بين مجازر غزة وبغداد: مفارقات

علي المؤمن

المشهد الأول:

ردود فعل الاسلاميين الشيعة في العراق تجاة العدوان الصهيوني على غزة؛متميزة في حجمها ونوعيتها. فكل أطيافهم وفئاتهم عبّرت عن سخطها واستنكارها للممارسات الهمجية الاسرائيلية، وتعاطفها الكبير مع الفلسطينيين. وتمظهر ذلك في التظاهرات الغاضبة التى خرجت في مدن الوسط والجنوب، وخطب ائمة الجمعة والجماعة، والبيانات التي أصدرتها المرجعيات الدينية ومؤسسات الدولة والتنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وفي المقدمة بيانات الامام السيستاني ورئيس الحكومة نوري المالكي ورئيس الحكومة السابق ابراهيم الجعفري ورئيس كتلة الائتلاف في مجلس النواب السيد عبد العزيز الحكيم وزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر،اضافة الى بيانات الحوزة العلمية في النجف الاشرف والمجلس الاعلى الاسلامي، وحزب الدعوة وتيار الاصلاح وحزب الفضيلة والتيار الصدري.

وبالرغم من الضغوطات المعيشية التي يعيشها العراق فإن حكومة المالكي أرسلت كميات كبيرة من المساعدات الطبيبة والغذائية والعينية. وانتشرت حملات جمع التبرعات في الشوارع.وخصصت فضائيات الفرات وآفاق والمسار والغدير والسلام وغيرها (وهي قنوات اسلامية شيعية عراقية تابعة للأحزاب الحاكمة) برامج مفتوحة يومية لعرض المشهد الغزاوي بكل تفاصيلة، وكانت تستقبل الاتصالات من المشاهدين الذين تراوحت أرائهم بين شتم الصهاينة والبكاء على أهل غزة والدعاء بنصر  الفلسطنيين واستنكار مواقف الحكام العرب . وكان اللافت للنظر هتافات المشاركين في مجالس عزاء  الامام الحسين ودعوة خطباء هذة المجالس بالزحف لتحرير فلسطين. وكان هذا المشهد مكملاً لمواقف الاسلاميين الشيعة في البلدان الاخرى، ولاسيما لبنان والكويت وايران وافغانستان وباكستان والهند والسعودية وأذربيجان واوروبا وامريكا والبحرين وغيرها.

وأمام حزني على أهلنا في غزة، وتعاطفي مع مقاومتها ، واستنكاري لوحشية الصهاينة، وغضبي من المواقف الباهتة أو المتواطئة لكثير من الحكام العرب، فإنني كنت أشعر بسعادة بالغة للمواقف الرسمية والشعبية التضامنية  للاسلاميين الشيعة العراقيين مع اشقائهم في فلسطين؛ حتى أشعرني تشدد بعض هذة المواقف ان شيعة العراق هم فلسطينيون اكثر من الفلسطينيين أنفسهم.هذا ما كان يقولة أيضاً بعض المراقبين.

ولم تكن مجرد مظاهر التعبير هي التي تسعدني فقط ، بل يسعدني أكثر قدرة العراقيين على تجاوز الحواجز النفسية الرهيبة التي صنعتها مواقف بعض الطائفيين، وقسم منهم من الداخل الفلسطيني؛ حيث صدرت فتاوى ودعوات تبيح دماء شيعة العراق، وتصف مرجعياتهم الدينية وحكامهم وأحزابهم بأبشع الصفات؛ أيسرها انهم عملاء الأمريكان وذيول الصفويين. نعم.. أسعدني كثيراً تجاوز العراقيين لهذا الواقع الموجع. وأسعدني أيضاً عضهم على جراحهم ونسيانهم سرادقات مجالس العزاء التي أقيمت لصدام حسين بعد اعدامه ومواكب التشييع الرمزية له ورفع صوره في كل مكان من الارض المحتلة. هذا الرجل الذي ترك في كل بيت في العراق نائحة وصراخاً، وقتل ما لا يقل عن مليون عراقي، ومثلهم من الايرانيين وآلاف الكويتيين ومئات العرب. كنت أشعر بالفخر، وكانت عيناي تذرفان نوعين من الدموع: دموع الألم على أهلنا في غزة، ودموع الفرح لموقف أهلنا في العراق.

المشهد الثاني:

اجماع فلسطيني وعربي واقليمي على تجاهل المواقف الرسمية والشعبية العراقية. فلم تشر أي من وسائل الاعلام الى بيان أو تظاهرة أو دعم أو تضامن للاسلاميين الشيعة العراقيين تجاه أشقائهم في غزة. حتى بيان المرجع الديني الأعلى للشيعة في النجف الاشرف الامام السيستاني الذي تضمن فتوى بوجوب تقديم الدعم لأهل غزة وردع الصهاينة؛ تم تجاهلها بالكامل، بالرغم من انها فتوى لا يرقى اليها ما صدر عن الأزهر الشريف أو مشايخ السعودية.

وحين دأبت وسائل الاعلام على ذكر مساعدات الحكومات العربية للغزاويين؛ فانها ظلت تتجاهل مساعدات الحكومة العراقية. وهو ما يذكر بالتجاهل الاعلامي لمبلغ الـ (30) مليون دولار التي قدمتها حكومة المالكي الى لبنان خلال العدوان الاسرائيلي في تموز 2006.

المشهد الثالث:

انتحارية تكفيرية ترتدي حزاماً ناسفاً، يفجر نفسه ظهر يوم الأحد(4/1/2009) وسط تجمع لمعزّين بذكرى الامام الحسين بن علي قرب مرقد الامام موسى بن جعفر في مدينة الكاظمية ببغداد؛ مما ادى الى تناثر اشلاء عشرات الرجال والنساء والاطفال، في مشهد رهيب، لا يقل وحشية عن المشاهد التي كان يصنعها صدام حسين ، أو التي يصنعها الصهاينة اليوم في غزة. والمحصلة: مجزرة كبيرة شهداؤها أربعون وجرحاها ثمانون . هذه الانتحارية- دون شك- دفعتها فتاوى التكفير والقتل وتحريض الطائفيين الى هذا العمل؛ واّلا كيف تجرؤ على قتل نساء واطفال معزين يرتدون السواد في الشهر الحرام في مكان ديني.

حينها كنت أتصور ان حمرة دماء أتباع آل البيت في بغداد لا تقل حمرة عن دماء أبناء غزة! بل كنت أفكر انهم جميعاً مسلمون سواسية في حرمة الدم وقدسية العرض. وبناءً عليه توقعت أن يتفاعل الجميع مع مجزرة الكاظمية كما يتفاعلون مع مجازر غزة. أو يكون هناك نوع من التعاطف الانساني الفطري مع حادث الكاظمية. ولكن أفرز الواقع ما يتعارض مع تلك التصورات والتوقعات. إذ ظل السكوت هو الحاكم على أجواء رجال الدين والسياسين والاعلاميين في المحيط العربي والاقليمي، وكأنه علامة رضا على مجزرة الكاظمية، أو انه – في أحسن الحالات- تجاهل للحادث؛ بالرغم من ضخامة حجمه وبشاعة مضمونه.

المشهد الرابع:

كلنا مسلمون .. ذمتنا واحدة ودمنا حرام.

انها دعوة للتضامن والتكاتف ونبذ الدعوات الطائفية، وأية دعوات تفرق أتباع محمد بن عبد الله (ص). فأما ان نكون أعضاء في جسد واحد، أو لا يكون بعضنا أعضاء وأخرون مسخّرين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 11/كانون الثاني/2009 - 14/محرم/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1429هـ  /  1999- 2008م