ان العراق الجديد الذي يحتاج الى ثقافة جديدة، لا بد ان تعتمد
التغيير الذاتي اولا.
هذا ما اتفقنا عليه في الحلقات الماضية من هذه القراءة.
الناس ازاء التاريخ على ثلاثة انواع:
الاول، هو الذي يقف عند التاريخ، بمعنى انه يتكرر عنده كل يوم،
فالحاضر نسخة طبق الاصل للماضي، وان كل ما لم يسجله التاريخ، بدعة، وكل
بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
النوع الثاني، هو الذي يكفر بكل شئ اسمه تاريخ، اي انه محى الماضي
من ذاكرته، فلم يعد يعترف به او يتعامل معه.
اما النوع الثالث، فهو الذي ينظر الى التاريخ بعين الحاضر، اي ان
الماضي بالنسبة له دروس للحاضر.
لن اناقش النوعين الاول والثاني من الناس، فهؤلاء حجتهم باطلة،
ولذلك لا اريد ان اشغل نفسي والقارئ الكريم بباطل لا طائل من ورائه.
انما الذي اريده هنا هو الحديث عن النوع الثالث من الناس، وهم،
بالمجمل، العقلاء من بني البشر، الذين يتعلمون من التاريخ دروسا وعبرا،
لان {الاعتبار منذر ناصح} على حد قول امير المؤمنين عليه السلام،
ويتعلمون من الماضي تجارب ثرة يغنون بها حاضرهم، فيستفيدون من النجاحات
ويوظفونها لتكرارها في حياتهم اليومية، ويتعلمون من اخفاقاته ما يجنبهم
الفشل والتخلف والتراجع، وتاليا، يجنبهم ضياع الزمن والطاقات التي
يصرفها الجهلة على قضايا فاشلة سلفا، فقط بسبب انهم لم يقراوا التاريخ
ولم يستحضروا عبره ودروسه وتجاربه.
الذي يبعث على القلق هو ان النوع الثالث يخطا احيانا في التعامل مع
التاريخ، بالرغم من ان اصل المنهج الذي يتبعه هذا النوع صحيحا وليس فيه
خطا، انما بحاجة الى ترشيد من اجل ان لا يخطا في علاقته مع التاريخ،
الذي اعتبره، انا شخصيا، كائن حي يتحسس الحاضر، ويفكر بالمستقبل.
وبرايي، فان الترشيد يبدا من الملاحظات التالية:
اولا: يقول العقلاء، ان كل شئ في هذا الكون، وكل حركة وسكنة للانسان،
يفترض ان يكون لها اثر في حياة الانسان، والا فهي عبث ينبغي للعاقل ان
يتجنبه.
فاذا ما حصل المرء على شغل افضل لمدخول شهري افضل، ينبغي ان يرى اثر
ذلك على حياته اليومية، وعلى اهله واولاده، مثلا، سواء بالجانب المادي،
او الجانب المعنوي، لا فرق.
وهكذا اذا حصل الانسان على شهادات علمية اعلى او على موقع رسمي افضل،
وما اشبه.
كذلك، فاذا قرا المرء كتابا او طالع مقالا او سمع بخبر او حضر مجلسا
بحثيا او محاضرة او اطلع على صور، فان كل ذلك يفترض ان يكون له اثر
عليه، اي يجب ان يرتب المرء اثر ما على كل ذلك، والا فكل ما ذكرناه
سيذهب هباءا منثورا.
فالعاقل يرتب على كل تطور في حياته اثرا ايجابيا، كما انه يرتب على
كل انتكاسة في حياته اثرا سلبيا، من خلال التوقف لمدة معينة للانطلاق
مرة اخرى مستفيدا من الانتكاسة او الفشل.
غير العاقل لا يرتب اثرا لا على التطور الايجابي ولا على التراجع،
فالامران عنده سيان، لا يؤثران عليه وعلى تفكيره وتدبيره، ولذلك فهو،
بالمحصلة، فاشل لا يتقدم ولا يتطور.
ذات الشئ ينسحب على التاريخ وينطبق على الماضي، فمن المفترض اننا
نقرا التاريخ، بايجابياته وسلبياته، لنرتب عليه اثرا في حياتنا اليومية،
ولتوضيح الفكرة، اقول:
نحن عندما نقرا تاريخ الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه
السلام، وندرس حياته الشريفة، ينبغي ان نرتب اثرا على ذلك، فنتعلم منه
الشجاعة وسعيه لاقامة العدل وتحسسه من الظلم ومساواة نفسه مع اضعف
الناس ونظافة يده التي كانت اامن يد على المال العام، وغيرها من الخصال
العظيمة التي تميز بها عليه السلام.
اما انك ترى الواحد منا يتخاصم مع هذا وذاك دفاعا عن امير المؤمنين
عليه السلام، ضد معاوية بن ابي سفيان، من جهة، ولا تلمس في سلوكه الا
كل ما تركه الاخير، من صفات سيئة كالنفاق والعدوان والظلم والمكر
والخديعة والولوغ بدماء الابرياء والتآمروما الى ذلك، فلا يعني هذا الا
انه لم يفهم من التاريخ الا كلاما فارغا لا يغني ولا يسمن من جوع.
مثل هذا المرء، علوي في ثقافته الا انه اموي في تعامله اليومي
وممارساته مع الاخرين، فماذا نفعه التاريخ اذن؟ انه لم يرتب اثرا على
ما يقرا من عبر التاريخ وقصصه.
يجب ان يكون التاريخ بالنسبة لنا عبر ودروس ونموذج يحتذى، وبذلك
نكون قد استفدنا منه، فلا نحن توقفنا عنده لنجتره بلا فائدة، ولا نحن
قراناه وتخاصمنا حوله بلا التزام.
فلا يكفي ان نفخر ببطولات امير المؤمنين او ان نأسى على استشهاد
الحسين السبط، اذا لم نقرا سيرهم ونتمثلها بما ينفعنا لحاضرنا
ومستقبلنا، وكل هذا بحاجة الى ان نغير ثقافتنا وطريقة تفكيرنا، من
ثقافة الماضي، الى ثقافة الحاضر والمستقبل، فالله تعالى عندما قص كل
هذا التاريخ في القران الكريم، ليس لانه كتاب قصص وروايات وماضي سحيق،
ابدا، وانما لان في القصة عبرة وفي التاريخ درس وفي الماضي حاضر
ومستقبل.
لقد راينا في حياتنا كثير من الناس يعشق الحسين عيه السلام ويأسى
على مقتله ويذم الطاغية يزيد على فعلته الشنيعة بقتله ابن بنت رسول
الله (ص) الا انه يزيدي في افعاله واموي في صفاته، فاي حب هذا للتاريخ؟
واي احترام هذا للحسين عليه السلام؟.
يقول امير المؤمنين عليه السلام يصف مثل هذه النماذج السيئة بقوله {يحب
الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض المذنبين وهو احدهم} ثم يضيف {يصف
العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتعظ، فهو بالقول مدل، ومن
العمل مقل} ثم {يرشد غيره ويغوي نفسه، فهو يطاع ـ بضم الياء ـ ويعصي،
ويستوفي ولا يوفي}.
ان من يحب احدا يتقمص شخصيته، وان من يقدر تضحية احد يحترمها
بافعاله وليس بعواطفه فقط، ولاننا نقرا بعواطفنا ولا نقرا بعقولنا،
لذلك راينا كيف ان حالنا يتدهور الى الوراء من دون ان نستفيد من عبر
التاريخ وتجارب الماضي شيئا، والا بالله عليك قل لي هل يعقل ان يحكمنا
مخلوق كالطاغية الذليل صدام حسين ونحن الذين نمتلك الامام الحسين السبط؟
الا ان يكون هنالك خطا في فهمنا له عليه السلام؟.
ثانيا: لا يشك اثنان على اننا، كأمة، ورثنا تاريخا مزيفا الى درجة
كبيرة، حتى بتنا ضحية عملية تضليل تاريخية كبرى، اشترك في صياغة فصولها
السلطات الظالمة التي استفادت من عملية التزييف هذه، تساعدها جوقة من
فقهاء البلاط واصحاب الاقلام الماجورة التي باعت آخرتها بدنيا غيرها،
فظلت تزور وتغير وتقلب الحقائق حتى وصل الينا تاريخ يختلف كليا عن
حقيقة ما جرى آنئذ، وهذا الامر ينطبق على التاريخ الغابر والقريب.
والاخطر من هذا، هو اننا بنينا وعينا وفهمنا، وتاليا حاضرنا
ومستقبلنا على هذا التاريخ المزور، وكان الامة وقفت على راسها لتفكر
بقدميها، ولذلك انقلبت عندنا المفاهيم وتبدلت عندنا الحقائق، واستبدلت
عندنا المصطلحات، فالنجاح عندنا فشل، والفشل عندنا نجاح، والاستبداد
عندنا ديمقراطية والحرية عندنا عبودية، وهكذا.
والاشد خطرا من هذا وذاك، هو ان من يحاول تصحيح بعض فصول التاريخ،
من خلال التذكير بالحقائق او الاشارة الى بعض التزوير، يتهم في دينه
ويخون ويشهر به اعلاميا، وكان الامة رضيت ان تنام على الغش فهي تطرب
على الخداع وترقص على التزوير.
فلماذا يتصدى البعض لاية محاولة للتذكير بمثل هذا التزوير؟.
سنعرف الجواب اذا عرفنا مقدار حجم استفادة مثل هؤلاء، حكام جور
كانوا او فقهاء بلاط او اقلام بلا ضمير، من هذا التاريخ المزور، فبه
يبرر الحكام ظلمهم وجبروتهم لاسكات الشعوب، وبه يسرق فقهاء البلاط عقول
الامة ليسيروا خلفهم بلا عقل وادراك، وبه يظل (جيش المثقفين) جالسا على
مائدة اللئام من الانظمة الشمولية الاستبدادية التي تتحكم برقاب ومعاش
الناس ظلما وعدوانا.
انهم يبررون واقعهم الشنيع بالتاريخ المزور، ولذلك يرفضون التنبيه
اليه، وتصحيحه، فالحاكم الفاسق يبرر شرعية حكمه بفسق (خليفة المسلمين
وامير المؤمنين) يزيد بن معاوية، والانظمة الوراثية تبرر شرعيتها به
كذلك، واللصوص المسلحون (قادة الانقلابات العسكرية) يبررون فعلتهم
الشنيعة بافعال (خلفاء المسلمين) الامويين والعباسيين والعثمانيين
الذين كانوا يتقاتلون فيما بينهم للاستيلاء على السلطة، فكان الولد
يتآمر على ابيه، ويقتل الاخ اخيه والام احد ولديها لتمكن الاخر من
الجلوس على عرش الخلافة (الاسلامية).
انهم يوظفون اسوا التاريخ لتبرير اسوا الواقع، فتراهم، مثلا،
يتشبثون بشرعية الطريقة التي تسمى بـ (القهرية) لتولي (الخلافة) وهي
التي ينالها صاحبها بالقهر والغلبة والقوة والبطش، لتبرير تسلطهم على
رقاب الشعوب بالقهر والقوة والانقلابات العسكرية، فلا احد يتحدث عن
صندوق الاقتراع او الديمقراطية او مبدا التداول السلمي للسلطة، او مبدا
تكافؤ الفرص في تولي السلطة، واذا حاول شعب من الشعوب ان يجرب كل ذلك
انهالوا عليه بالسيارات المفخخة والاحزمة الناسفة لتدمير تجربته التي
يظنون انها ستكون نموذجا يفسد عليهم احلامهم السلطوية، كما هو الحال
بالنسبة للشعب العراقي الابي، الذي صمم على تغيير المعادلة والانعتاق
من ربقة الانظمة الاستبدادية الشمولية والديكتاتورية التي تعتمد حكم
الاقلية، او السرقات المسلحة (الانقلابات العسكرية).
ولقد كدت مرة ان انفجر من الضحك واموت، وانا اقرا لاحد (مثقفي
البلاط) مقالا يبرر فيه ما سمي بنظام البيعة الذي صدر العام الماضي في
المملكة العربية السعودية، والخاص بتنظيم عملية نقل السلطة بين امراء
الاسرة الحاكمة، بقصة (السقيفة) في التاريخ، محاولا اقناع القارئ بان
شرعية هذا النظام مستمدة من شرعية (السقيفة).
وهكذا هي الانظمة غير الشرعية الحاكة في بلداننا الاسلامية ومنها
العربية، التي تسخر الاقلام الماجورة من اجل تزوير الحقائق، وتاليا
توظيف هذا التزوير لتبرير واقعها، واضفاء الشرعية عليها، ولذلك ذم ائمة
اهل البيت عليهم السلام وفضحوا الفقهاء الذين تقربوا من السلطات
الظالمة، الاموية تحديدا، وقاموا بتاويل النصوص الدينية لتكون اداة
لتبرير السياسة الظالمة التي تسير عليها السلطات المنحرفة.
اعرفتم الان لماذا يرفضون المس بالتاريخ المزور؟ ولماذا نراهم
يقيمون الدنيا ولا يقعدونها اذا ما غمزباحث منصف بقناة هذا التاريخ؟.
اننا اذا اردنا ان نستفيد من التاريخ، علينا ان لا نقراه تقديسا او
تعسفا، بل تعلما، على حد قول علي بن ابي طالب عليه السلام، الذي قال
لسائل ساله عن معضلة {سل تفقها، ولا تسال تعنتا}، والا {ما اكثر العبر
واقل الاعتبار} على حد قوله عليه السلام.
ثالثا: ان من غير المنطقي ان نظل اسرى الماضي، وسجناء التاريخ
الغابر، بل يجب ان يكون التاريخ بالنسبة لنا منطلقا للمستقبل من خلال
الحاضر، ولا يمكننا ان نحقق ذلك الا بحركة وعي حقيقية للتاريخ،
لنستحضره دروسا وعبرا وليس قصص وروايات نتغنى بها.
وبتدبر سريع لكل الايات الكريمة التي تتحدث عن تاريخ الرسل
والانبياء وقصص الامم والشعوب والقرون الماضية، سنلحظ انها تنتهي
بالعبارات التالية {لقوم يتفكرون} {لقوم يعتبرون} {لاولي الالباب}
وغيرها من العبارات التي تدلل بشكل واضح على الوعي المستند على العقل
المنفتح غير المنغلق، القادر على استيعاب الماضي دروسا للحاضر
والمستقبل، فلقد لخص القران الكريم فلسفة سرد التاريخ في آياته بقوله
عز وجل في الاية 176 من سورة الاعراف {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} وفي
الاية 111 من سورة يوسف {لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب}.
ان كل قصة تاريخية او واقعة او حدث تاريخي، يجب ان يكون له اثرا في
حياتنا، فاما ان يقربنا من نجاح او يجنبنا فشلا، بمعنى آخر، يجب علينا
ان نرتب اثرا على ما نقراه من التاريخ، بما يحسن من حياتنا وبما يقلل
من خسائرنا ومصائبنا، فالتاريخ محذر امين وان {من حذرك كمن بشرك} كما
يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام.
يجب ان يكون التاريخ بالنسبة لنا هو التحدي الاكبر لاحداث التغيير
المطلوب، وصدق امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام عندما قال {قد
بصرتم ان ابصرتم، وقد هديتم ان اهتديتم، واسمعتم ان استمعتم} بمعنى آخر،
فان التاريخ يمكن ان يكون هاديا لنا ان كانت عندنا ارادة الاستيعاب
بعيدا عن الحب والبغض، او التفقه والتعنت.
وان تحقق كلمة (يتفكرون) الواردة في الاية السابقة الذكر، يتم من
خلال قراءة التاريخ بعقول الحاضر، وحاجاته وضروراته وادواته ومتطلباته.
نحن لا نريد التاريخ قصصا للعبث واللهو او لتضييع الوقت، كما اننا
لا نريده ان يخدرنا لننام على طريقة قصص جداتنا العجائز اللائي يقصصن
القصص ليغفو عليها الصغار، ابدا، بل اننا نريد التاريخ كهزة توقظنا من
النوم ونصحو عليها من غفوتنا التي طالت كثيرا، حتى عدنا في آخر قافلة
المجتمع البشري وعلى مختلف الاصعدة.
تعالوا نقاطع التاريخ الذي لا يؤثر في حياتنا اليومية، ولا نعير
اهتماما للماضي الذي لا نلمسه دروسا وعبرا للحاضر، ونضرب بوجوهنا صفحا
عن كل قصة من التاريخ لا نجد فيها ما يساعدنا على انجاز افضل او نجاح
جديد.
فالتاريخ الذي بهذه الصفات، نوع من العبث الذي يجب ان لا نشغل
انفسنا به.
رابعا: ولان التاريخ تجارب وعبر، لذلك علينا ان نقراه بطريقة جديدة،
تساعدنا على ترتيب الاثر المطلوب منه على حياتنا اليومية.
ارايتم بعض الناس الذين يقراون التاريخ لا ليستفيدوا منه وانما
ليفتخروا به او لينتقصوا به من الاخرين، تعييرا او ذما، وما ينفعنا ذلك؟.
اننا بحاجة ماسة الى اعادة صياغة طريقة فهمنا للتاريخ، وليس فقط
بحاجة الى اعادة قراءة التاريخ.
ومن اجل تحقيق هذا الامر، علينا ان نقرا التاريخ ببصيرة، فلا نصدق
كل ما نقراه ولا ننقل كل رواية تسردها كتب التاريخ، ولا نجمد عقولنا
على ما نقراه حرفيا، بل يجب ان نناقش ما نقرا ونحاور ما نسمع، والا
فسنتحول الى (نقالة) للتاريخ والحديث والقصص ليس اكثر، فنصدق كل ما
نقرا ونسمع، واذا ما اصطدم بعضه او كله بمتبنياتنا وثوابتنا، كذبنا
الحقيقة وصدقنا ما قراناه، على طريقة ذاك الذي صادف صديقه في طريقه،
فساله متعجبا، اانت فلان؟ فاجابه نعم، فرد عليه، ولكن قيل لي بانك قد
مت؟ فاجابه صاحبه، ولكنك تراني امامك بلحمي وعظمي، فرد عليه الرجل،
ولكن الذي نقل لي الخبر ثقة لا يكذب؟.
ايها الباحثون، ايها الكتاب، ايها الخطباء، ايها العلماء، رحمة
برسول الله (ص) لا تنقلوا عنه كل ما يخطر ببالكم، من روايات ضعيفة وقصص
هزيلة تطعن به وتسفه ديننا اكثر من ان تخدمه، كذلك، رحمة بالحسين عليه
السلام، فلا تنقلوا كل شاردة وواردة عن كربلاء وعاشوراء مما يوهن
التشيع ويقلل من قدر النهضة الحسينية.
دققوا بما تريدون ذكره على المنابر، ومحصوا ما تريدون سرده في
المجالس، فانها، والله، لمسؤولية عظمى ستحاسبون عليها يوم القيامة اذا
ما تحولتم الى سبب لوهن المذهب وتضعيف الطائفة والتقليل من شان الدين
ورسوله.
ان العالم اليوم بات قرية صغيرة، وان من يرتقي المنبر في حسينية
يشاهده العالم عبر الفضائيات، ولذلك يجب ان ينتبه الخطيب الى ما يقول،
ويحسب لكل حرف حسابه قبل ان ينطقه، فهو اليوم لم يتحدث الى فئة معينة
معروفة بولائها لما يريد قوله، بل ان العالم يسمعه، ولذلك يجب ان يكون
كلامه موزونا من الناحية الشرعية والعقلية والمنطقية ليؤثر في كل
المستمعين، او هكذا يفترض، وان لم يكن شيعيا او حتى مسلما.
ان في كتب التراث والحديث والتاريخ ما يندى له الجبين، مما روي عن
رسول الله (ص) فاذا اردنا ان نتحدث به على علاته فسنظلم رسول الله (ص)
ايما ظلم، وسنوهن الاسلام ايما وهن، ولذلك كله يجب ان نتعامل مع
التاريخ بعقل ودراية ومنطق، وبفلترة ذاتية، كل حسب قدراته العلمية.
ان التاريخ تجربة انسانية، وهو ليس مقدسات او نصوص سماوية، ولذلك
فاذا تعارض مع العقل او المنطق او السياق العام، او حتى مع متبنياتنا،
يجب ان نضربه عرض الحائط ، شرط ان نكون من ذوي الاختصاص، اذ لا يحق لكل
من هب ودب ان ينتقي من التاريخ ما يشاء ويرفض ما يشاء، والا لما بقيت
قيمة للتاريخ ابدا.
يجب علينا ان نقرا النصوص التاريخية، بالطريقة التي امرنا بها امير
المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام الذي يقول {اعقلوا الخبر اذا
سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فان رواة العلم كثير ورعاته قليل}
وكذلك قوله عليه السلام {عليكم بالدرايات لا بالروايات} فان {همة
السفهاء الرواية، وهمة العلماء الدراية} على حد قوله عليه السلام.
اذن، نحن بحاجة الى ان نقرا تاريخ الماضين ونفهمه ونعيه كما وعاه
امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، والذي يصفه بقوله لابنه
الامام الحسن السبط عليه السلام في وصيته له {اي بني، اني وان لم اكن
عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في اعمالهم، وفكرت في اخبارهم، وسرت في
آثارهم، حتى عدت كاحدهم، بل كاني بما انتهى الى من امورهم قد عمرت مع
اولهم الى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك
من كل امر نخيله، وتوخيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله، ورايت حيث عناني
من امرك ما يعني الوالد الشفيق، واجمعت عليه من ادبك ان يكون ذلك وانت
مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة، ونفس صافية}.
وبهذه الطريقة سيكون للتاريخ اثره على حاضرنا ومستقبلنا، وبها سنرتب
اثرا على كل ما نقراه من التاريخ، وبها سوف لن نتوقف عند الماضي وانما
سيتحول الى اثر يساهم في تغيير حالنا الى الافضل والاحسن.
خامسا: ان التاريخ وحدة واحدة، وكل لا يتجزا، لا يجوز لنا ان
نقطع اوصاله، فناخذ ما نحب ونترك ما لا نحب او نكره، او ان نتداول ما
يعجبنا ونطمس اثر ما لا يخدم مصالحنا.
علينا ان نستحضر التاريخ، كل التاريخ، من اجل حاضر افضل ورؤية
مستقبلية واعدة، وهذا بحاجة الى ان نقبل به ككل غير مجزأ، لنفهم دروسه
بشكل صحيح، وبهذا فقط سيكون التاريخ من اجل التغيير.
ان البعض منا يجزئ كتاب التاريخ الى فصول يوزعها على جيوب بدلته،
يستل منها ما يريد عند الحاجة، وبما يخدم مصالحه ويثبت به صحة ما يريد
قوله للناس، وهذا امر خطا وخطير في نفس الوقت، فهي طريقة ماكرة للي عنق
التاريخ بما يخدم الذات وليس المصلحة العامة.
اخيرا، احفظوا هذه الحكمة على لساني:
فالامة التي تتعامل مع التاريخ بعين الحاضر، لا يتكرر عندها التاريخ،
ولذلك فهي في تقدم مستمر، اما الامة التي تقدس تاريخها وكانه لوحة
زيتية معلقة على الجدار تتبرك بها الاجيال، فترفض المساس به او نقده،
لهي امة يعيد التاريخ نفسه معها كل مرة، ولذلك تبقى متاخرة لا تتقدم
ابدا.
الامة الاولى تقبل التجديد والتغيير والتطوير، فهي (لا تلدغ من جحر
مرتين) اما الثانية، فهي امة {انا وجدنا} عصية على التغيير ابدا، ولذلك
فهي (تلدغ من جحر مليون مرتين) فمن ايهما نحن؟.
[email protected]
.......................................
من الحلقات السابقة:
اولا: ثقافة الحياة
ثانيا: ثقافة التعايش
ثالثا: ثقافة المعرفة
رابعا: ثقافة الحوار
خامسا: ثقافة الجرأة
سادسا: ثقافة الحب
سابعا: ثقافة النقد
ثامنا: ثقافة الحقوق
تاسعا: ثقافة الشورى
عاشرا: ثقافة الاعتدال
حادي عشر: ثقافة الوفاء
ثاني عشر: ثقافة المؤسسة
ثالث عشر: ثقافة الحاضر |