ان من أساسيات المهام التي تضطلع بها مؤسسات التربية والتعليم هي
تعضيد الجانب السلوكي لدى الفرد بما يتماشى مع قيم ومعايير وتطلعات
المجتمع، ومما لاشك فيه بان السلوكيات المنحرفة كممارسة الفساد الاداري
في بلدنا العزيز العراق وغيره من البلدان الاخرى انما يتأتى أساسا من
بناء تربوي وتعليمي غير ناهض سواءً على مستوى التنشئة الاسرية او
التنشئة المؤسساتية على اساس ان هذه المؤسسات قد تعتمد على الاجتهاد في
بناء اهدافها التربوية والتعليمية اكثر من اعتمادها على منجزات ونتائج
البحوث العلمية التي تتصدى لدراسة هذه المفاهيم، مما يؤدي هذا الى تبني
السلوكيات الهدامة التي نلحظ ممارستها في شتى ميادين وقطعات ومؤسسات
الدولة في العراق.
اننا عندما نتصدى لمفهوم الفساد الاداري نلمس بان هذا المفهوم قد
تعددت تعاريفه وتحديداته وفقا للمنطلقات الفكرية والايدلوجية التي
تناولته بالبحث والتقصي بالاضافة الى اتساع نطاق الاهتمام به رغبةً في
معالجة اثاره السلبية والقاتلة لحياة المجتمع وروحه لانني في حقيقة
الامر ارى بان الفساد الاداري اكثر خطورة من الارهاب نفسه، وذلك لما له
من إسقاطات سلبية على نمو المجتمع وتقدمه وتطوره، وكذلك لما يلاقيه
افراد المجتمع من احباطات متكررة نتيجة لهذا الفساد والتي تؤدي الى
تدني روح الانتماء للوطن وقتل روح الدافعية لدى الافراد المتعلقة
بالبناء والابداع.
يرى كل من كادن وكادن ( Caiden & Caiden, 1977)، ان الفساد الاداري
يتجسد في الانحراف عن قواعد العمل الملتزمة في جهاز اداري، وهذا يعني
فقدان السلطة القيمية مما يؤدي الى اضعاف فاعلية الانشطة الادارية.
ويعرف ورلن ( Werlin, 1994 ) الفساد الاداري بانه حالة تعطي فيها
الافضلية للولاء للمصالح الخاصة مقابل المصالح العامة، واعتقد ان رولن
قد وفق الى درجة كبيرة في ابراز هذا المفهوم بجزالة على اعتبار ان
ممارسة الفساد الاداري ينطوي على انانية عند الفرد وهي مايمكن التعبير
عنها بانانية الغرائز الحيوانية التي تقصي تطلعات وصيحات الضمير
واعتراضاته، من حيث انها تلغي التحسس والتفكر بالحق والباطل وبالصالح
والطالح وتندفع باندفاعات غريزية تبرز فيها قوة (الهو) كما يصورها
فرويد بحيث تتغلب على قوة كل من (الانا) و (الانا الاعلى) وهذا مما
يجعل الفرد الذي يتعامل بمثل هذه الانشطة الفاسدة غير مكترث بواعز من
ضمير او بروح القيم والمعايير والمعتقدات الاجتماعية السائدة.
ويشير هيدنهيمر( Heidenheimer, 1989) الى ان الفساد الاداري قد
يتجسد في ثلاث مفاهيم اولها يكمن في الاستخدام غير المشروع للمركز
الوظيفي والحكومي ترويجا لمصالح خاصة ، وهذا مانرى البلاد تعج به مع
الاسف الشديد نتيجة للمحاصصة المقيتة والتي تلغي الكثير من روح
الانتماء والعمل الجماعي للنهوض بهذا البلد الجريح.
اما المفهوم الثاني فهو تبادل معطيات مادية او غير مادية لقاء
تاثيرات غير مبررة على قرارات الادارة الحكومية، والثالث هو التعارض مع
مصالح عامة او قواعد سلوكية عامة ترويجا لمنافع خاصة ، وان هذا الترويج
للمصالح الخاصة على حساب مصلحة المجتمع تراه جليا عند الذين لديهم قصور
على مستوى التنشئة الاسرية والمدرسية وخاصة عند غياب الرقابة الحكومية
وعند ضعف احتمالات الادانة والعقوبة على اعتبار ان مبدا الثواب والعقاب
يلعب دورا اساسيا وفعالا في تحديد وتصويب سلوك الافراد، ولكن اغتراب
الاحزاب الحاكمة في العراق وضعف انتمائها الوطني يجعل كل حزب يدافع عن
سراقه ومفسديه وهنا تكمن الطامة الكبرى فلازلنا لحد هذه اللحظة غير
قادرين من رفع الحصانة عن المفسدين والمخربين في مجلس النواب مثلا وهم
في مناى عن المسائلة وقد صدق الرسول (ص) بقوله( يأتي زمان على امتي
اذا سرق النبيل فيهم تركوه، واذا سرق الضعيف اقاموا عليه الحد).
اما فيتال ( Vittal, 2001) فانه يرى بان الفساد الاداري هو
الاستخدام غير المشروع للمركز الحكومي والوظيفي ترويجا لمصالح خاصة.
ان فلسفة المجتمعات ومؤسساتها التربوية والتعليمية بما تحمله بين
طياتها من ثقافات ومعتقدات وقيم تعد بمثابة المحددات الاساسية لسلوك
الافراد فعندما تنمو مثل هذه المؤسسات في ظل انظمة تسلطية جائرة لاتؤمن
بالاخرولاتعير اصلا اهتماما يذكر بالتربية والتعليم ومؤسساته، سوف تكون
بالنتيجة مخرجات مثل هذه المؤسسات مخرجات تحوي العديد من الاضطرابات
النفسية والسلوكية غير المتوافقة.
لان القائمين على هذه المؤسسات هم اناس يكتنفهم سوء التوافق
والاضطراب النفسي وهذا في حقيقة الامر ماكان سائدا في تسعينيات القرن
المنصرم ولازالت جذوره تمتد الى الان، حيث نلمس تدني الكادر التعليمي
والذي يعد الاساس في العملية التعليمية والتربوية، على اعتبار ان
مايقوله المعلم في الصف لتلاميذه يعد بمثابة الفتوى لهم، فكيف اذا كان
هذا المفتي يعاني من العلل والاضطرابات النفسية وقلة الخبرة والمعلومات
وفاقد الشئ لايعطيه، وان مثل هذه الانظمة التسلطية لاتبني مجتمعا سليما
ومتعلما وانما تؤسس لممارسات تخريبية تعمل على هدم بنى المجتمع وفي
كافة مجالات الحياة وهذا مالمسناه من خلال معايشتنا لهذه الانظمة
المستبدة والتي لاترى في التعليم والتربية الا كيان يهددها ان نمى
وترعرع ولذا فهي تعمل جادة من اجل قتل الفلسفة التربوية التي ممكن ان
تنتشل المجتمع من غياهب الجهل والتخلف والامية لكي تبقيه مجتمعا غير
متعلم يسهل حكمه والسيطرة عليه، لذا نرى الكثير من المعلمين في تللك
الحقب الزمنية ممن يشتغلون بمهن اخرى كسائقي تكسي او حلاقين حتى يصل
الحال ببعضهم بان يشتغل (صبي قهوه) يقدم الشاي احيانا الى طلابه، ومن
الطبيعي ان كمثل هذه الممارسات تهبط بقيمة المعلم وتدني من مسالة
تقديره لذاته بالشكل الذي ينعكس سلبا على شخصيات طلابه بحيث تكون
النتيجة ان نحصل على العديد من الخريجين لم تعمل التربية والتعليم
عملها في تهذيب سلوكهم او الارتقاء باستعداداتهم العقلية لمستوى
الابداع والابتكار المعول عليه، بل ان هذا النوع من التربية والتعليم
يخرج اجيالا تتعضد فيهم الممارسات الهدامة وعدم الانتماء للذات
والمجتمع.
وبالاضافة الى الدور الاعلامي والذي كان يلعب دورا سالبا في الكشف
عن ممارسات الفساد والتي هي ما اكثرها، وذلك لعدم توفر مناخات الحرية
والديمقراطية في ظل تلك الانظمة والتي تتيح للاعلاميين ممارسة
مسؤلياتهم الحقيقة في اطار قانوني دون خوف او وجل من اجل ان يقولوا
كلمتهم الفصل المعبرة عن المنطق والحقيقة والمستمدة اساسا من العلم
والخبرة والمعرفة والقائمة على الفهم الواعي والدقيق للمسؤلية
والموضوعية والمنطقية والتي ينبغي ان تحكم العمل الصحفي والاعلامي وليس
القائمة على منطق ( القنادر) الذي تنضح به بعض الافكار المعبرة عن
السفه والجهل لما تؤول اليه امور العالم الان، ذلك ان مهمة الصحفي
والاعلامي يجب ان تكون رائدة في مجال التشهير في انماط الفساد الاداري
من خلال التحقيقات التي يتصدى لها ومتابعة وعرض الحقائق المجردة بكل
موضوعية وامانة وعلمية والشاعر يقول:
وما من كــاتب الاستبقى كتابتهُ وان فنيت يــداهُ
فلا تكتب بكفك غيرشيء يسرك بالقيامة ان تراهُ
لقد اشارت الدراسة التي قام بها شحاته ( 2001)، والتي تناولت الفساد
الاداري في الدول النامية ومنها الدول العربية بان هناك اسباب لهذه
الظاهرة تعود الى انحراف او اعوجاج في السياسة الاقتصادية وفي النظامين
القانوني والقضائي، بحيث اصبح هذا الفساد في الدول العربية شيئا معتادٌ
عليه او في كثير من الاحيان مقبولا اجتماعيا، والحقيقة ان عدم تلبية
حاجات الفئات الكبيرة من الناس نتيجة للفساد الاقتصادي واعوجاجه سوف
يؤدي بما لايقبل الشك الى تنامي ظاهرة الفساد الاداري في ميادين
المجتمع كافة لاننا في هذه البلدان نعاني من استعمار داخلي وعلى اختلاف
مسمياته وصوره ( ملكي، حزبي)، هذا الاستعمار الذي يتسلط على ثروات
الناس وخيراتهم ويسمح لنفسه بالتلذذ بهذه الثروات مع حرمان الاخرين من
ابسط متطلبات العيش لهو من اهم الاسباب الكبيرة والهامة التي تؤدي الى
نمو هذه الظاهرة بشكل مستشري وكبير. ورحم الله ابو الحسن علي(ع) وهو
خليفة المسلمين وتحت طائلته ثروات وخيرات البلاد الا انه يقول (والله
لو شئت لتسربلت الدمقس من ديباجكم، واكلت لباب البر بصدور دجاجكم،
وشربت الماء الصافي برقيق زجاجكم، ولكن ماني عليٌ ونعمة لاتبقى وملك
يبلى، اما والله لقد رقعتُ مذرعتي حتى استحيتُ من راقعها وحتى قال لي
قائلٌ: الا تنبذها عنك!! فقلتُ اعزبُ عني فعند الصباح يحمد القومُ
السرى، واللهُ لو شئت لاهتديت الطريق الى مصفى هذا العسل ولبابُ هذا
القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات ان يغلبني هواي ويقودني جشعي الى
تخير الاطعمة ولعل بالحجاز او باليمامة رجل من لاطمع له بالقرص ولا عهد
له بالشبع)...
اسئلكم بالله اين نحن من هذه القيم التربوية التي تشع بالخير
والصلاح وتعضيد ادمية الانسان واين قادتنا الذين يتغنون بقيم الاسلام
في خطبهم الرنانة !! اعلموا ان التعلم والتربية تقتضي تغير في السلوك
وان لم يحدث هذا التغير في سلوكنا وتصرفاتنا سوف نبقى على هامش السيرة
الى ابد الابدين، وهنا ينبغي على مؤسساتنا التربوية في عراقنا الجديد
بان تعي هذه المسالة وتضعها ضمن اولوياتها ان ارادت حقا اصلاح المجتمع
وتعميره.
ان الدراسة التي قام بها تايلر ( Tyler, 1986) اكدت على اهمية واثر
البرامج التعليمية والتربوية في بلورة شخصيات الطلبة بالاتجاهات
الايجابية السليمة.
كما اشار جلنزر ( Glanzer, 1997) في دراسته الى اهمية دور التعليم
والتربية المدرسية وعلى مختلف المستويات في بلورة ذاتية الفرد وان
الخلل والتقصير في دور المؤسسات التعليمية والتربوية يمكن ان يؤدي الى
ظهور ذاتية منحرفة لدى الافراد.
في حين اكدت دراسة ثورن ( Thorne, 2000) على تاثير كل من العائلة
والاصدقاء والمجتمع الكبير في بلورة شخصية الفرد بالاتجاهات الايجابية
اوالسلبية بالاضافة الى تاكيدهُ على ثاثيرات الخزين المعرفي والعاطفي
وميول الفرد بالنسبة لمجالهُ النفسي.
وهناك العديد من الدراسات التي تؤيد على ان اغلبية الذين يمارسون
ظاهرة الفساد الاداري هم كانوا من الطلاب الذين يمارسون الغش في ادائهم
الامتحاني ، حيث تدني جودة ومستوى المؤسسات التعليمية والتربوية تدفع
في حقيقة الامر الى ان يمارس بعض الطلبة الغش لسهولة تعاطية ولتوفر
المناخات التي تساعد على ذلك، حيث تشير هذه الدراسات الى ان مايعتاد
الفرد عليه من سلوكيات خلال مدته العمرية الممتدة بين (18 ـ 25) سنة
وهي عادة ما تكون في المرحلة الجامعية، غالبا مايكون لها امتدادات
سلوكية متشابهه بعد سن الخامسة والعشرين، وهذا يعني ان اعتياد الطلبة
على سلوكيات الغش غالبا مايكون لها امتدادات سلوكية مشابهه تتمثل في
سلوكيات الفساد الاداري، حسب هذه الدراسات، ومن هنا ينبغي على المؤسسات
التعليمية والتربوية ان تتبنى تفعيل الاجراءات التربوية والتعلمية
الحقه خلال المراحل الدراسية المختلفة والعمل على اطفاء مسببات ممارسة
الغش والتي تعد بمثابة الركيزة الاساسية في انحراف الفرد وإحداث لوثة
في بناءه الشخصي والذي ينعكس على أدائه الوظيفي مستقبلا، وهذا يتم من
خلال وجود النوايا المخلصة والتي تعمل على تهيئة ورفد هذه المؤسسات
بالكوادر التعليمية والتربوية التي تمتلك الخبرات المعرفية والنفسية
المؤهلة للعمل في هذا المجال من اجل ان تكون المخرجات التربوية
والتعليمية مخرجات تتمتع بالوعي والحرص والانتماء لهذا البلد العريق
والاسهام في بنائه.
* استاذ جامعي وباحث سايكلوجي
Mezban56@yahoo.se |