكتل، ففي مقابل تسعة مليارات ونصف تصرفها إسرائيل على الإنفاق
العسكري، تنفق الدول العربية إثنين وخمسين ملياراً، وتشير الاحصاءات أن
القدرات البشرية القادرة على خوض الحرب لإسرائيل تزيد سنوياً 53 ألف
نسمة، فإن الدول العربية يفوق زيادتها 3 ملايين نسمة، وذلك نظراً لفارق
عدد السكان في الدول العربية مجتمعة، وبخصوص الترسانة العسكرية فإن
إسرائيل تصنّع العديد من الأنواع التي تستخدمها، بينما العرب وضعهم
مختلف، فهم يشترون كل ما لديهم، من الولايات المتحدة الأمريكية
وبريطانيا تحديداً.
ولكن تلك الأسلحة وأدوات الحرب مشروطة وهنا موقع الذلة، فقد (كشفت
الوثائق الأميركية والبريطانية والفرنسية المفرج عنها أن هذه الدول
كانت تضع شروطا على صفقات الأسلحة مع الدول العربية.
وتتمثل هذه الشروط في نصب المنصات الصاروخية في أماكن لا تصل إلى
إسرائيل، فقد طلب الغرب من السعودية في الثمانينيات من القرن المنصرم
نصب الصواريخ الصينية في أماكن لا يصل مداها إلى إسرائيل.
كما تتمثل في عدم بيع السلاح أو منحه لطرف ثالث، فقد جاء في بعض
الوثائق البريطانية أن المطلوب هو استخدام هذا السلاح في النزاعات
العربية البينية وذلك عند الحديث عن صفقة طائرات الفانتوم بين الولايات
المتحدة والسعودية) .
هذه الحقائق وأمثالها، تجعل الشعوب العربية لا تثق برؤسائها، إلا أن
المكابرة وحب الجاه من البعض ومنهم علماء البلاط ومثقفي السلطة، ما
يزالون يحفّون بأولئك الرؤساء ويلمعون قراراتهم، ويراهنون بهم على
مستقبل أبنائهم الذي يكاد لا يبصر أي نور للعزّة إلا من خارج تلك
الأطر.
وفي هذا السياق، فكلما انبرى أنصاف المثقفين بأقلامهم السوداء في
الصحف الصفراء، وعلماء البلاط من فوق منابر السوء في مساجد ضرار،
مجتهدين في النيل من القادة الذين انتهجوا نهج الإمام الحسين(ع) في
عزتهم، كرجال المقاومة في لبنان والعلماء الربانيين من الفقهاء أصحاب
البصائر القرآنية، أثبت لهم الزمان خلاف ما يدّعون وما يتخرّصون،
وينقلب السحر على الساحر، وينبئهم الواقع بأن العزة مازال لها أهل
ومازال يرفع رايتها رجال، لتعي الشعوب هذه الحقائق وتستفيد من الفتن
التي تمر بها وتكتشف من خلالها معادن الرجال.
فغزة اليوم شاهدة على واقع الأمة المرير، عسى أن تبصرنا بمواطن
الخلل في خياراتنا الفكرية، وفي ومواقفنا السياسية تجاه من يتسنّم
السلطة في هذه البلاد.
www.mosawy.org |